11 يناير 2020م.. صحوت على أذان الفجر، تصفحت هاتفـي فصدمني خبر رحيل السلطان قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه - عن دنيانا. ومع أن الوجل يصرّ على قلوبنا منذ أن أُعلن فـي عام 2014م عن ذهابه إلى ألمانيا لإجراء فحوصات طبية، وكان القلق يتصاعد كلما رأينا جسده يذوي بمرور الأيام، لكن الخبر هذه اللحظة نكت على القلب بشدة، همست لنفسي: الشائعات هذه الأيام تهطل كالمطر.
نزلت سريعًا إلى المجلس - ورغم أن جسد السلطان فـي العرض العسكري بمناسبة العيد الوطني التاسع والأربعين يفصح بوجهه ونظرات عينيه أنه لم يعد من عالمنا - قلت وأنا متجه إلى التلفزيون لأسمع الخبر اليقين: يا رب.. أجّلها من ساعة. لم ترد حينها فـي نفسي حسابات المرض والموت، ولا وضع عمان من بعده، فالقلب مشغول بهذا الرجل العظيم الذي بنى الدولة الحديثة، وافتتح طورًا من أطوار عمان الكبرى.
التلفزيون.. يبث القرآن الكريم، وعلى شريط شاشته نعي جلالته، وإعلان بانتظار بيان من ديوان البلاط السلطاني. انسحبتُ وذهبت أصلي.. دعوت الله أن يرحم السلطان ويبرم أمر خير ورشد لعمان ومستقبلها. تسمّرت أمام التلفزيون، ثم بدأ أفراد العائلة ينزلون ليصطفوا معي أمام الشاشة الفضية، التي غارت نظارتها وبدت أكثر شحوبًا منا. لا أحد يتكلم إلا الوجوه غشيها الحزن، والألسن تلهج بالدعاء لفقيد عمان.
المذيع.. وجهه يرشح بكاءً وهو يقرأ على الأمة العمانية بيان الوفاة: (نعي صادر من ديوان البلاط السلطاني.. ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي)). إلى أبناء الوطن العزيز فـي كل أرجائه، إلى الأمتين العربية والإسلامية، وإلى العالم أجمع، بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، وببالغ الحزن وجليل الأسى، ممزوجين بالرضا التام والتسليم المطلق لأمر الله، ينعى ديوان البلاط السلطاني المغفور له بإذن الله تعالى مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور المعظم، الذي اختاره الله إلى جواره مساء يوم الجمعة بتاريخ 14 من جمادى الأولى لعام 1441هـ الموافق 10 من يناير لعام 2020م. بعد نهضة شامخة أرساها خلال خمسين عامًا، منذ أن تقلد زمام الحكم فـي 23 من شهر عام 1970 للميلاد، وبعد مسيرة حكيمة مظفرة حافلة بالعطاء، شملت عمان من أقصاها إلى أقصاها، وطالت العالم العربي والإسلامي والدولي قاطبة، وأسفرت عن سياسة متزنة، وقف لها العالم أجمع إجلالاً واحترامًا.
وإذ يعلن ديوان البلاط السلطاني الحداد وتعطيل العمل الرسمي للقطاعين العام والخاص لمدة ثلاثة أيام وتنكيس الأعلام فـي الأيام الأربعين القادمة، ليدعو الله جلّت قدرته أن يجزي جلالته خير الجزاء، وأن يتغمده بالرحمة الواسعة والمغفرة الحسنة، وأن يسكنه فسيح جناته، مع الشهداء والصديقين وحسُن أولئك رفـيقًا، وأن يلهمنا جميعًا الصبر والسلوان وحُسن العزاء، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ويوقن به عباده الصابرون المحتسبون الراضون بقضاء الله وقدره وإرادته، إنا لله وإنا إليه راجعون، صدر فـي 15 من جمادى الأولى لعام 1441هـ، الموافق 11 من يناير لعام 2020 للميلاد).
أُعلن بأن الصلاة على السلطان قابوس فـي جامعه الأكبر، اتصلت بالصديق زكريا المحرمي لكي نذهب للصلاة، فقال: الطريق مغلق، وحضور الناس يقتصر على الرسميين من أجهزة الدولة والمجاورين للجامع. منيت نفسي بأن أجد طريقًا إلى الجامع، فركبت سيارتي واتجهت إلى الجامع عبر الشارع السريع، وجدت الشرطة سدت مخارجه وقفلت راجعًا.
انطوى الصباح بطيئًا متخشبين أمام شاشة التلفزيون حتى صلاة الظهر، بعد أداء الصلاة.. حملنا أنفسنا باتجاه بَهلا. كل شيء حزين، صوت السيارة يبكي، والبيوت واجمة، لا أحد يدخل إليها ولا يخرج منها، والطريق.. الذي لم يألف توقف الحركة؛ صامت إلا من بعض سيارات تتهدى فـي حركة أثقلها هم رحيل عاهل البلاد، وصلنا بَهلا التي لم نألفها من قبل بهذا الحال.
بَهلا.. التي لم أعش فـيها إلا فـي ظل حكم جلالة السلطان قابوس بن سعيد - طيّب الله ثراه. بَهلا.. التي ازدانت بمنجزات النهضة الحديثة، فإذا ذكر السلطان قابوس فـيها؛ ترجع بي ذكريات الطفولة إلى أيام الاحتفالات بالعيد الوطني، حيث تتوشح سككها الممتدة فـي عمق التاريخ بعَلَم الوطن؛ مشيرًا إلى زمن المجد الآتي، وعلى طريقها العام تنتصب أقواس الوطن مزدانة على جبينها المشرق بكلمات شمس العهد الجديد، وأبيات شعر تهنئ قائد مسيرته الظافرة. ذكريات ترجع إلى الأيام التي نقف فـيها على حافة الطريق منتظرين الموكب السلطاني يمر فـي جولته السنوية، عسى أن نحظى بنظرة لوجهه المليء حيويةً، ذي النفس التواقة لبناء مجد جديد لعمان، تزهو به بين الأمم.
بَهلا.. التي تشرفتْ أول مرة بزيارة جلالته مع مطلع حكمه السعيد فـي سبعينات القرن الميلادي المنصرم؛ والجًا بموكبه الميمون سورها الأزلي من «باب السيدي»، عبر شريانها الممتد إلى الحصن؛ مقر الحكومة حينها، وهناك التقى فـيها بشيوخ وأعيان ومواطني الولاية. لم أدرك تلك الزيارة؛ وإنما بقي ذكرها على ألسنة رطبة بالثناء على ذلك العهد المجيد، تطرب النفس كأنك بين الحاضرين. لقد استمع الآباء إلى ابن عمان البار قبل أن يستمعوا إلى سلطانها، واستمع الأبناء إلى مستقبل عمان قبل أن يستمعوا إلى قائدها المفدى، استمعوا له بمحبة وأمل بالخلاص من ماضٍ عانوا منه كثيرًا، واستمع هو إليهم وكل أمله أن يحقق آمالهم.
بَهلا.. التي بنى السلطان قابوس - كسائر عمان - إنسانها وأرضها؛ افتتح فـيها المدارس وأقام المستشفـيات وشق الطرق، وأمدها بسبل الحياة المعاصرة. اهتم بتاريخها؛ مظهرا دورها السياسي والعلمي، واهتم بتراثها؛ كاشفًا عمق ثقافتها فـي حضارة المنطقة، فرمم حصونها وجامعها وسورها، حتى أصبحت جوهرة على جيد التراث العالمي؛ فأدرجتْ ضمن قائمته باليونسكو عام 1987م. ثم توّجها جلالته طيب الله ثراه بجامع من أفخم الجوامع العمانية، افتتحه فـي 22 سبتمبر 2000م. لقد كانت زياراته تترى عليها، واتخذ فـيها موئلاً يفـيئ إليه كلما أراد أن يتنفس عبق حضارة عمان التليدة. وفـي عام 2013م تشرفت بَهلا بآخر زيارات جلالته، حيث نزل بموكبه السامي فـي سيح الشامخات، وأعلن عن مشروع كلية الأجيال، التي لا تزال نفوس أهالي الولاية تتوق إلى تنفـيذ هذا الصرح العلمي، وعقول بنيها متشوقة بأن تدرس فـي هذه الكلية، وتنتظر أمرًا ساميًا من لدن مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق دام مجده بتحقيق هذه الأمنية على أرض الواقع.
12 يناير 2020م.. اتجهت بصحبة زكريا المحرمي وابني ماجد إلى قصر العلم بمسقط، لأداء واجب العزاء فـي فقيد عمان الغالي. صافحنا اليد التي ارتضاها لتكون امتدادًا لروحه الخالدة فـي نفوس العمانيين.. صافحنا مولانا جلالة السلطان هيثم - حفظه الله - تعزيةً فـي فقيده، وتهنئةً لاستوائه على عرش السلطنة، فـي مشهد يقول إن حياة الأخيار باقية فـي نفوس الأوفـياء.
20 نوفمبر 2014م.. بعد أن أحرزت مكتبة الندوة العامة المركز الأول فـي جائزة السلطان قابوس للعمل التطوعي عام 2012م، تشرفت بَهلا بزيارة جلالة السلطان هيثم بن طارق أعزّه الله لما كان على رأس وزارة التراث والثقافة، احتفاءً بهذه المناسبة، ولتوجيه أبنائه فـي المكتبة، والوقوف على نشاطهم الثقافـي والعلمي، فدشّن قسمًا باسم «ركن السلطان قابوس للدراسات المعاصرة»؛ ذكرى محبةٍ لروح عمان.
22 فبراير 2020م.. أبّنا السلطان قابوس - طيّب الله - ثراه بأمسية فـي مكتبة الندوة العامة بمرور أربعين يومًا على رحيله، ليبقى حيًّا فـي نفوسنا، وباذخ المجد فـي بلادنا، ورجلَ سلام فـي ضمير الإنسانية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: دیوان البلاط السلطانی السلطان قابوس جلالة السلطان ب الله
إقرأ أيضاً:
التأكيد على الرجاء في الحياة الأبدية.. أبرز وصايا يوحنا
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
يعد القديس يوحنا الإنجيلي، الذي يُعتبر أحد أبرز الشخصيات في العهد الجديد، كان أحد التلاميذ الاثني عشر للرب يسوع المسيح وأحد المقربين منه، يُعرف أيضًا بلقب “اللاهوتي” بسبب عمق تأملاته اللاهوتية وكتاباته الروحية.
من خلال إنجيله، ورسائله، ورؤياه (سفر الرؤيا)، قدم لنا القديس يوحنا العديد من الوصايا الروحية التي تشدد على محبة الله، ومحبة القريب، والمساواة بين المؤمنين، والتوبة، والرجاء في المسيح. في هذا التقرير، نستعرض أهم الوصايا التي جاء بها القديس يوحنا
وصية المحبة
الوصية الأولى والأكثر تكرارًا في تعاليم يوحنا هي وصية المحبة. هذه الوصية تظهر بشكل بارز في إنجيله ورسائله.
قال يسوع المسيح في إنجيل يوحنا: “أوصيكم أن يحب بعضكم بعضًا كما أحببتكم أنا” (يوحنا 13:34). ويوحنا نفسه يكرر هذه الوصية في رسائله، مثلما جاء في 1 يوحنا 4: 7-8: “أيها الأحباء، لنحب بعضنا بعضًا، لأن المحبة هي من الله، وكل من يحب فقد وُلِد من الله ويعرف الله. من لا يحب لم يعرف الله، لأن الله محبة”.
القديس يوحنا يُؤكد أن المحبة ليست مجرد شعور، بل هي فعل إرادي، ويجب أن تكون محبة عملية موجهة نحو الآخرين، خاصة نحو المؤمنين.
كما أن المحبة لله تتجسد في محبة الإنسان لأخيه الإنسان، ما يعكس علاقة الله بالبشر
التأكيد على الأمانة للمسيح
في إنجيله، يركّز يوحنا على ضرورة الثبات في الإيمان والاتحاد بالمسيح. فقد قال يسوع في يوحنا 15:4 “اثبتوا فيّ وأنا فيكم”.
يُشير القديس يوحنا إلى أن المؤمن يجب أن يثبت في محبة المسيح، ويعيش في الاتحاد به، ليتمكن من الثمر الروحي.
الأمانة في الإيمان تعني أيضًا الحفاظ على التعاليم التي سلمها المسيح لتلاميذه، وعدم الانحراف عنها. في رسالته الأولى، يحث القديس يوحنا المؤمنين على التمسك بالحقيقة وعدم قبول البدع التي تحرف الإيمان عن طريق المسيح.
التوبة والغفران
القديس يوحنا يعلم أن الإنسان ليس معصومًا عن الخطأ، ولكن الله يقدم دائمًا فرصة للتوبة والغفران. في رسالته الأولى 1 يوحنا 1:9 يقول: “إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم”.
التوبة، وفقًا ليوحنا، هي طريق إلى العودة إلى الله وعيش حياة جديدة. يجب على المؤمن أن يعترف بخطاياه ويطلب المغفرة، مع السعي نحو حياة نقية تتسم بالبر والقداسة
التحذير من الحب للعالم
يوحنا يوجه تحذيرًا للمؤمنين من الانغماس في حب العالم والشهوات الزائلة. ففي رسالته الأولى 1 يوحنا 2:15 يقول: “لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب”.
القديس يوحنا يُظهر أن التعلق بالعالم المادي والشهوات الدنيوية يتناقض مع محبة الله، ويجب على المؤمن أن يتجنب هذا التعلق ليعيش حياة تسعى وراء الكنوز السماوية، لا الأرضية
التأكيد على الرجاء في الحياة الأبدية
أحد المفاهيم الرئيسية في تعاليم القديس يوحنا هو الرجاء في الحياة الأبدية. في إنجيله، يروي يوحنا كلمات يسوع: “من يؤمن بي فله حياة أبدية” (يوحنا 6:47). كما يُعلّم يوحنا في رسالته الأولى 1 يوحنا 5:13 قائلاً: “كتبتُ إليكم هذا لتؤمنوا باسم ابن الله، ولكي تعلموا أن لكم حياة أبدية”.
الرجاء في الحياة الأبدية لا يقتصر فقط على الموعود به بعد الموت، بل يمتد ليشمل الحياة الجديدة التي يبدأها المؤمن بمجرد إيمانه بالمسيح.
التحلي بالروح القدس
القديس يوحنا يعظ بأهمية عمل الروح القدس في حياة المؤمن. ففي يوحنا 14:26، قال يسوع: “وأما المعزّي، الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم”.
الروح القدس هو القوة التي تساعد المؤمن على عيش حياة القداسة، وعلى فهم تعاليم المسيح بشكل أعمق. كما أن الروح القدس يُؤثّر في المؤمن ليعيش الحياة الجديدة التي يدعوها المسيح
الشهادة للمسيح
في إنجيله ورسائله، يشدد القديس يوحنا على ضرورة الشهادة للمسيح في يوحنا 1:7، نجد يوحنا المعمدان يشهد للمسيح قائلاً: “هوذا حمل الله الذي يحمل خطية العالم”. الشهادة للمسيح لا تقتصر فقط على الكلمات، بل تمتد إلى الحياة التي يجب أن تجسد الإيمان بالمسيح.