ما مصير المبادرة التركية بعد هزيمة الدعم السريع في ود مدني؟
تاريخ النشر: 13th, January 2025 GMT
أفضت التطورات المفاجئة على صعيد المواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، والتي تلاحقت وقائعها على كل محاور القتال منذ مطلع هذا العام، أفضت يوم السبت 11 يناير/ كانون الثاني إلى هزيمة قوات الدعم السريع على يد الجيش السوداني في محور ولاية الجزيرة وعاصمتها (ود مدني) وتقدمه في محور الخرطوم بحري ومصفاة (الجيلي) أحد أكبر معاقل تمركز قوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم.
وقد اعترف قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف بـ (حميدتي) في تسجيل صوتي منسوب له بهزيمة قواته في ولاية الجزيرة، وقال معلقًا على ذلك: (خسرنا جولة ولم نخسر المعركة).
وسبق أن قال حميدتي نفس الشيء عند هزيمة قواته في معركة (جبل موية) في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، وتعهد باسترداد قواته للمنطقة مرة أخرى، الأمر الذي لم يحدث.
ويأتي استرداد الجيش السوداني لمدينة ود مدني تتويجًا لانتصارات حققها في مناطق عدة بولاية الجزيرة كانت تحت سيطرة قوات الدعم السريع، وهي آخر معاقل قوات الدعم السريع، وبذلك يكون الجيش قد أكمل استرداد كامل ولاية الجزيرة وولاية سنار بوسط السودان، وبسط سيطرته الكاملة عليهما.
وعلى صعيد العاصمة الخرطوم هناك تقدم مطرد للجيش في جنوب وغرب (أم درمان)، وشمال ووسط (الخرطوم بحري)، وفي محور دارفور حقق الجيش والقوات المشتركة تقدمًا هو الأكبر من نوعه باقتحام منطقة (الزرق) بشمال دارفور الشهر الماضي، وهي منطقة حصينة، ومن أهم معاقل الدعم السريع، حيث تعتبر ترسانة سلاح وإمدادات لوجيستية تعتمد عليها قوات الدعم السريع بصورة أساسية في إدارة معاركها ضد الجيش في دارفور.
إعلانيضاف إلى ذلك فشل محاولات الدعم السريع المتكررة للسيطرة على الفاشر عاصمة إقليم دارفور، وتعثر عمليات الإمداد اللوجيستي الجوية القادمة من خارج الحدود، حيث شهد مطار نيالا بجنوب دارفور والذي تسيطر عليه قوات الدعم السريع تحطم عدد من الطائرات الأجنبية تحت ضربات سلاح الجو السوداني، كانت محملة بشحنات سلاح ومؤن تخص الدعم السريع، مما أضعف قدرة الدعم السريع على شن هجمات لاسترداد المواقع التي فقدتها.
مجمل هذا الوضع يؤشر على ضعف الموقف العسكري لقوات الدعم السريع في كافة المحاور، وبالمقابل فإن موقف الجيش السوداني والقوات المتحالفة معه على الأرض يزداد قوة.
وإزاء هذا الوضع يبرز سؤال شديد الأهمية: ما هو مصير المبادرة التركية في ظل هذه التطورات التي أحدثت خللًا واضحًا في ميزان القوى بين الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع، رجحت فيه كفة الجيش السوداني؟
فعندما تم الإعلان عن هذه المبادرة ووافق عليها السودان كانت الدعم السريع تسيطر على أجزاء واسعة من ولاية الجزيرة، وتحكم قبضتها على مناطق في العاصمة الخرطوم.
وساد اعتقاد واسع بأن المبادرة التركية ستقوم على التأمين على هذا الوضع، وبعبارة أخرى كان المتوقع أن يتم تجميد هذا الوضع على الأرض، ومن ثم الدخول في التفاوض، ولكن تأخر صدور الإعلان الرسمي عن موافقة الطرفين على المبادرة، فالمبادرة نصت على أن يصدر كل طرف موافقته على المبادرة ببيان رسمي خالٍ من أي محمولات سالبة من طرف تجاه الطرف الآخر، ولكن لم يحدث ذلك حتى الآن، ولم يتم الإفصاح عن السبب من قبل الوسيط التركي.
وللإجابة عن السؤال عن مصير المبادرة التركية، يمكن تحليل مواقف كل من (طرفي الحرب)؛ لمعرفة أفضل الخيارات بالنسبة لكل طرف، ولأن طبيعة النزاع عسكرية فإن التحليل سيتناول بشكل أساسي الموقف العسكري الحالي لكل طرف باعتباره محددًا مهمًا لقبوله أو رفضه للمبادرة.
إعلانفعلى جانب الحكومة السودانية يبدو موقفها العسكري قويًا بعد تحريرها لولاية الجزيرة التي تعتبر موقعًا إستراتيجيًا ومحورًا لطرق تربط العاصمة الخرطوم بالمناطق الجنوبية والشرقية من السودان، مما يتيح للجيش ميزة إستراتيجية للتحكم في خطوط الإمداد.
ويترتب على هذه الميزة دفعة معنوية كبيرة للجيش، مما يعزز قدرته على الاستمرار في حملته العسكرية على الدعم السريع، ويفتح شهيته أكثر نحو التقدم لاسترداد مناطق أخرى تحت سيطرة الدعم السريع، وقد صرح رئيس مجلس السيادة القائد العام للجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان عقب تحرير ود مدني قائلًا: (سنسترد ونطهر كل شبر في أرضنا من مليشيا الدعم السريع).
كذلك فإن تحرير ود مدني سيساعد الجيش السوداني على تفكيك تمركزات قوات الدعم السريع حول العاصمة الخرطوم وداخلها، وتقليص المساحة التي تتحرك فيها، وضرب حصار آخر عليها شبيه بحصاره لها في ولاية الجزيرة، وهذا يسهل عليه الانقضاض عليها مرة أخرى.
وعلى الصعيد السياسي، فقد أظهرت مهرجانات ومواكب الفرح – التي خرجت فيها جماهير الشعب السوداني عقب الإعلان عن تحرير (ود مدني) في كل مدن السودان، وفي عدد من العواصم العربية والغربية – أن الحكومة والجيش السوداني يحظيان بدعم شعبي واسع النطاق.
وعلى الضفة الأخرى، يبدو الموقف العسكري والسياسي للدعم السريع في أضعف حالاته، فقد خسرت الدعم السريع ولاية الجزيرة وفقدت معها مساحة كبيرة كانت ستتيح لها الفرصة للتمدد شرقًا وتأمين قواتها شمالًا حتى تخوم ولاية نهر النيل مرورًا بالعاصمة الخرطوم، وبفقدانها الجزيرة أصبحت قواتها على طول الطريق من ولاية الجزيرة حتى شمال العاصمة الخرطوم تحت رحمة الجيش السوداني مما يرجح معه أن تتشتت هذه القوات وتنهار، أو تنسحب غربًا نحو دارفور.
وهو انسحاب لو حدث سيعرضها حتمًا لنيران سلاح الجو السوداني؛ بسبب أن هذا الانسحاب سيكون في منطقة مكشوفة، هذا فضلًا عن انقطاع خطوط الإمدادات التي كانت تأتي إليها عبر مناطق أصبحت تحت سيطرة الجيش.
إعلانأما سياسيًا فقد خسرت الدعم السريع خسارة كبيرة؛ بسبب العنف المفرط والقتل الممنهج والمذابح التي ارتكبتها في حق المدنيين والنهب والاغتصاب وتدمير البنيات الأساسية، هذه الممارسات جعلتها تفقد تأييد الأهالي والجماعات السياسية ذات النفوذ الاجتماعي في مختلف ولايات السودان، وقد بدأت بوادر التخلي عن الدعم السريع من بعض القوى السياسية والشخصيات التي كانت تمثل حليفًا سياسيًا لها.
وفي هذا الصدد، فقد أعلن أحد كبار مستشاري الدعم السريع تبرُّؤَه من الدعم السريع قبل وقت قصير من تحرير الجيش مدينة ود مدني، وانكمشت حملات الدعاية المؤيدة للدعم السريع في السوشيال ميديا بشكل ملحوظ.
وبناءً على حيثيات هذا المشهد على الجانبين؛ جانب الحكومة السودانية، وجانب الدعم السريع، فإنه من المحتمل أن تتراجع أهمية المبادرة التركية في نظر الحكومة السودانية، ويتعاظم لديها خيار الحسم العسكري على الأرض، وتراه أقصر الطرق إلى وضع حد للأزمة بنصر كامل لا تسوية فيه، خاصة أن المزاج الشعبي يميل بشدة إلى هذا الخيار.
وحتى إذا جنحت إلى خيار التفاوض عبر المبادرة التركية، فسيكون ذلك من موقف قوة وانتصار يتيح لها مساحة واسعة للمناورة وكسب النقاط.
وعلى الطرف الآخر، طرف الدعم السريع ومن خلفه فإنه سيكون أكثر ميلًا وحرصًا على خيار التفاوض والتمسك بالمبادرة التركية على قاعدة (ما لا يدرك كله لا يترك جله) عسى أن يأخذ بالسلم ما لم يستطع أخذه بالقوة.
وأيًا ما كان الأمر فإنه من الراجح أن تفقد المبادرة التركية كثيرًا من بريقها وأهميتها بالنسبة للطرفين، فإذا تتابعت انتصارات الجيش السوداني في مقبل الأيام، فإن اهتمامه بالمبادرة سيقل، وبالتالي فإن الطرف الآخر سيكون أمام وضع حرج، ولا يُتوقع منه أن يأتي إلى طاولة التفاوض وهو في (وضع) المهزوم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
إعلان aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات قوات الدعم السریع المبادرة الترکیة العاصمة الخرطوم الجیش السودانی ولایة الجزیرة السریع فی هذا الوضع ود مدنی
إقرأ أيضاً:
الحزب الشيوعي يشجب حكومة الأمر الواقع لأنها لم تعوض مزارعي الجزيرة
نحو العام الثالث من الطور الثاني من معارضة الإنقاذ: الحزب الشيوعي يشجب حكومة الأمر الواقع لأنها لم تعوض مزارعي الجزيرة عن فقدهم في الزرع والضرع
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
“وكما قال كاتب مرة: لا يعرف المرء هل تأخذ “قحت” هذه الحرب على علاتها أم إنها مجرد طورها الثاني في معارضة “دولة الإنقاذ” بعد الطور الأول الذي انتهى بالقضاء عليها في أبريل 2019″.
لربما صح في مفتتح عام الحرب الثالث أن تعتكف قوى الحرية والتغيير “قحت” التي صارت “تقدم” (تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية) بعد الحرب، ثم “صمود” بعد انقسام كتلة “تأسيس” منها في فبراير (شباط) الماضي (ويشار لها بـ”قحت” في ما يلي)، في جلسة مراجعة مع النفس. فيكفي تشردها في الأسماء نفسه باعثاً لهذه الخلوة قبل الجلوة في عام حرب جديد إلى سلم إن شاء الله.
وبدا أن السؤال محور هذا الجرد هو عما يرونه من مصائر لمشروعهم التقدمي الليبرالي بعد ثورتهم في ديسمبر 2018 التي انزلقت إلى حرب ضروس يكتوي الناس بها. وهذا المشروع هو الذي صدعت به “قحت” كقوى حديثة، كما تصف نفسها، منذ الاستقلال وربما قبله. فماذا ترى هذه القوى منه، أو فيه، لا في نحو عقد من زمان للزعازع مرموق فحسب، بل وفي سياقه العالمي الذي تتخطفه فيه القوى المحافظة بهمة سياسية مرموقة، وتطوي خيامه كما رأينا في الولايات المتحدة أخيراً حتى قال لاري ديموند الأستاذ بجامعة ستانفورد، إن “الديمقراطية في ركود” (recession).
ما استدعى هذه الخلوة هو طرائق في التفكير في هذه القوى الحديثة تؤذي من حيث يظن المرء سدادها. فسارت بينهم عبارة كالأيقونة تقول إنه “ليس مهماً من يحكم السودان، بل كيف يحكم السودان”. وحين يصدع بها أحدهم “يكون الكلام انتهى” كما نقول. بينما هي عبارة لا يعرف المرء أفحش منها استهانة بالديمقراطية التي ظلت حداء هذه القوى الحديثة لعقود. فترجيح كيفية الحكم على هوية الحاكم باطل. وبطلانه في أنه ألغى حق الناس في انتخاب من يحكمهم على ضوء برنامج عن كيف سيحكمهم. وهذا ترخيص لكل من عرف، أو ظن أنه عرف، كيفية الحكم الصالح لبلد ما أن يطلبه غلاباً بالانقلاب العسكري أو بالحركة المسلحة مما فشى في السياسة السودانية.
أسيرة الماضي
لم تخرج “قحت” بعد من معارضة “دولة الإنقاذ” المبادة، أو كما قامت “بعاتي” في دولة الفريق الركن عبدالفتاح البرهان الحالية، إلى الرحاب السياسية والاجتماعية والفكرية في مغامرتها الثورية ودولتها الانتقالية. فلم تر “تقدم” من الحرب سوى خطة للفلول لرد السودانيين إلى “بيت الطاعة” الإنقاذي. فقررت “قحت” والحزب الشيوعي (الجذري) كفاحاً أن الفلول هم من أشعل فتيل الحرب لفرض أنفسهم من جديد على دست الحكم. ولم يعد من يصدق أن “قحت” على الحياد السياسي بين الطرفين المتحاربين كما تزعم بعدما أعطت “الدعم السريع” حق الحرب العادلة لرد عدوان الجيش عليه. وكان هذا الزيغ عن الحياد موضوع شكوى حزب الأمة في باكر عام 2024 ليلتقي بسكرتارية “قحت” ويعرض عليها مظلوميته منها. ولا يعرف المرء إلى أين انتهى الحوار بينهما حتى خرج رئيس الحزب وممثله في “قحت” ضمن طائفة “تأسيس” التي هي بصدد تكوين حكومة في الأراضي الواقعة تحت سيطرة “الدعم السريع”.
ولم تر “قحت” في خروج طائفة منها لـ”الدعم السريع” الخطر الذي تحسب له كثر من انقسام منتظر للسودان. وجاء بيانها عن خروجهم بمثابة، “إنهم إخواننا بغوا علينا”. فصور البيان الخلاف بينهما، بين من يريدون “مواصلة النضال المدني الديمقراطي من دون تشكيل حكومة وموقف يرى أن تشكيل حكومة هو إحدى أدوات عمل التنسيقية”. ولا تزال “قحت” مع ذلك تحمل على “حكومة بورتسودان” وتتربص بها لتنزع منها الشرعية الدولية التي تدعيها. وكما قال كاتب مرة: لا يعرف المرء هل تأخذ “قحت” هذه الحرب على علاتها أم إنها مجرد طورها الثاني في معارضة “دولة الإنقاذ” بعد الطور الأول الذي انتهى بالقضاء عليها في أبريل 2019.
الشيوعي ومعارضة حكومة بورتسودان
أما الحزب الشيوعي فغارق في هذا الطور الثاني من معارضة الإنقاذ إلى حد الهذيان. فهو لا يرى أي شرعية لحكومة بورتسودان. وتطرق في بيان أخير لأوضاع مشروع الجزيرة الزراعي ووصف اتفاقات عقدتها حكومة الأمر الواقع، كما يقولون، بإنها لـ”مشروع ظل هدفاً للرأسمالية الطفيلية” التي تسعى إلى تفكيكيه والاستيلاء على موارده الاقتصادية والاجتماعية. ورأى البيان أن الحرب الجارية أصبحت غطاء لتمرير مزيد من الصفقات المشبوهة وتعزيز الفساد في مختلف المؤسسات. وتحت هذا الغطاء، في قول البيان، “تم فتح المجال أمام الشركات الطفيلية لعقد اتفاقات تفتقر إلى الشفافية وتخدم مصالح ضيقة على حساب المصلحة العامة”. ونقد الحكومة لأنها تعجز عن توفير الحد الأدنى لتمويل الموسم الزراعي في الجزيرة في وقت تجد فيه المال الكافي لتمويل حربها بكلفها الباهظة مما يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة حول أولويات السلطة الحالية وأهدافها الحقيقية. وهذا ذهول كثير عن مشروع بولاية الجزيرة لم تستكمل الحكومة حتى من تحريره عسكرياً. أما ذروة هذا الذهول ففي نقد البيان للحكومة لتجاهلها “تعويض المزارعين عما لحق بهم من خسائر جراء دخول الدعم السريع للمنطقة، ونهب محاصيل موسمين زراعيين، وعدم تمكنهم من الزراعة في الموسم السابق، إلى جانب سرقة آلياتهم”. فبدا من نقد الشيوعيين هذا أن إهلاك “الدعم السريع” المشهود للزرع والضرع والخلق في الجزيرة دمدمة من الطبيعة جعلها “منطقة كوارث” الحكومة ملزومة بتعويض المتضررين منها. ولا يملك المرء حيال هذه المعارضة بحكم العادة إلا أن يقول إن الشيوعي لم يأخذ هذه الحرب مأخذ جد، أي أخذاً وبيلاً، بعد. فهو رافل في امتياز المعارضة كجاري العادة.
تبرير لطرف من دون آخر
وتغفر “قحت” في “لا للحرب” لـ”الدعم السريع” ما لا تغفره للقوات المسلحة. فلا تجدهم يعترضون على التجنيد القبائلي والجهوي لـ”الدعم السريع”، بل يسمون الجماعات التي تزوده بالجنود “الحواضن”. كما لا تعقب على احتواء “الدعم السريع” على ميليشيات مستقلة عن قيادته المركزية، بل منها من اعترف حتى محمد حمدان دقلو بأنها غزت ولاية الجزيرة بغير علمه. ولكن حذارِ أن يفعل الجيش فعل “الدعم السريع”. فإذا استنفر الشباب للحرب عابوا عليه ما يسمون “التجنيد الإثني” الذي سيحول الحرب إلى حرب أهلية كأنها ليست كذلك. ومع ذلك فاستنفار الجيش في غالبه استنفار في مدن هي خليط من البشر رغب أهلها في حماية أنفسهم من ويل “الدعم السريع”. وتجد “قحت” من الناحية الثانية يأخذون على الجيش القوى العسكرية المختلفة التي انضمت إليه خلال المعركة مثل حركات دارفور المسلحة أو كتيبة البراء بن مالك أو ميليشيات “درع السودان” التي انقسمت على “الدعم السريع”. فتجد ممن يحذر من نزاع سيقع طال الزمن أو قصر بينها، متى استقلت، وبين الجيش.
فبين لا نزال في أمر ضيق مع “الدعم السريع” ليومنا يستبق مثل هؤلاء بنا إلى يوم في غير توقيت ستكون هذه الميليشيات صداعاً جديداً للبلد. وليس هذا مستبعداً بالطبع، ولكنه قنطرة يستحسن أن ننتظر حتى نصلها لنعبرها. فقال أحدهم إن تمرد ميليشيات، وهي “الدعم السريع” ليومنا، لا يمكن محاربته بتكوين 20 من الميليشيات أخرى لا تخضع بشكل مباشر لسلطة القوات المسلحة، وإنما لسلطة القبيلة. وغابت عن تقدير الزول هنا مسألتان. الأولى أن “الدعم السريع” لم يعد “ميليشيات” في نظر “دولة الإنقاذ” منذ اعتماده جيشاً ثانياً بقانون برلماني لأغراض الرئيس البشير والذائع من قوله إنه صار “حمايتي”. فالمأزق هنا ليس استعانة النظام بميليشيات، بل في توطينها قوة عسكرية في الدولة مما خرقت به “الإنقاذ” احتكار الجيش للسلاح الذي هو في تعريف الدولة الحديثة.
دور الميليشيات
من جهة الأخرى ليس من حائل من دون أي جيش من توظيف قوى غير نظامية لأداء مهام بعينها ثم تنصرف. وقد لا تنصرف بالهين. واستنفر الجيش السوداني منذ الفترة الاستعمارية مثل هذه القوى وانفضت بعد اكتمال مهمتها. ففي يومنا تقاتل الميليشيات جنباً إلى جنب القوات المسلحة في موزمبيق والكونغو. فجيش موزمبيق يستعين بميليشيات الرينامو والناباراما (والأخيرة قوى فلاحية موتدة في ثقافتها التقليدية وتحارب بالأسلحة البيضاء) بل وجنود من منظمة دول جنوب أفريقيا معظمهم من رواندا. وتقاتل إلى جانب الجيش الكونغولي ضد الـ”أم 23″ المدعومة برواندا “جبهة تحرير رواندا” وميليشيات وازلندو، وجنود من بروندي وجنوب أفريقيا ومرتزقة.فمن ضعف الرأي جعل مسألة الميليشيات حول الجيش أسبقية في يومنا لأنه ليس بوسعك، و”الدعم السريع” يأخذ بخناقك، أن تجعل من كل شيء أسبقية كما يقال.
أما ما استحق جلسة “قحت” اللوامة مع النفس فهو مستقبل مشروعها التقدمي في الديمقراطية المنتظرة. فـ”قحت” جماعة قليلة براها النضال الطويل الفادح ضد الأنظمة الديكتاتورية التي حكمت السودان لأكثر من نصف قرن منذ استقلاله عام 1956. وتقطعت بها السبل شيئاً فشيئاً مع المجتمع المدني الذي أحسنت قديماً قيادته في النقابات والاتحادات الشعبية. وتقطعت هذه السبل خصوصاً خلال فترة “الإنقاذ” التي لم تعسر على “قحت” مثل ذلك النشاط بين الجمهرة فحسب، بل اقتنع كادرها نفسه أيضاً باستحالته في ظل دولة للإخوان المسلمين أتقنت، كحركة سياسية اجتماعية، إدارة مثل هذا النشاط. وكان خيار “قحت” إما أن تضرب في اللجوء في بلاد الدنيا أو المسارعة للعمل تحت مظلة حركة مسلحة. ولا أعرف مثل الدكتور الواثق كمير من أحسن تصوير اعتزال “قحت” الجمهرة بقوله إنها “غادرت النقابة للغابة”. وكانت ثورة ديسمبر سانحة لتسترد عافيتها بين جماهيرها التي نهضت بمتانة وفدائية في لجان المقاومة خلال ثورة ديسمبر. غير أن “قحت” سرعان ما اعتزلت تلك اللجان وهي في الدولة. بل دقا بينهما عطر منشم. وهتف شباب المقاومة في وجهها “قحاطة باعو الدم”. أي إن قحت استنامت لحلفها مع العسكريين وطيبات الحكم وفرطت في دم الشهداء الذين مكنوا لها فيه. وخرجت من لجان المقاومة جماعة مثل “غاضبون” التي هي الآن طرف في الاستنفار مع الجيش.
التخفيف عن الناس
وكان بوسع “قحت” أن ترم بالحرب ما تقطع بينها والناس لو جعلت من “لا للحرب” جسراً لتخفيف أذى الحرب عليهم. فلم توظف دالتها على “الدعم السريع” في مثل إعلان أديس بينهما (يناير 2024) لوقف التصعيد في مثل ما يجري في يومنا في الفاشر والذي تتداعى له الدول لوقفه بلا طائل. وإن لم تبلغ “قحت” من هذا شئياً فلربما التمست من “الدعم السريع” باسم أسر الأسرى والمعتقلين الإحسان لمن بيدهم منهم بدلاً من أن خروجهم الأخير علينا رهين قبور جماعية وأشباحاً من الهزال. وكانت “قحت” بدأت بداية صحيحة حين التزم “حميدتي” لها في أديس أبابا بإطلاق سراح المئات من أسرى الجيش والمعتقلين. ولا يعرف أحد إن أوفى الرجل بما وعد. فالبلاغات عن المختفين عند الصليب الأحمر في يومنا بلغت فوق الـ6 آلاف.
ولما لم تكن “قحت” موئلاً للمستنجد كحد أدنى صارت “لا للحرب” دعوة من فوق رأس البيوت اقتصرت على بناء جبهة واسعة تحتشد لإنهاء الحرب اللعينة. فناشدت “قحت” في بيان لها قبل أسابيع الناس بـ”استكمال جهود وقف الحرب عبر بناء أوسع جبهة مدنية ديمقراطية للقوى المؤمنة بأهداف ثورة ديسمبر”. كما ناشد الحزب الشيوعي الناس في بيان أخير وقف الحرب المدمرة بـ”الاصطفاف في أوسع جبهة جماهيرية عريضة قاعدية للمطالبة بوقف الحرب اللعينة… واسترداد المسار الديمقراطي لتحقيق أهداف ثورة ديسمبر”.ومع تطابق “قحت” والشيوعي في المطلب وقع الحافر على الحافر إلا أنهما لم يوفقا بعد ومنذ سنتين في عقد ما بينهما في حلال وقف الحرب.
لا بد أن هناك شئياً ما غير مستساغ في مملكة “لا للحرب”.
والخلوة إلى النفس أولى بـ”قحت” والجذري في هذا المنعطف الشقي من هذه الحرب.