لجريدة عمان:
2025-02-13@13:34:33 GMT

ذكرى محبة.. لروح عمان

تاريخ النشر: 13th, January 2025 GMT

11 يناير 2020م.. صحوت على أذان الفجر، تصفحت هاتفـي فصدمني خبر رحيل السلطان قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه - عن دنيانا. ومع أن الوجل يصرّ على قلوبنا منذ أن أُعلن فـي عام 2014م عن ذهابه إلى ألمانيا لإجراء فحوصات طبية، وكان القلق يتصاعد كلما رأينا جسده يذوي بمرور الأيام، لكن الخبر هذه اللحظة نكت على القلب بشدة، همست لنفسي: الشائعات هذه الأيام تهطل كالمطر.

إذ الجو كان فـي تلك الأيام ماطرًا.

نزلت سريعًا إلى المجلس - ورغم أن جسد السلطان فـي العرض العسكري بمناسبة العيد الوطني التاسع والأربعين يفصح بوجهه ونظرات عينيه أنه لم يعد من عالمنا - قلت وأنا متجه إلى التلفزيون لأسمع الخبر اليقين: يا رب.. أجّلها من ساعة. لم ترد حينها فـي نفسي حسابات المرض والموت، ولا وضع عمان من بعده، فالقلب مشغول بهذا الرجل العظيم الذي بنى الدولة الحديثة، وافتتح طورًا من أطوار عمان الكبرى.

التلفزيون.. يبث القرآن الكريم، وعلى شريط شاشته نعي جلالته، وإعلان بانتظار بيان من ديوان البلاط السلطاني. انسحبتُ وذهبت أصلي.. دعوت الله أن يرحم السلطان ويبرم أمر خير ورشد لعمان ومستقبلها. تسمّرت أمام التلفزيون، ثم بدأ أفراد العائلة ينزلون ليصطفوا معي أمام الشاشة الفضية، التي غارت نظارتها وبدت أكثر شحوبًا منا. لا أحد يتكلم إلا الوجوه غشيها الحزن، والألسن تلهج بالدعاء لفقيد عمان.

المذيع.. وجهه يرشح بكاءً وهو يقرأ على الأمة العمانية بيان الوفاة: (نعي صادر من ديوان البلاط السلطاني.. ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي)). إلى أبناء الوطن العزيز فـي كل أرجائه، إلى الأمتين العربية والإسلامية، وإلى العالم أجمع، بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، وببالغ الحزن وجليل الأسى، ممزوجين بالرضا التام والتسليم المطلق لأمر الله، ينعى ديوان البلاط السلطاني المغفور له بإذن الله تعالى مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور المعظم، الذي اختاره الله إلى جواره مساء يوم الجمعة بتاريخ 14 من جمادى الأولى لعام 1441هـ الموافق 10 من يناير لعام 2020م. بعد نهضة شامخة أرساها خلال خمسين عامًا، منذ أن تقلد زمام الحكم فـي 23 من شهر عام 1970 للميلاد، وبعد مسيرة حكيمة مظفرة حافلة بالعطاء، شملت عمان من أقصاها إلى أقصاها، وطالت العالم العربي والإسلامي والدولي قاطبة، وأسفرت عن سياسة متزنة، وقف لها العالم أجمع إجلالاً واحترامًا.

وإذ يعلن ديوان البلاط السلطاني الحداد وتعطيل العمل الرسمي للقطاعين العام والخاص لمدة ثلاثة أيام وتنكيس الأعلام فـي الأيام الأربعين القادمة، ليدعو الله جلّت قدرته أن يجزي جلالته خير الجزاء، وأن يتغمده بالرحمة الواسعة والمغفرة الحسنة، وأن يسكنه فسيح جناته، مع الشهداء والصديقين وحسُن أولئك رفـيقًا، وأن يلهمنا جميعًا الصبر والسلوان وحُسن العزاء، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ويوقن به عباده الصابرون المحتسبون الراضون بقضاء الله وقدره وإرادته، إنا لله وإنا إليه راجعون، صدر فـي 15 من جمادى الأولى لعام 1441هـ، الموافق 11 من يناير لعام 2020 للميلاد).

أُعلن بأن الصلاة على السلطان قابوس فـي جامعه الأكبر، اتصلت بالصديق زكريا المحرمي لكي نذهب للصلاة، فقال: الطريق مغلق، وحضور الناس يقتصر على الرسميين من أجهزة الدولة والمجاورين للجامع. منيت نفسي بأن أجد طريقًا إلى الجامع، فركبت سيارتي واتجهت إلى الجامع عبر الشارع السريع، وجدت الشرطة سدت مخارجه وقفلت راجعًا.

انطوى الصباح بطيئًا متخشبين أمام شاشة التلفزيون حتى صلاة الظهر، بعد أداء الصلاة.. حملنا أنفسنا باتجاه بَهلا. كل شيء حزين، صوت السيارة يبكي، والبيوت واجمة، لا أحد يدخل إليها ولا يخرج منها، والطريق.. الذي لم يألف توقف الحركة؛ صامت إلا من بعض سيارات تتهدى فـي حركة أثقلها هم رحيل عاهل البلاد، وصلنا بَهلا التي لم نألفها من قبل بهذا الحال.

بَهلا.. التي لم أعش فـيها إلا فـي ظل حكم جلالة السلطان قابوس بن سعيد - طيّب الله ثراه. بَهلا.. التي ازدانت بمنجزات النهضة الحديثة، فإذا ذكر السلطان قابوس فـيها؛ ترجع بي ذكريات الطفولة إلى أيام الاحتفالات بالعيد الوطني، حيث تتوشح سككها الممتدة فـي عمق التاريخ بعَلَم الوطن؛ مشيرًا إلى زمن المجد الآتي، وعلى طريقها العام تنتصب أقواس الوطن مزدانة على جبينها المشرق بكلمات شمس العهد الجديد، وأبيات شعر تهنئ قائد مسيرته الظافرة. ذكريات ترجع إلى الأيام التي نقف فـيها على حافة الطريق منتظرين الموكب السلطاني يمر فـي جولته السنوية، عسى أن نحظى بنظرة لوجهه المليء حيويةً، ذي النفس التواقة لبناء مجد جديد لعمان، تزهو به بين الأمم.

بَهلا.. التي تشرفتْ أول مرة بزيارة جلالته مع مطلع حكمه السعيد فـي سبعينات القرن الميلادي المنصرم؛ والجًا بموكبه الميمون سورها الأزلي من «باب السيدي»، عبر شريانها الممتد إلى الحصن؛ مقر الحكومة حينها، وهناك التقى فـيها بشيوخ وأعيان ومواطني الولاية. لم أدرك تلك الزيارة؛ وإنما بقي ذكرها على ألسنة رطبة بالثناء على ذلك العهد المجيد، تطرب النفس كأنك بين الحاضرين. لقد استمع الآباء إلى ابن عمان البار قبل أن يستمعوا إلى سلطانها، واستمع الأبناء إلى مستقبل عمان قبل أن يستمعوا إلى قائدها المفدى، استمعوا له بمحبة وأمل بالخلاص من ماضٍ عانوا منه كثيرًا، واستمع هو إليهم وكل أمله أن يحقق آمالهم.

بَهلا.. التي بنى السلطان قابوس - كسائر عمان - إنسانها وأرضها؛ افتتح فـيها المدارس وأقام المستشفـيات وشق الطرق، وأمدها بسبل الحياة المعاصرة. اهتم بتاريخها؛ مظهرا دورها السياسي والعلمي، واهتم بتراثها؛ كاشفًا عمق ثقافتها فـي حضارة المنطقة، فرمم حصونها وجامعها وسورها، حتى أصبحت جوهرة على جيد التراث العالمي؛ فأدرجتْ ضمن قائمته باليونسكو عام 1987م. ثم توّجها جلالته طيب الله ثراه بجامع من أفخم الجوامع العمانية، افتتحه فـي 22 سبتمبر 2000م. لقد كانت زياراته تترى عليها، واتخذ فـيها موئلاً يفـيئ إليه كلما أراد أن يتنفس عبق حضارة عمان التليدة. وفـي عام 2013م تشرفت بَهلا بآخر زيارات جلالته، حيث نزل بموكبه السامي فـي سيح الشامخات، وأعلن عن مشروع كلية الأجيال، التي لا تزال نفوس أهالي الولاية تتوق إلى تنفـيذ هذا الصرح العلمي، وعقول بنيها متشوقة بأن تدرس فـي هذه الكلية، وتنتظر أمرًا ساميًا من لدن مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق دام مجده بتحقيق هذه الأمنية على أرض الواقع.

12 يناير 2020م.. اتجهت بصحبة زكريا المحرمي وابني ماجد إلى قصر العلم بمسقط، لأداء واجب العزاء فـي فقيد عمان الغالي. صافحنا اليد التي ارتضاها لتكون امتدادًا لروحه الخالدة فـي نفوس العمانيين.. صافحنا مولانا جلالة السلطان هيثم - حفظه الله - تعزيةً فـي فقيده، وتهنئةً لاستوائه على عرش السلطنة، فـي مشهد يقول إن حياة الأخيار باقية فـي نفوس الأوفـياء.

20 نوفمبر 2014م.. بعد أن أحرزت مكتبة الندوة العامة المركز الأول فـي جائزة السلطان قابوس للعمل التطوعي عام 2012م، تشرفت بَهلا بزيارة جلالة السلطان هيثم بن طارق أعزّه الله لما كان على رأس وزارة التراث والثقافة، احتفاءً بهذه المناسبة، ولتوجيه أبنائه فـي المكتبة، والوقوف على نشاطهم الثقافـي والعلمي، فدشّن قسمًا باسم «ركن السلطان قابوس للدراسات المعاصرة»؛ ذكرى محبةٍ لروح عمان.

22 فبراير 2020م.. أبّنا السلطان قابوس - طيّب الله - ثراه بأمسية فـي مكتبة الندوة العامة بمرور أربعين يومًا على رحيله، ليبقى حيًّا فـي نفوسنا، وباذخ المجد فـي بلادنا، ورجلَ سلام فـي ضمير الإنسانية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: دیوان البلاط السلطانی السلطان قابوس جلالة السلطان ب الله

إقرأ أيضاً:

افيه يكتبه روبير الفارس: "الدبدوب يجب أن يكون أسود"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

هناك اتساق نفسي وصدق مجتمعي لدى الجماعة الرافضة للاحتفال بعيد الحب. فبعيدًا عن سخافة اتخاذ "الدبدوب الأحمر أبو كرش" رمزًا للحب، إذ إنه قد يكون أكثر تعبيرًا لو صار رمزًا لحب المحشي، إلا أن هؤلاء لا يعترضون على الدبدوب نفسه، ولا على كرشه الذي قد يعده بعض الخبثاء إسقاطًا مباشرًا على الرجل المصري بعد الزواج.  

لكنهم بالفعل يجدون الحب غريبًا في بلادنا، مرفوضًا من الأكثرية. في المقابل، نجد أن الاحتفاء بالكراهية وتقديسها وتأصيلها وتفقيهها، بل وصدور مجلدات حولها، هو الواقع الحقيقي. والأسوأ من ذلك، ربط الكراهية بالله سبحانه وتعالى، وطلب البغض فيه ولأجله كطريق إلى جنته.  

مظاهر الكراهية تحيط بنا، وتتجلى في الحسد والنميمة والاغتياب والاغتيال المعنوي. وفي الوقت ذاته، يتم تلويث الحب وتقديمه في صورة مشوهة، مغلّفًا بالشهوات والنفاق والتزلق، ليصبح مثل الدبدوب الأحمر غير المريح، الذي يصنعه البعض محليًا ويحشونه بقطن ملوث من بقايا العمليات الجراحية أو بقطع ملابس ممزقة، فلا يبقى منه سوى الشكل، بينما يملؤه الداخل بكراهية سوداء.  

هذا المعنى ليس بعيدًا حتى عن أولئك الذين يرفعون شعار المحبة، بل وحتى عن الذين كتبوا أن "المحبة قمة الفضائل" أو تغنّوا بأن "الله محبة" وأن الوصية العظمى هي "أحبوا أعداءكم". تجد بينهم رجل دين خرج ليطلب الصلاة من أجل تنظيم داعش الإرهابي عقب قتلهم 21 قبطيًا في ليبيا، ليعبّر عن محبة الأعداء بصدق. لكنه نفسه هاجم أسقفًا قتله راهب مأجور، وقال مستنكرًا: "عايزين يحسبوه علينا شهيدًا"، بل ودافع عن القاتل، كأنه يستكثر إطلاق لقب "شهيد" على زميله، كما تفعل الجماعات الإرهابية حين ترفض وصف قتلاها بالشهداء.  

والأدهى من ذلك أن من يدّعي محبة أعدائه الأشرار، يطعن في شرف المتزوجين خارج كنيسته، ويصفهم بالزناة، بينما لا يجرؤ على إطلاق الوصف نفسه على الأغلبية التي تتزوج أيضًا وفق أنظمة أخرى، لا حبًا، بل نفاقًا وخوفًا.  

هذه النماذج، إلى جانب ازدهار الداعشية كفكر وممارسة، تجعلنا نطالب بإقامة عيد للكراهية ويكون إجازة رسمية لانه يناسب حياتنا وعقولنا! وعلى المصانع أن تصمم لنا دبدوبًا أسود يحتفظ بذلك الكرش الضخم، لأنه يناسب مدّعي الزهد والنسك الذين يبغضون في الله ويكتبون ترانيم عن الحب.  
إفيه قبل الوداع:  
- الله محبة والخير محبة (أغنية لأم كلثوم)  
- غني لي شوية شوية (أغنية لها أيضًا)

مقالات مشابهة

  • مركز السلطان قابوس لبحوث السرطان.. أبحاث نوعية لدعم علاج المرضى
  • إعلاميو “الأوفياء” يطمئنون على الحداد
  • جامعة السلطان قابوس تستضيف اجتماع لجنة عمداء كليات الطب الخليجية
  • بنك مسقط يدعو الطلاب لزيارة جناحه في "المعرض المهني" بجامعة السلطان قابوس
  • افيه يكتبه روبير الفارس: "الدبدوب يجب أن يكون أسود"
  • طالبة بجامعة السلطان قابوس تحصد "جائزة التجمع الإقليمي" لدول الشرق الأوسط
  • بحث مجالات التعاون العسكري بين سلطنة عمان وإيران
  • الاثنين المقبل.. افتتاح معرض جامعة السلطان قابوس المهني
  • فهد بن الجلندى يفتتح "سوق الإثنين" بجامعة السلطان قابوس
  • بحث التعاون بين جامعتي السلطان قابوس و"الإمارات العربية"