تأمُلات
كمال الهِدَي
. حين طالعت تصريح وزير إعلام (البرهان) زاعماً أن السودان دولة رائدة في العدالة، وأن الحكومة لا تأخذ الناس بالشبهات، بل تحاسبهم وفقاً للقانون قلت لنفسي هذا لا يمكن أن يجد له المرء وصفاً سوى (الكذب البليد).
. وذلك لأن الوزير إعلامي نفترض إدراكه لقاعدة أن الصورة أصدق من الكلمة التي تُكتب.
. ومنذ بدء هذه الحرب العبثية شاهدنا بأم أعيننا عدداً من الفيديوهات التي تصور إعدامات فورية على قارعة الطريق لمن يتهمهم أفراد كتائب الكيزان (المتجيشين) بالتعاون مع الجنجويد.
. وفي اليومين الأخيرين تابعنا فظائع لا تحدث حتى بين الحيوانات في الغابات، كما سمعنا من يقول " كل متعاون حا نوديه البحر"، ولم يكن القائل قاضياً ولا وكيل نيابة.
. وسبحان الله فإن من ألقوا جثث أولادنا في البحر بعد فض الإعتصام كانوا جيش وجنجويد وأمن وكتائب كيزانية، وبالرغم من ذلك إنقسم السودانيون مع بدء هذه الحرب لمعسكرين أحدهما يساند الجنجويد، والآخر يقف مع جيش وطن مفترض ظللنا نبحث عنه ولا نجده.
. واليوم تابعت فيديو لإعدام شاب واقفاً بجوار حائط، وما هالني أكثر في المشهد الفظيع هو وجود أعداد من المواطنين - بينهم أطفال - كانوا يهللون فرحاً بإعدام ذلك الشاب، وهذا أمر بالغ الخطورة لو تعلمون، كما وصلني منذ قليل فيديو لإعدامات وإلقاء في النيل مع شتائم وبذاءات يعف اللسان عن ذكرها.
. فكيف لنا أن نكذب أعيننا ونصدق تصريحات وزير إعلام البرهان الذي يستميت في الحفاظ على منصب يدرك أنه غير مؤهل له!
. ولمثل هذا وغيره إستبقت كل هذه الفطائع بمقال حمل عنوان ( شكراً يا جيشنا)، أبديت فيه استغراباً من الفرح المفرط بالتحرير (المزعوم) لمدينة ود مدني، لإيماني دائماً بأن كاتب الرأي إن لم يملك القدرة على استباق الإحداث والقراءة الجيدة يصبح مجرد باحث عن الشهرة ولا جدوى من كتابته.
. منذ أولى ساعات هذه الحرب ظللنا نعبر عن رفضها غض النظر عمن ستكون له الغلبة في أي من مراحلها بإعتبار إنها حرب عبثية بالنسبة لنا كشعب، أما بالنسبة لمن أشعلوها فهي فعل خبيث وقذر واضح المرامي والأهداف.
. لكن المؤسف أن السودانيين إنقسموا بين معسكرين منذ الساعات الأولى كما أسلفت.
. وظل أقرب الأقربين يرون في موقفنا غرابة ويقولون أن علينا أن نقف في خندق جيش الوطن.
. وقد بذل كل الرافضين للحرب مجهوداً كبيراً لإقناع مؤيديها بأننا لو كنا نملك جيشاً وطنياً حقاً لما ترددنا لحظة في الوقوف معه.
. لكن ذهب كل ذلك المجهود أدراج الرياح لأن أهلنا السودانيين بطبعهم عاطفيين وسريعي الإنفعال ويتخذون الكثير من المواقف دون تفكير عميق.
. والمحزن حد الوجع أن بعض أكثر السودانيين تعليماً واستنارة اتخذوا هذا الموقف العاطفي غير المبرر.
. لكن بعد ظهور مختلف الكتائب الكيزانية في ميادين القتال، ولمعان نجومية بعض اللايفاتية الأمنجية والكيزان، واعترافات العديد من قادة تنظيمهم البغيض بأنهم من بدأوا هذه الحرب لم أتوقع إصرار الكثير من السودانيين (الطبيعيين) - وحين أقول الطبيعيين أعني غير (المتكوزنين) - لم أتوقع إصرار هؤلاء على دعم حرب لم يُقصد بها سوى الإمعان في إذلال السودانيين والقضاء على ثورتهم والإنتقام منهم لكونهم قد خرجوا بالملايين في وقت مضى لرفض حكم الكيزان الجائر.
. كتبنا مراراً ومنذ الأسابيع الأولى للحرب عن سبب عدم قطع الجيش لخطوط إمداد الجنجويد، وعن إفساح المجال لهم لطرد المواطنين من بيوتهم، وعن الإنسحابات المتكررة من المدن، دون أن مبررات مقنعة من مؤيدي هذه الحرب.
. فالإجابة الوحيدة كانت (بل بس) مع إننا ولأشهر عديدة لم نر (مبلولاً) سوى هذا المواطن الداعم للحرب نفسه.
. كُتب مراراً أيضاً أن صانع الجنجويد لا يمكن أن يقنعنا بأنه يحاربهم من أجل كرامتنا، سيما أن من يقودون عمليات هؤلاء الجنجويد كيزان حتى يومنا هذا.
. وهذا يفسر لأي صاحب عقل ما يحدث في المدن من إنسحابات متبادلة.
. لكن الغريب أن السودانيين لا يسألون ولا يراجعون أنفسهم إطلاقاً، بل تجد بعض من يظنون أنهم بإمتلاك شهادة جامعية أو درجة عليا صاروا أكثر وطنية وفهماً من غيرهم لذلك يصنفون كل رافض للحرب بأنه قحاتي، جنجويدي أو خائن وعميل.
. وحين ترد بأن أكثر من خانوا هذا البلد وباعوا أراضيه وموارده، بل وحتى إنسانه هم قادة هذا الجيش ورموز حزب المؤتمر اللا وطني، لا تجد تعقيباً مقنعاً.
. أعلم أن الجنجويد ارتكبوا فظائع لا يقبلها أي صاحب كرامة أو إنسان سوي، لكن يظل السؤال الدائم هو: من الذي سمح لهم بذلك!
. أليسوا هم الكيزان وجيشهم الذي فارق الوطنية منذ التسعينات!
. فقد صنعوا هذه المليشيا لمثل هذا اليوم، أعني يوم أن يرفض الشعب حكمهم.
. وحين ضاقت بهم أشعلوا حرباً كانوا يعلمون منذ لحظاتها الأولى أن المليشيا سترتكب خلالها فظائع يندي لها الجبين، وهذا ما يسعدهم حقيقة.
. ولو لم يكونوا سعداء بذلك لما سمحوا لهم بالتمدد السريع، ولما إنسحبوا لهم من المدن والقرى الواحدة تلو الأخرى.
. ومن يصدق أن كل ذلك حدث بفضل تفوق المليشيا عسكرياً في الأسابيع الأولي من الحرب إما أنه واهم أو شخص يلغي عقله مع سبق الإصرار.
. وكلكم تذكرون تلك العبارة التي تندر بها البعض " بتضربنا ليه يا برهان"!
. فحين ردد عبد الرحيم دقلو تلك العبارة بدا مُنكسراً وكان واضحاً أن كفة الجيش هي الراجحة وقتذاك، حيث لم يكن قد وصل للجنجويد إمداداً من الأسلحة المتطورة.
. لكن لو حسم الجيش الأمور لمصلحته باكراً ما كان المواطن سيُقتل ويُشرد ويُذل ويُهان.
. ولا كانت النعرات القبلية ستصل مداها، ولما تهيأت الظروف لتفكيك البلد وهو ما لم يريده الكيزان وجيشهم.
. فقد رغبوا في أن يذوق مواطن السودان الويل والثبور ويرى عظائم الأمور، وأن تسمح الظروف بتقسيم البلد.
.ورغبتهم في التقسيم تبدو واضحة أيضاً لكل صاحب عقل.
. فقد أصروا على تغيير العملة في بعض المناطق، كما أجلسوا بعض الطلاب لإمتحانات الشهادة في غياب آخرين، وسنوا قانون الوجوه الغريبة وكأن السودان ملكاً لقبائل دون أخرى.
. و الهدف من الإصرار على تنظيم الإمتحانات يبدو أكثر خبثاً، حيث ضِمنوا هم مواصلة أولادهم للدراسة خارج البلد، فيما تقسم أبناء المساكين بين ممُتحنين دون تحصيل جيد وآخرين فاتهم الإمتحان.
. ومعنى ذلك المزيد من التجهيل والتسطيح وتجريف العقول لغير (المتكوزنين) ، وأن تكون الشهادات بأيدي أولادهم على المدى المتوسط.
. لكننا للأسف لا نفكر في كل ذلك، بل ونذهب بعيداً في غفلاتنا بالإحتفاء بالأعيبهم التي يسمونها انتصارات، ونسمح لهم بتجريف عقولنا وتدمير مستقبل أولادنا.
. لا تود أن ترهق عقلك بالتفكير في كل ذلك! حسناً.
.إلا أن قصة كيكل لا يفترض أن يستعصي على طفل لم يتعد السبع سنوات فهمها.
. إذ كيف يكون هذا المجرم قائداً جنجويداً يُسقط كل مدن وقرى الجزيرة ومناطق البطانة، ويسمح بوقوع كل تلك الإنتهاكات الفظيعة، ثم يرتمي ذات الكيكل في أحضان الجيش ويصبح فاتحاً وبطلاً يحرر نفس المدن والقرى والمناطق من دنس الجنجويد!
. لم يجهدوا أنفسهم بجلب بطل (مفترض) آخر، فما الداعي لأن يتعبوا ويجتهدوا طالما أننا شعب يصدق أي شيء وفي كل وقت!
. والأعجب أن كل ذلك تم بدون معارك جادة، وبالرغم من ذلك يغني البعض مع عدد من مطربات الغفلة ويرددون أشعار الأرزقية التي تعدد مآثر (مفترضة) لجيش لم يقاتل أصلاً.
. ألم أقل مراراً أن قادة الجيش كيزان، وأن من يقودون عمليات الجيش كيزان أيضاً!
. يعني مسألة التسليم المتبادل للمدن والقرى لم تكن من قبيل الصدفة.
. وبالطبع لابد من (شوية) نيران ووجود ضحايا من أجل (الحبكة).
. نقر بأن مليشيا الجنجويد إرتكبت فظائع أوغرت الصدور، إلى أن ذلك كان فعلاً مقصوداً.
عندما تكون متعلماً، إعلامياً أو ناشطاً وتنكب على الكي بورد محتفياً بإنتصارات هذا الطرف أو ذاك وتسب وتشتم الرافضين لهذه الحرب اللعينة لا تتوهم أنك في مأمن، فأنت مسئول وشريك في كل قطرة دم تسيل أو روح تُزهق.
. وكتابة عبارات من شاكلة ( نصر من الله وفتح قريب) شيء يدعو للأسي ويكشف سطحية من يرددونها.
. فلا يجوز أن ندعو المولي عز وجل لنصرة الباطل.
. وطالما أن الجنجويد والدعم السريع يقتلون ويشردون أبرياء لا ذنب لهم في حربهما العبثية فليس بينهما من يقف مع الحق لكي ينصره رب العزة.
. لا تحاولوا إقناع أنفسكم بأن الجنجويد مرتزقة فأكثرهم من أبناء هذا السودان، ومن منح الأغراب منهم جنسيتنا السودانية هم قادة تنظيم الكيزان نفسه.
. كما أن الجيش يستعين ببعض الأجانب وهم مرتزقة أيضاً طالما أنهم يخوضون حرباً في بلد غير بلدهم، فلماذا نساهم في تدمير بلدنا وتفكيكها وتعريض الأبرياء للهلاك بدعم أحد الطرفين!
. وأخيراً أسألكم: ما معنى أن تشجبوا انتهاكات الجنجويد بينما تغضون الطرف عن الإعدامات االفورية لمجرد اتهامات بالتعاون مع المليشيا يطلقها كل من حمل بندقية من المجرمين الذين يصفهم بعضنا بالمجاهدين؟!
. لا ندعو بالطبع للصفح عن القتلة، المجرمين، المغتصبين أواللصوص، لكن عندما نكافيء من ينصبون أنفسهم قضاة وينفذون أحكام الإعدام الفورية بتهليلنا لهم أو الصمت تجاه جرائمهم فنحن نزيد النيران إشتعالاً لتطالنا نحن أنفسنا بعد حين.
kamalalhidai@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: أن السودان هذه الحرب کل ذلک
إقرأ أيضاً:
لواء احتياط إسرائيلي: لهذه الأسباب لن يتمكن الجيش من هزيمة حماس في غزة
شدد اللواء احتياط في جيش الاحتلال الإسرائيلي، إسحاق بريك، على أن جيش الاحتلال "غير قادر" على هزيمة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" أو إقامة حكومة عسكرية في قطاع غزة، معتبرا أن استمرار القتال يضر بمستقبل الجيش ويهدد "إسرائيل" بأزمات اقتصادية واجتماعية خطيرة.
وأكد بريك، في مقال نشرته صحيفة "معاريف" العبرية، أن رئيس أركان جيش الاحتلال وقع في فخ عندما وعد بهزيمة حماس عند توليه منصبه، وأضاف أن "الجيش في وضعه الحالي غير قادر على النجاح في هزيمة حماس وإقامة حكومة عسكرية"، مشيرا إلى أن هذا العجز ظهر بوضوح خلال العام والنصف الماضيين من القتال.
ولفت إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يعاني من نقص حاد في القوى العاملة النظامية والاحتياطية، موضحا أن تقليص عدد الفرق البرية خلال العقدين الماضيين جعل من الصعب على الجيش البقاء في المناطق التي يحتلها أو إدارة معركة استنزاف طويلة.
وقال اللواء احتياط في جيش الاحتلال إن "حجم الجيش البري اليوم حوالي ثلث حجمه قبل عشرين سنة"، لافتا في الوقت ذاته إلى أن عدم قدرة الجيش على التعامل مع شبكة الأنفاق التابعة لحماس يعد من أبرز أسباب الفشل.
وأوضح أن "أقل من 10 بالمئة من الأنفاق تم تدميرها خلال عام ونصف من الحرب"، لافتا إلى أن الدمار الظاهري في غزة "يعطي إحساسا خاطئا بالنصر، فيما تستمر حماس في العمل بقوة تحت الأرض عبر حرب عصابات".
وأضاف بريك أن استمرار حكومة الاحتلال الإسرائيلية في تجاهل هذه الحقائق، خصوصا بعد انتقاد وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش لرئيس الأركان خلال اجتماع مجلس الوزراء، يؤكد أن المستوى السياسي يجهز "ملف فشل" لتحميل المسؤولية كاملة لرئيس الأركان إيال زامير.
وانتقد بريك قرار رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بمواصلة الحرب وعدم الالتزام باتفاق المرحلة الثانية للإفراج عن المختطفين، محذرا من أن "استمرار العمليات العسكرية في غزة دون هدف واضح سيؤدي إلى سقوط المزيد من القتلى والجرحى دون تحقيق أي تقدم".
وقال إن أي محاولة لتجنيد مئات الآلاف من جنود الاحتياط مرة أخرى ستؤدي إلى "تصويت بالأقدام"، حيث سيرفض عشرات بالمئة منهم الانضمام، مشيرا إلى أن "الوضع اليوم أسوأ بكثير مما كان عليه خلال عهد رئيس الأركان السابق هيرتسي هاليفي".
وأوضح بريك أن تداعيات استمرار الحرب ستكون كارثية على إسرائيل، مشيراً إلى أنها “ستفقد دعم العالم نهائياً، وسيصل الاقتصاد الإسرائيلي إلى حافة الانهيار، وستفرض المقاطعة الاقتصادية”، كما ستستمر حالة الانهيار الاجتماعي الداخلي.
وشدد اللواء الإسرائيلي في ختام مقاله، على أن استمرار الحرب يخدم فقط بقاء حكومة نتنياهو، محملا الحكومة الحالية المسؤولية عن كل "جندي قتيل أو جريح، وكل شخص مخطوف يموت في الأنفاق"، مؤكدا أن من اتخذ قرار مواصلة الحرب "سيتحمل العار إلى نهاية أيامه".