لجريدة عمان:
2025-03-17@17:39:39 GMT

ذكرى محبة.. لروح عمان

تاريخ النشر: 13th, January 2025 GMT

11 يناير 2020م.. صحوت على أذان الفجر، تصفحت هاتفـي فصدمني خبر رحيل السلطان قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه - عن دنيانا. ومع أن الوجل يصرّ على قلوبنا منذ أن أُعلن فـي عام 2014م عن ذهابه إلى ألمانيا لإجراء فحوصات طبية، وكان القلق يتصاعد كلما رأينا جسده يذوي بمرور الأيام، لكن الخبر هذه اللحظة نكت على القلب بشدة، همست لنفسي: الشائعات هذه الأيام تهطل كالمطر.

إذ الجو كان فـي تلك الأيام ماطرًا.

نزلت سريعًا إلى المجلس - ورغم أن جسد السلطان فـي العرض العسكري بمناسبة العيد الوطني التاسع والأربعين يفصح بوجهه ونظرات عينيه أنه لم يعد من عالمنا - قلت وأنا متجه إلى التلفزيون لأسمع الخبر اليقين: يا رب.. أجّلها من ساعة. لم ترد حينها فـي نفسي حسابات المرض والموت، ولا وضع عمان من بعده، فالقلب مشغول بهذا الرجل العظيم الذي بنى الدولة الحديثة، وافتتح طورًا من أطوار عمان الكبرى.

التلفزيون.. يبث القرآن الكريم، وعلى شريط شاشته نعي جلالته، وإعلان بانتظار بيان من ديوان البلاط السلطاني. انسحبتُ وذهبت أصلي.. دعوت الله أن يرحم السلطان ويبرم أمر خير ورشد لعمان ومستقبلها. تسمّرت أمام التلفزيون، ثم بدأ أفراد العائلة ينزلون ليصطفوا معي أمام الشاشة الفضية، التي غارت نظارتها وبدت أكثر شحوبًا منا. لا أحد يتكلم إلا الوجوه غشيها الحزن، والألسن تلهج بالدعاء لفقيد عمان.

المذيع.. وجهه يرشح بكاءً وهو يقرأ على الأمة العمانية بيان الوفاة: (نعي صادر من ديوان البلاط السلطاني.. ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي)). إلى أبناء الوطن العزيز فـي كل أرجائه، إلى الأمتين العربية والإسلامية، وإلى العالم أجمع، بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، وببالغ الحزن وجليل الأسى، ممزوجين بالرضا التام والتسليم المطلق لأمر الله، ينعى ديوان البلاط السلطاني المغفور له بإذن الله تعالى مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور المعظم، الذي اختاره الله إلى جواره مساء يوم الجمعة بتاريخ 14 من جمادى الأولى لعام 1441هـ الموافق 10 من يناير لعام 2020م. بعد نهضة شامخة أرساها خلال خمسين عامًا، منذ أن تقلد زمام الحكم فـي 23 من شهر عام 1970 للميلاد، وبعد مسيرة حكيمة مظفرة حافلة بالعطاء، شملت عمان من أقصاها إلى أقصاها، وطالت العالم العربي والإسلامي والدولي قاطبة، وأسفرت عن سياسة متزنة، وقف لها العالم أجمع إجلالاً واحترامًا.

وإذ يعلن ديوان البلاط السلطاني الحداد وتعطيل العمل الرسمي للقطاعين العام والخاص لمدة ثلاثة أيام وتنكيس الأعلام فـي الأيام الأربعين القادمة، ليدعو الله جلّت قدرته أن يجزي جلالته خير الجزاء، وأن يتغمده بالرحمة الواسعة والمغفرة الحسنة، وأن يسكنه فسيح جناته، مع الشهداء والصديقين وحسُن أولئك رفـيقًا، وأن يلهمنا جميعًا الصبر والسلوان وحُسن العزاء، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ويوقن به عباده الصابرون المحتسبون الراضون بقضاء الله وقدره وإرادته، إنا لله وإنا إليه راجعون، صدر فـي 15 من جمادى الأولى لعام 1441هـ، الموافق 11 من يناير لعام 2020 للميلاد).

أُعلن بأن الصلاة على السلطان قابوس فـي جامعه الأكبر، اتصلت بالصديق زكريا المحرمي لكي نذهب للصلاة، فقال: الطريق مغلق، وحضور الناس يقتصر على الرسميين من أجهزة الدولة والمجاورين للجامع. منيت نفسي بأن أجد طريقًا إلى الجامع، فركبت سيارتي واتجهت إلى الجامع عبر الشارع السريع، وجدت الشرطة سدت مخارجه وقفلت راجعًا.

انطوى الصباح بطيئًا متخشبين أمام شاشة التلفزيون حتى صلاة الظهر، بعد أداء الصلاة.. حملنا أنفسنا باتجاه بَهلا. كل شيء حزين، صوت السيارة يبكي، والبيوت واجمة، لا أحد يدخل إليها ولا يخرج منها، والطريق.. الذي لم يألف توقف الحركة؛ صامت إلا من بعض سيارات تتهدى فـي حركة أثقلها هم رحيل عاهل البلاد، وصلنا بَهلا التي لم نألفها من قبل بهذا الحال.

بَهلا.. التي لم أعش فـيها إلا فـي ظل حكم جلالة السلطان قابوس بن سعيد - طيّب الله ثراه. بَهلا.. التي ازدانت بمنجزات النهضة الحديثة، فإذا ذكر السلطان قابوس فـيها؛ ترجع بي ذكريات الطفولة إلى أيام الاحتفالات بالعيد الوطني، حيث تتوشح سككها الممتدة فـي عمق التاريخ بعَلَم الوطن؛ مشيرًا إلى زمن المجد الآتي، وعلى طريقها العام تنتصب أقواس الوطن مزدانة على جبينها المشرق بكلمات شمس العهد الجديد، وأبيات شعر تهنئ قائد مسيرته الظافرة. ذكريات ترجع إلى الأيام التي نقف فـيها على حافة الطريق منتظرين الموكب السلطاني يمر فـي جولته السنوية، عسى أن نحظى بنظرة لوجهه المليء حيويةً، ذي النفس التواقة لبناء مجد جديد لعمان، تزهو به بين الأمم.

بَهلا.. التي تشرفتْ أول مرة بزيارة جلالته مع مطلع حكمه السعيد فـي سبعينات القرن الميلادي المنصرم؛ والجًا بموكبه الميمون سورها الأزلي من «باب السيدي»، عبر شريانها الممتد إلى الحصن؛ مقر الحكومة حينها، وهناك التقى فـيها بشيوخ وأعيان ومواطني الولاية. لم أدرك تلك الزيارة؛ وإنما بقي ذكرها على ألسنة رطبة بالثناء على ذلك العهد المجيد، تطرب النفس كأنك بين الحاضرين. لقد استمع الآباء إلى ابن عمان البار قبل أن يستمعوا إلى سلطانها، واستمع الأبناء إلى مستقبل عمان قبل أن يستمعوا إلى قائدها المفدى، استمعوا له بمحبة وأمل بالخلاص من ماضٍ عانوا منه كثيرًا، واستمع هو إليهم وكل أمله أن يحقق آمالهم.

بَهلا.. التي بنى السلطان قابوس - كسائر عمان - إنسانها وأرضها؛ افتتح فـيها المدارس وأقام المستشفـيات وشق الطرق، وأمدها بسبل الحياة المعاصرة. اهتم بتاريخها؛ مظهرا دورها السياسي والعلمي، واهتم بتراثها؛ كاشفًا عمق ثقافتها فـي حضارة المنطقة، فرمم حصونها وجامعها وسورها، حتى أصبحت جوهرة على جيد التراث العالمي؛ فأدرجتْ ضمن قائمته باليونسكو عام 1987م. ثم توّجها جلالته طيب الله ثراه بجامع من أفخم الجوامع العمانية، افتتحه فـي 22 سبتمبر 2000م. لقد كانت زياراته تترى عليها، واتخذ فـيها موئلاً يفـيئ إليه كلما أراد أن يتنفس عبق حضارة عمان التليدة. وفـي عام 2013م تشرفت بَهلا بآخر زيارات جلالته، حيث نزل بموكبه السامي فـي سيح الشامخات، وأعلن عن مشروع كلية الأجيال، التي لا تزال نفوس أهالي الولاية تتوق إلى تنفـيذ هذا الصرح العلمي، وعقول بنيها متشوقة بأن تدرس فـي هذه الكلية، وتنتظر أمرًا ساميًا من لدن مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق دام مجده بتحقيق هذه الأمنية على أرض الواقع.

12 يناير 2020م.. اتجهت بصحبة زكريا المحرمي وابني ماجد إلى قصر العلم بمسقط، لأداء واجب العزاء فـي فقيد عمان الغالي. صافحنا اليد التي ارتضاها لتكون امتدادًا لروحه الخالدة فـي نفوس العمانيين.. صافحنا مولانا جلالة السلطان هيثم - حفظه الله - تعزيةً فـي فقيده، وتهنئةً لاستوائه على عرش السلطنة، فـي مشهد يقول إن حياة الأخيار باقية فـي نفوس الأوفـياء.

20 نوفمبر 2014م.. بعد أن أحرزت مكتبة الندوة العامة المركز الأول فـي جائزة السلطان قابوس للعمل التطوعي عام 2012م، تشرفت بَهلا بزيارة جلالة السلطان هيثم بن طارق أعزّه الله لما كان على رأس وزارة التراث والثقافة، احتفاءً بهذه المناسبة، ولتوجيه أبنائه فـي المكتبة، والوقوف على نشاطهم الثقافـي والعلمي، فدشّن قسمًا باسم «ركن السلطان قابوس للدراسات المعاصرة»؛ ذكرى محبةٍ لروح عمان.

22 فبراير 2020م.. أبّنا السلطان قابوس - طيّب الله - ثراه بأمسية فـي مكتبة الندوة العامة بمرور أربعين يومًا على رحيله، ليبقى حيًّا فـي نفوسنا، وباذخ المجد فـي بلادنا، ورجلَ سلام فـي ضمير الإنسانية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: دیوان البلاط السلطانی السلطان قابوس جلالة السلطان ب الله

إقرأ أيضاً:

صناع مسلسل الغاوي يهدون العمل لروح أحمد عدوية

دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- أهدى صناع مسلسل "الغاوي"، العمل لروح المغني الشعبي المصري الراحل أحمد عدوية، كما أهدوه أيضًا إلى أرواح  المنتجين المصريين:  حسام شوقي، وفتحي إسماعيل، ومحمود كمال، وتامر فتحي الذين فارقوا الحياة في حادثٍ مأساوي العام الماضي.

وتضمنت الحلقة الأولى من المسلسل، التي عُرضت الأحد، مقطعًا من أغنية "يا برج يا بو الحمام" للراحل بصوت الراحل أحمد عدوية.

ويعتبر مسلسل "الغاوي" من أكثر المسلسلات المصرية المُرتقبة في النصف الثاني من موسم دراما رمضان 2025.

ويروي مسلسل "الغاوي" حكاية "شمس" العاشق للطيور والحيوانات، الذي نشأ يتيمًا، وعاش حياة صعبة  جعلت منه مجرمًا، ثم  تتحول حياته جذريًا، يتخلى عن (البلطجة)، ويقرر أن يحيا حياة شريفة لكن تخليه عن ماضيه لن يكون سهلاً، ويدفعه لخوض مواجهاتٍ صعبة".

المسلسل من تأليف: محمود زهران، وطارق الكاشف، وإخراج محمد جمال العدل،  وبطولة أحمد مكي ويشارك في بطولته أيضًا: عائشة بن أحمد، وأحمد كمال، ومحمد لطفي، وولاء  الشريف،  والفنان المصري القدير أحمد بدي، وممثلون كثر آخرون.

ويُعرض على: ON، ومنصة Watch IT.

مقالات مشابهة

  • في ذكرى رحيله.. أبونا فلتاؤس السرياني "نسر البرية" الذي عاش في صمت
  • افتتاح "أسبوع التصوير" بجامعة السلطان قابوس وإعلان الأعمال الفائزة
  • في ذكرى وفاتها.. عائشة بنت أبي بكر.. أم المؤمنين وأحب زوجات النبي إلى قلبه
  • آفاق برنامج لقبول الطلبة الدوليين والعُمانيين في مرحلة البكالوريوس
  • السلطان: العمارة السعودية تسهم في إبراز هوية المملكة عالميًا
  • صناع مسلسل الغاوي يهدون العمل لروح أحمد عدوية
  • المهندس السلطان يشكر القيادة بمناسبة إطلاق ولي العهد خريطة العِمَارَة السعودية
  • اسرة مسلسل الغاوي تهديه لروح الراحل أحمد عدوية
  • فضل الصلاة على النبي وكيفية محبة الرسول.. تعرف عليها
  • محافظة دمشق: تدعوكم جماهير الثورة للمشاركة في استكمال فعاليات احتفال ذكرى الثورة السورية المباركة، التي ستُقام اليوم السبت عند الساعة الثامنة والنصف مساءً في ساحة الأمويين، وذلك بسبب ارتفاع درجات الحرارة نهاراً