أي محاولة لحصر الإنسان في نظام مغلق وقبلي محكوم عليها بالفشل.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 13th, January 2025 GMT
الكتاب: ما الثورة الدينية.
المؤلف: داريوش شايغان. ترجمة: د. محمد الرحموني.
الناشر: دار الساقي بالتعاون مع المؤسسة العربية للتحديث الفكري. بيروت 2004.
الدين أمام التحدي الغربي للحداثة
نشهد منذ وقت قصير ظاهرة جديدة تبدو وكأنها تكذب توقعات التاريخانية هي الانفجار المفاجئ للإنسان المتدين الذي اقتحم فجأة التاريخ / ساعياً إلى القضاء على كل القيم التي تراكمت عبر خمسة قرون من العلمنة.
وكان الإنسان الصانع، كما يقول كاسيرر، هذا الانفجار العتيق (توماس مان، في خدمة الإنسان الساحر. ولأن هتلر كان كاهن ديانة جديدة منافية للعقل، فقد كان عليه أن ينشر هذه الديانة بطريقة منهجية، ومن دون ترك أي شيء للصدفة. ويتقولب عالم النفس البدائية في هذه الديانات الدنيوية الجديدة في قوالب مجتمع منظم بكل العقلانية اللامعقولة Leistungsgesellschaft. لقد أصبحت الأيديولوجيا ديانة، ولكن هذه الديانة بقيت غائبة كموروث، ومن هنا هيجانها وعدوانيتها والغياب التام لكل اعتبار أخلاقي. ومن هنا أيضاً المعايرة الدقيقة بين عقل مقتصر على المكر الأكثر خداعاً ووجدان مخفوض إلى مستوى عاطفية شرسة. وخشونة النهج - كما كتب روشننغ Rauschning - محسوبة بدقة. ويكاد كل ما في السلوك من فظاظة، وما في شكل الحكم من همجية، يرمي إلى إعطاء انطباع عن قوة بدائية وهمية. هذا الإيثار للنهج العنيف، وهو نهج ثوري أصلاً، لا ينقصه التناغم مع الطريقة التي تستنفر بها القومية الاشتراكية -بتفنن ناجح- العاطفة الغريزية للبرجوازي الصغير.
إن بنية الأيديولوجيات المختزلة، بإلغائها ملكة الروح المبدعة، لا تستطيع، ضمن سياق أدلجة شمولية ومفرطة، إلا أن تُفضي إلى أن يواجه الإنسان الساحر بصفة متفجرة الإنسان الصانع. وقد حدث ذلك في ألمانيا في ظل الحكم القومي الاشتراكي. وإذا ما انخرط الدين في لعبة الأيديولوجيات، فإنه يحطم الدساتير الثقافية التي تبلور وتصون معاً أشكال الفكر الرمزية، ويقتحم على غير هدى من ناحية أخرى، مجالاً يجهله ويواجه عالماً يتجاوزه تاريخياً، نظراً إلى أنه لا يوجد فرق في الدرجة بين الدين والعلم الحديث، بل يوجد انقطاع، أي قطيعة إبستمولوجية، بين مستواه والمستوى الذي يليه والمتطور عليه تاريخياً. وقد سمح الدين، في شكل ما، بأن يغلفه نتاج خمسة قرون من العلمنة التي يزداد تأثيرها فيه على قدر بقائه مستعصياً على لغتها. وهو أي الدين يسقط في أحبولة التاريخ، ويتخذ شكله الطاغي ويتحمل مقتضياته، ويصبح في المحصلة الوجه الديني البديل لشكل جديد من الفاشية.
الدين يستطيع، بوصفه حاوي كنوز الإنسانية الروحية المساهمة في الثورة الروحية والفردية للإنسان، ويقدر حتى على إلهام حركات سياسية كما كان الشأن في أحيمسا Ahimsa غاندي، ولكنه لا يستطيع تكوين نظرة جماعية إلى العالم Weltanschauung، لأن الشكل المهيمن في عصرنا الحاضر يبقى شكلا فكرياً مؤدلجاً، ولأن كل دين باعتباره شاملاً بطبيعته لكل من القطاع العام والقطاع الخاص، فإن أي محاولة لتحقيقه كنظام سياسي ستحوله إلى نظام شمولي، ولا سيما أن الأيديولوجيات تضطلع في وقتنا الحاضر بالوظيفة التي كانت تؤديها الميثيولوجيات في العالم الديني القديم.لقد أفل زمن الدين كنظام اجتماعي وسياسي، ولكن الإنسان الساحر، في مقابل ذلك، هو الذي يبرز من بين أنقاض الدين لكي يلغي بحنقه المدمر الإنسان الصانع. ولكن بخلاف الأنظمة الفاشية التي لا يتلاشى في صلبها الإنسان الصانع بل يبقى مهيجاً بقوة الغرائز المنفلتة من عقالها، فإن النظام الديني عاجز عن إنجاز أي تجلية تقنية أو اقتصادية. فالدين يستطيع، بوصفه حاوي كنوز الإنسانية الروحية المساهمة في الثورة الروحية والفردية للإنسان، ويقدر حتى على إلهام حركات سياسية كما كان الشأن في أحيمسا Ahimsa غاندي، ولكنه لا يستطيع تكوين نظرة جماعية إلى العالم Weltanschauung، لأن الشكل المهيمن في عصرنا الحاضر يبقى شكلا فكرياً مؤدلجاً، ولأن كل دين باعتباره شاملاً بطبيعته لكل من القطاع العام والقطاع الخاص، فإن أي محاولة لتحقيقه كنظام سياسي ستحوله إلى نظام شمولي، ولا سيما أن الأيديولوجيات تضطلع في وقتنا الحاضر بالوظيفة التي كانت تؤديها الميثيولوجيات في العالم الديني القديم. وبما أن عالمنا عالم مفتوح وشبكة من الاتصال الكوني، فإن أي محاولة لحصر الإنسان في نظام مغلق وقبلي محكوم عليها بالفشل من أول وهلة لأن حساسية إنسان اليوم لا تطيق البنيان الانفعالي الذي تنطوي عليه الأشكال العتيقة للدين.
التوليفة ما بين الدين والحداثة
ولكن لماذا يجب أن يكون الأمر كذلك؟ ولم يتحتم ألا يكون للثقافات الكونية الكبرى التي بقيت خارج إشعاع التاريخ الغربي، من مخرج سوى مواجهة قوانين لعبته؟ لقد طرحنا على أنفسنا في سعينا إلى الإجابة عن هذين السؤالين الإشكاليين عدة أسئلة أخرى تلتقي كلها عند الحدث الأكبر للقرون الخمسة الأخيرة، أي الانقلاب الكلي للعلاقات التي تربط الإنسان بالطبيعة وبالله، وهي فجوة أساسية برزت مع بداية العصر العلمي ـ التقني، فجوة ذات بعد مأساوي إلى درجة أننا نستطيع أن نعتبرها بمثابة التحول التاريخي الثاني للإنسانية.
وكي نصف موقف الحضارات التقليدية إزاء هذه الفجوة فقد استهلم المفكر الإيراني بصورة أساسية مأثورات إسلامية وهندية. ولا تشتمل هاتان السنتان على كافة ديانات العالم، ولكن تكفي هذه الأمثلة كي تبين أن الحضارات التقليدية هي ذات مصير تاريخي واحد برغم تنوعها الثقافي، وذلك بسبب القطيعة الجوهرية التي أحدثتها بداية العصور الحديثة.. ذلك أنه من دون معرفة، ولو إجمالية، بهذا العالم الذي تنطوي عليه هذه الطريقة في النظر إلى الأشياء، فإن التحولات التي خضعت لها البشرية بفعل الريضنة الغاليلية للعالم ما كانت لتبرز بما فيه الكفاية التغيير الهائل الذي مثله هذا الانقلاب الشامل للقيم مقارنة بنظرة الإنسان القديمة إلى العالم.
وللإجابة عن السؤال حول كيفية تصرّف الحضارات التقليدية التي لم تشارك في تاريخ القرون الخمسة الأخيرة، ولا تحملت نتائج هذا التحول الثاني للعصور التاريخية حتى تسد هذه الفجوة وتصبح قوة فاعلة في مسار التاريخ، سنرى أن نقطة التقارب بين هذين العالمين على الأقل في الميدان الجماعي، يجب أن تكون أرضية تستطيع إرضاء مقتضيات هذا ومتطلبات ذاك في الوقت نفسه، ويخرج فيها كلا العالمين من مداره ليكونا معاً كوكبة ثالثة قادرة على التوفيق والجمع بين الاثنين. ولكن بما أنه لا يمكن تصور توليف حقيقي بين هذين العالمين (من دون نزع الصبغة الميثية عن الطبيعة والقيام بعملية تأويلية)، فإن نتيجة هذا الالتقاء ستكون دائماً شكلاً جديداً من الفكر لن يكون فلسفياً محضاً، ولن يكون دينيا أيضاً: إنه شيء ما بين الاثنين، يأخذ من الدين طاقته الوجدانية، ومن الفلسفة مظهرها العقلاني والاستدلالي، وسوف يكون هذا الشكل الهجين هو الايديولوجيا.
ودأبت مؤلفات المفكر التونسي الراحل هشام جعيط القارئة للتاريخ الإسلامي، سواء بثلاثية "السيرة النبوية" أو "الفتنة، جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر" أو "نشأة المدينة العربية الإسلامية" بأجزائها، و"أزمة الثقافة الإسلامية" على بحث إشكالية الهوية والتراث وقضايا الحداثة والتحديث، والكشف عن ملامح ولوج المسلمين للحضارة الحديثة، من خلال ما يسميه "الطموح" في مجالات المعرفة والثقافة والفنون والعلوم، ولهذا يعيد إعادة تركيب الجدلية التي كانت قائمة ما بين "إبقاء" على القديم، أو "انتقاء" ما أمكن أخذه من الآخر، لتصبح القضية عنده، مسألة بقاء في "الوجود التاريخي" كما يقول، وعلى اعتبارٍ حاسم، وهو أن الحداثة "تيار لا يُقاوَم، فهو المجرى الحتمي للتاريخ" على ما ورد في كتابه "أزمة الثقافة الإسلامية".
ويلخّص المفكر الراحل، بنفسه، نظرته لتعب السنين الكثيرة التي قضاها في قراءة تاريخ الإسلام وتأليف المصنفات التي تركت أثرها شرقا وغرباً بأكثر من لغة، وخُلاصة قوله الذي يمكن أن يستقى منه، سبب تناقض الآراء حياله، عندما يطرح سؤال الهوية، مفصّلا عن نوع الهوية المطلوب الحفاظ عليه، فيجيب بنفسه: "الحفاظ يكون على اللغة، مع إثرائها، وعلى الانتماء الديني، كمعتقد أو ثقافة أو قيم. فنحن مجتمعات عربية إسلامية". ليصل إلى فحوى كل هذا الجهد الذهني، بأن التراث من وجهة التراث التاريخي، وليس الإسلام الديني أو الروحي، يتعارض، كما يقول، مع قيم الحداثة.
إقرأ أيضا: لماذا ترفض الثورة الدينية الحداثة؟ كتاب يقرأ علاقة المشروع الإسلامي بالغرب
إقرأ أيضا: التحول الواعي من العالم الديني إلى واقعنا الحديث يتطلب موقفا نقديا.. قراءة في كتاب
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الدينية الفلسفة علاقات كتاب دين عرض فلسفة كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة أی محاولة من دون ما بین
إقرأ أيضاً:
عميد كلية بيت لحم: ما يحدث في غزة إبادة.. وصمت العالم خيانة للإنسانية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال الدكتور القس منذر إسحق عميد كلية بيت لحم للكتاب المقدس، إن أمس الأحد كان ثاني أحد شعانين في ظلّ الإبادة، واستقبل أهلنا في غزة هذا العيد في ظلّ هجوم على المستشفى الأهلي التابع للكنيسة الأسقفية الشقيقة والملاصقة للكنيسة، وأخبار عن تدمير مبنيين فيه وإخلاء كلّ ما في المستشفى، مشاهد تُبكي، كلّ هذا في ظلّ تهديدات خطيرة بالتهجير القصريّ.
وأضاف “اسحق” خلال الكلمة التي ألقاها بالكنيسة في فلسطين، أن الإنسانيّة في أزمة حقيقيّة، هي في أزمة منذ السقوط وأرضنا كان لها النصيب الكبير من الويلات، ولكن ما يحصل اليوم في غزة فعلاً لا يُطاق، عام ونصف من الجحيم الحقيقيّ وغياب الرحمة، ويلوموننا عندما نتكلّم عن صمت العالم أو صمت الكنائس، لا يجب أن نتوقف عن الكلام عن غزة، ففي هذا خيانة لإنسانيّتنا وإنسانيّة أهل غزة، ألا يكفي إنكار الإبادة؟
واستطرد “إسحق” ، أنه في بداية أسبوع الآلام، لا يمكننا إلا أن نوجّه صرخة ألم وعتاب، صرخة غضب وقهر، إلى الله أولاً، ونقول له، ارحم أهل غزة، فقد نالوا من الويلات ما يكفي وأكثر. مع المزمور نقوِل: " لأنه قد شبعت من المصائب نفسي، وحياتي إلى الهاوية دنت. حسبت مثل المنحدرين إلى الجب. صرت كرجل لا قوة له. بين الأموات فراشي مثل القتلى المضطجعين في القبر، الذين لا تذكرهم بعد، وهم من يدك انقطعوا." (مزمور ٨٨).
وتابع" إسحق" : وهي صرخة ألم وغضب إلى العالم العربي، وإلى العالم الغربي الكاذب الذي يتغنّى بالمواثيق والمعاهدات، عالم يفتقد إلى الرحمة، إلى الضمير والإنسانيّة، واليوم نصرخ كما صرخنا قبل ألفي عام: "أوصنا،" أي خلّصنا. خلّصنا من الموت والدمار، من الخوف، من الأنانيّة والطمع، من التطرّف، من الإبادة، من الوحشية وغياب والرحمة، خلّصنا وخلّص عالمنا، خلّص غزة واليمن والسودان وسوريا واوكرانيا و كل مكانٍ فيه موت ودمار.
وأشار "إسحق"، إلي أن الألم والمذابح، الخوف والهلاك، كلّها جزء من خلفيّة قصة الانجيل في بداية أسبوع الآلام. يبدأ اليوم أسبوع الآلام، ونرافق يسوع في الأسبوع الأخير من حياته على هذه الأرض. أسبوع مليء بالتحديات والتناقضات، وطبعًا الآلام. بدأ بالاحتفال والتظاهر وانتهى بقيامة من الموت، لكن ليس قبل أن يمرّ بالآلام.
واضاف “عميد كلية بيت لحم”، أن المُلفت في هذا الأسبوع هو التناقض بين الأحد الأول وما تلا ذلك من مجادلات ومحاكمة وإعدام، وبدأ الأسبوع باحتفال، فيه تنصيب ملوكي، ونكهة الانتصار، وإن كان بنكهة أخرى، لأنه دخل على حمار لا مركبات الحرب. كان هناك تفاؤل حقيقيّ بقرب الانتصار.
وأكد الدكتور منذر، أن المشكلة أننا في يأسنا وخوفنا وقهرًا كثيرًا ما لا نعرف ما نحتاج، نريد أن نواجه العالم بأسلوب العالم، أن نستبدل ممالك العالم بممالك مشابهة، فعلاً التناقض غريب، فكيف اختلفت الأمور وانقلبت في أيامٍ قليلة.
وتابع “إسحق” : في رحلتنا في الأسبوع الأخير من حياة المسيح على الأرض، الاثنين إلى الخميس، سنرى المسيح يتصادم مع أهل القدس وحكامها، ما أسميه المؤسستين الدينيّة والدنيوية، والشعب التائه بين هذا وذاك! فهو أعلن، لا تعطوا لقيصر أكثر مما يستحق، وقدّم طريقًا جديدًا للملك – طريق التضحية وخدمة الآخر. وسنراه ملكًا يغسل أرجل تلاميذه – لا العكس
واستطرد ، وفي هذه الأيام، تصادم أيضًا مع المؤسسة الدينية، معلنًا أن لا شريعة سوى شريعة المحبة، ومشدّدًا أن القلب النقي وفعل الخير ومساعدة القريب هي جوهر الإيمان. وتكلّم أيضًا عن روح الله الذي فينا الذي يرشدنا للحق – لا عن وكالة الدين والشريعة أو عن دور إفتاء تفكّر عن الإنسان وتتحكم بقراراته أو تفرضها، وتسخّر الدين للسيطرة على البشر، ومن أجل المصالح الشخصيّة. كان فكره راديكاليّا ومتحرّرًا للغاية، حتى بمعايير اليوم.
وأشار “إسحق” إلي أن دخول المسيح إلى القدس كان لمواجهة مملكة العالم أو الإمبراطورية، أو فكر قيصر، هي تعبير لفكرة السيطرة والتحكم بالآخر وموارده وتسخيره من أجل مصالحك ونمو امبراطوريتك، تحت مسمّى نشر السلام والحضارة والرقي أو حتى الديموقراطية.
وأضاف “إسحق ” أن المؤسسة الدينية هي فكرة الشريعة الدينية الدنيوية التي تتحكم بالإنسان وحريته وعقله تحت مسمى تحقيق إرادة الله وشرعه على الأرض. هي تفويض الإنسان نفسه وكيلاً لله على الأرض لفرض الشرائع الدينية – افعل، ولا تفعل؛ يجوز ولا يجوز؛ محلل ومحرم؛ طاهر ونجس، بقصد إرضاء الله، وتفويض الإنسان نفسه وكيلاً على الأرض ليقول هذا لي بحقّ إلهي، واليوم، نتذكر أنه دخل القدس ملكًا – ليتحدى أولاً مفهوم الـُملك بفكر الإنسان، وليبدأ بتأسيس مملكة جديدة على هذه الأرض؛ مملكة فيها الملك يركب على حمار، متواضع ووديع، يَخدِمُ لا يُخدم، يُضحّي من أجل شعبه، لا يطلب من شعبه أن يُضحّي من أجله. مملكة الحرية وسلام الإنسان مع الله والناس؛ مملكة الحقّ والعدل والمصالحة. دخل القدس ليعلن نفسه السيّد والربّ (لا قيصر!)، ولينشر شريعة المحبة والتضحية، دخل متحديًّا، فلاقى الموت والآلام.
وتابع : وهكذا حاكمه العالم والدين “الخميس والجمعة”، وقتله، وما زلنا نعيش ضحايا لذات الأمور - الاستعمار تحت مُسمّى الدين - ما زلنا ضحايا منطق الحقّ للقوة، ومنطق تفويض الإنسان لنفسه وكيلاً لله على الأرض من أجل المصلحة الذاتية وإقصاء وحتى إبادة الآخر، وإعطائها مسميات دينية تبدو سامية، في القدس، حتى ابن الله يُصلب، وما زلنا في إيماننا نصرخ له "أوصنا"، لأننا نرفض الخضوع لليأس، ما زال أطفال فلسطين يصرخون "أوصنا"، وإن صمتت غزة، بيت لحم والقدس ورام الله والناصرة تصرخ عنهم وعنّا "أوصنا"، اليوم هكذا نقاوم، بأن نقف شامخين حاملين هذه الشعنينة بوجه الظلم صارخين إلى السماء "أوصنا".
واستطرد ، ليكن لنا إيمان اليوم، لنصرخها بإيمان “أوصنا” وكأتباع ليسوع هنا في ذات المكان وبعد ألفي عام، لنتذكر أن خلاصنا ليس مرتبطًا بإنسان ما، أو مملكة بشريّة ما، أو منظومة فكريّة بشرية، وإلا فسنبقى ننتظر، الخلاص الذي أتى من أجله المسيح هو أولاً خلاص الإنسان من دينونة الخطيئة، ومن سطوة الخطيئة على حياتنامن الأنا، من الكبرياء، من العظمة، أتى ليموت على الصليب، وليرينا طريقًا أفضل، بل وليقوينا لحياة أفضل بقوة روحه. فنعيش بنهج المحبة؛ الخير؛ الصدق؛ العدل هذه قيمنا، هذه مفرداتنا هذا هو خلاص المسيح. دخل المسيح إلى القدس ليصالحنا مع الله، في الصليب، صليب المصالحة مع الله أولاً، ومن ثمّ مع أخينا الإنسان، لهذا نصرخ أوصنا. هنا نهج الخلاص.
واختتم الدكتور القس منذر إسحق عميد كلية بيت لحم للكتاب المقدس، كلمته قائلا، سنبقى نصرخها حتى نرى القيامة، عندما سنراه ملكًا مقامًا منتصرًا، على أشرس أعداء البشرية جمعاء، أي الموت. سنراه بقيامته يدشّن مملكةً تحدت قياصرة العالم؛ مملكة انتشرت وعاشت؛ كانت وما زالت وستكون، مملكة ابن الإنسان؛ "فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ، سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ "، مملكة العدل والبرّ والحقّ، آمين تعال يا ربّ بروحك والمس أراضينا، لكي نرى حقّك وعدلك في أرضنا، وابدأ فينا في ذواتنا في قلوبنا - آمين.