تشير الأمم المتحدة إلى وجود أزيد من 258 مليون شخص مهاجر حول العالم، أي ما يمثل 3.4 في المائة من مجموع سكان العالم، وتمثل تحويلاتهم المالية نحو 450 مليار دولار، أي نحو 9 في المائة من الناتج الخام العالمي. وتعد مسألة الهجرة واحدة من أكبر المجالات التي تشغل بال الخاص والعام، وتوضع لها السياسات العمومية، وتُصرف عليها ميزانيات ضخمة؛ ولكن للأسف الشديد أضحت بعض المياه الدولية، مثل المياه المتوسطية، مقبرة لمئات من المهاجرين الذين تنقلهم قوارب الموت من الضفة الجنوبية نحو شمال المتوسط، هروباً من الفقر أو الحروب، وبحثاً عن عيش آمن.
وهناك حقائق مريرة وأرقام مخيفة تقدمها بين حين وآخر تقارير الأمم المتحدة، بخصوص حركة المهاجرين السريين واللاجئين عبر البحر الأبيض المتوسط. وكل هاته الأرقام توحي بارتفاع مأساوي في عدد الوفيات، بمعنى أن المياه المتوسطية تشكل مقبرة حقيقية للمهاجرين القادمين من أفريقيا والدول العربية والشرق الأوسط.
كما أن المهاجرين الذين يحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط عبر بلدان مثل ليبيا، يتعرضون لأساليب متنوعة من العنف، كالاختطاف والتعذيب والابتزاز.
ومما يزيد الطين بلة، أن الدول الأوروبية تقوم بوضع حزمة من القوانين اللامتناهية، والإجراءات المتنوعة والصارمة، لمنع وصول المهاجرين إلى أوروبا، أو لطردهم من هناك، فإيطاليا تبنت قانوناً مطلع فبراير (شباط) الماضي، يقيد عمل سفن الإنقاذ الإنسانية في مساعدة قوارب المهاجرين المتهالكة بالمتوسط؛ وبدأت دول الاتحاد تستعمل طائرات مُسيَّرة وأجهزة مراقبة تحت مائية، ورادارات ثلاثية الأبعاد، وآلات استشعار متطورة، لرفع مستوى الأمن على حدودها الخارجية، ولكن هذا كله يجعل المناطق الحدودية أكثر خطورة على الأشخاص؛ كما أنه يفاقم العنف، ويمنح حرس الحدود سلطة كبيرة.
كما أن كثيراً من الدول الأوروبية تحاول تطوير الذكاء الاصطناعي في عمليات القبض على المهاجرين السريين وعسكرة الحدود؛ غير أن الخبراء الدوليين يحذرون من أن هذا المنحى يطرح مخاطر مخالفة القوانين الدولية الإنسانية، مثل انتهاك الحياة الخاصة، وما يمكن أن ينجم عن الخلل في الخوارزميات وغيرها، إضافة إلى "انعدام الوضوح على صعيد المسؤولية"؛ وهو قادر أيضاً على أن يزيد بشكل هائل المخاطر حيال الأمن والسلامة، وينتهك الحقوق المدنية، ويزرع الريبة ويفقد الثقة عند جمهور الناس، ناهيك من نشر الأخبار المضللة التي قد تُحدث كل أنواع الفتن.
إن المشكلة الكبرى اليوم، أن الدول الأوروبية غير متفقة على آليات إنقاذ المهاجرين عبر البحر، وضمان وصولهم إلى البر. ونحن نعلم أنه من الواجب إنقاذ الأشخاص المعرضين للخطر في البحر من دون تأخير؛ هذه قاعدة أساسية تدرس للطلبة في مادة القانون البحري الدولي؛ ولكن هَمّ كل دولة هو عسكرة حدودها براً وبحراً، لمنع وصول المهاجرين غير الشرعيين؛ وكل دولة تتفنن في وضع قوانين وإجراءات صارمة لإيقاف زحف المهاجرين غير المرغوب فيهم.
وأقول هنا: "غير المرغوب فيهم"؛ لأنه عندما تكون بعض المجالات تعرف نقصاً في الكفاءات، فإن المهاجرين الذين يتوفرون عليها يصبحون مرغوبين، كما هو شأن القطاع الصحي.
فهناك مثلاً توجه لدى الحكومة الفرنسية يرمي إلى تسهيل قدوم الأطباء الأجانب، عبر منحهم بطاقة إقامة خاصة بهم؛ وهذا الإجراء يزيد من مخاوف الدول المغاربية وأفريقيا الفرنكفونية التي تزود المستشفيات الفرنسية بالعاملين في القطاع الصحي، من عملية "نهب" واسعة لطبقتها المتعلمة والماهرة في هذا القطاع؛ وهي التي استثمرت فيها في الجامعات والمستشفيات بين 7 و10 سنوات تدريساً وتكويناً، لتصبح في النهاية عرضة للهجرة المرغوب فيها. وفي المملكة المتحدة، يوجد طبيب أجنبي واحد من كل 3 أطباء يعملون في المستشفيات العامة، ينحدر معظمهم من الهند ومصر ونيجيريا.
إن المنطق يقضي بأن تتبنى الدول شمال المتوسط آليات تساهم في أنسنة الهجرة، عبر تسهيل نقل المعلومات واستيعاب المهاجرين وتبادل الخبرات، والحد من العوامل السلبية التي تمنع المواطنين من العيش الكريم في بلدانهم الأصلية، وتهيئة الظروف التي تمكّن جميع المهاجرين من إثراء المجتمعات، من خلال قدراتهم البشرية والاقتصادية والاجتماعية، ودمجهم لدفع التنمية على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية.
ولكن ما تقوم به هاته البلدان من إجراءات "لإدارة" الهجرة، وضبط تدفقات طالبي اللجوء، والحد من مجيء المهاجرين غير المرغوب فيهم، وتشجيع أولئك المرغوب فيهم لضمان استمرار أنظمتها الصحية أو قدراتها الهندسية والبحثية التي تعاني من مشكلات هيكلية، تُعدّ مسألة خطيرة جداً، وتقوض أنسنة الهجرة التي تدعو إليها المواثيق الدولية؛ لأن الهجرة يجب أن تكون وسيلة لتحقيق التنمية في دول الجنوب، وليست سبباً لاستنزاف قدراتها. ومثل هاته الإجراءات ستؤدي إلى هجرة جماعية لأطباء دول جنوب المتوسط، وللصيادلة وللمهندسين وللأساتذة المبرزين؛ وإلى تقليل فرص سكان بعض الدول المغاربية وأفريقيا جنوب الصحراء في الحصول على العلاج، وإلى سرقة نخبة متكونة ومتعلمة تحتاجها هاته البلدان في عمليات التنمية.
الشرق الأوسط
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الهجرة أوروبا اللجوء أوروبا البحر المتوسط لجوء هجرة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة کما أن
إقرأ أيضاً:
بوتين يحذر الدول التي تزود أوكرانيا بالسلاح ضد روسيا
حذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم الخميس من أن موسكو لا تستبعد ضرب الدول التي تستخدم أوكرانيا أسلحتها ضد الأراضي الروسية، وذلك بعدما ضربت كييف العمق الروسي مستخدمة صواريخ أميركية وبريطانية.
وقال بوتين -في خطاب بثه التلفزيون العام- إن "الصراع بدأ يأخذ طابعا عالميا".
وأضاف "نعتبر أن من حقنا استخدام أسلحتنا ضد المنشآت العسكرية العائدة إلى دول تجيز استخدام أسلحتها ضد منشآتنا، وفي حال تصاعد الأفعال العدوانية سنرد بقوة موازية".
كما أكد أن الهجوم الذي شنته بلاده اليوم على أوكرانيا جاء رد فعل على الضربات الأوكرانية لأراض روسية بصواريخ أميركية وبريطانية في وقت سابق من الأسبوع الجاري.
وأعلن أن روسيا سوف توجه تحذيرات مسبقة إذا شنت مزيدا من الهجمات باستخدام مثل هذه الصواريخ ضد أوكرانيا كي تتيح للمدنيين الإجلاء إلى أماكن آمنة، محذرا من أن أنظمة الدفاع الجوي الأميركية لن تكون قادرة على اعتراض الصواريخ الروسية.
عابر للقاراتواتهمت كييف في وقت سابق اليوم الخميس روسيا بإطلاق صاروخ عابر للقارات قادر على حمل رأس نووي على أراضيها، وهو أول استخدام لهذا السلاح ويشكل تصعيدا غير مسبوق للنزاع والتوترات بين روسيا والغرب.
وقال سلاح الجو الأوكراني في بيان إن القوات الروسية استخدمت الصاروخ في هجوم في الصباح الباكر على مدينة دنيبرو (وسط) شمل أنواعا عدة من الصواريخ واستهدف منشآت حيوية.
وقال مسؤول أميركي كبير إن موسكو "تسعى الى ترهيب أوكرانيا والدول التي تدعمها عبر استخدام هذا السلاح أو إلى لفت الانتباه، لكن ذلك لا يبدل المعطيات في هذا النزاع".
ويأتي الهجوم في وقت بلغت التوترات أعلى مستوياتها بين موسكو والغرب، مع اقتراب عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني المقبل، والتي ينظر إليها على أنها نقطة تحول.
وعلى الطرف المقابل، استخدمت أوكرانيا قبل أيام صواريخ أتاكمز الأميركية التي يبلغ مداها 300 كيلومتر، وذلك لأول مرة ضد منشأة عسكرية في منطقة بريانسك الروسية بعد حصولها على إذن من واشنطن.
كما أكدت موسكو أن أنظمة الدفاع الجوي لديها أسقطت صاروخين من طراز "ستورم شادو" (ظل العاصفة) بريطانية الصنع، و6 صواريخ أميركية من طراز هيمارس، و67 طائرة مسيرة.
وزودت دول غربية عدة كييف بصواريخ بعيدة المدى، لكنها لم تسمح باستخدامها على الأراضي الروسية خوفا من رد فعل موسكو.
وعززت روسيا تحذيراتها النووية في الأيام الأخيرة، وفي عقيدتها الجديدة بشأن استخدام الأسلحة النووية -التي أصبحت رسمية أول أمس الثلاثاء- يمكن لروسيا الآن استخدامها عند وقوع هجوم "ضخم" من قبل دولة غير نووية ولكن مدعومة بقوة نووية، في إشارة واضحة إلى أوكرانيا والولايات المتحدة.