في عالم الفن والموسيقى، تتجلى روعة الإبداع في قدرة الصوت على مخاطبة الروح بلغة تتجاوز حدود السمع المجرد. هذا النص الأدبي الثري يأخذنا في رحلة فلسفية عميقة، يستكشف من خلالها العلاقة المتشابكة بين الموسيقى والحواس الخمس، مسلطا الضوء على الطبيعة الشمولية للتجربة الموسيقية. ومن خلال حوار خيالي بين شخصيات أدبية، يتعمق النص في مفهوم الذوق الموسيقي، متجاوزا الفهم التقليدي للاستماع ليشمل تفاعلا كاملا للحواس مع النغم.

يمضي النص ليستعرض معايير الطرب الحقيقي والفن الأصيل، مؤكدا على أهمية التوازن في تلقي الفنون وتذوقها. وعبر لغة مجازية غنية وأسلوب سردي مشوق، يقدم الكاتب رؤية عميقة لماهية الموسيقى وتأثيرها على النفس البشرية، مستشهدا بأمثلة من التراث الموسيقي العربي.

هذا النص لا يقتصر على كونه تأملا في الفن الموسيقي فحسب، بل يمتد ليكون دعوة للتأمل في جوهر التجربة الإنسانية وعلاقتها بالفن والجمال، مقدما للقارئ فرصة لإعادة النظر في فهمه للموسيقى وتأثيرها على الروح والوجدان. إلى النص:

الذوق الموسيقية

قال مترنم ابن أبي الشادي: سئل متأبط العود ابن أبي قيثارة المزاميري -صاحب "جوالب الشجو وجواذب الشدو"- ما بلغ من تذوقك الموسيقي؟!

إعلان

قال: ما استأثرت أذني بـ"صوت" قط؛ إذ لا يكاد يخترق حدودها السماعية حتى تتلقفه معها سائر الحواس!

قالوا: آالذوق والشم واللمس والبصر تعني؟!

قال: نعم؛ إذا كان "الصوت" من معجبات الترجيع، ومرقصات التطريب!

قالوا: هذا السمع، فما بال البصر واللمس والذوق والشم؟!

قال: لا يتم السمع إلا بإخوته الأربعة؛ فإن جماع "السماع" أن تشترك الحواس الخمس في عمليته، كل بمقدار مسمى، تتفاوت درجات إدراكه، وما يستوعب تفاصيلها إلا "الواصلون"، الذين انكشفت لهم حجب الذوقية وأسرار الفنية!..

قالوا: فأخبرنا عن حد الشم واللمس والرؤية والذوق، وحظ الصوت من كل واحدة من هؤلاء الأربع!

قال: الحد خفي والحظ نسبي، ويتفاوت الناس في إدراكهما على قدر ميزانهم الوجداني ومستواهم الفني، فاللمس نفسي لا يدوي، وكذلك الذوق والشم والبصر.. ومن هنا عرفتم السمع -لارتباطه بالأذن التي هي مستودع تلك الحاسة وجارحتها- وخفيت عليكم الحواس الأخر لاختصاص النفس بها دون مستودعاتها من الجوارح الأصلية!

المطرب يجب أن يجمع بين النطق والمعنى عبر التحلي بالإحساس الكامل مما يجعله ينقل مشاعر النص نقلا متميزا (فايرفلاي-الجزيرة) الطرب الحقيقي

قالوا: فما آية المطرب الحق؟!

قال: آيته أن يفصل المقام الأدائي على مقاس الغرض الشعوري، ويطوع الصوت حتى يتسق النطق مع المعنى، مشكّلا سلما نغميا يخلع على الكلمات حلة تأثير، يلامس فيها توقيع المطرب وقع الكلمة وما وراءه، وينقل إيقاعها وما تحته؛ فيعطيها حقها من الترجيع ومستحقها من التلوين.

وغاية ما في الباب أن تتلبس المطرب الحالة الشعورية لصاحب النص -إذا كان في مقام الجوى والشجن- فيترجم تقطع نياط قلب الشاعر بتقطيع نطقه هو.. وذلك شأن "العارفين" من "أهل الفن"، الذين تستجمع الحواس الخمس عند التلقي عنهم "سماعا"، وتتسرب خوالج إحساسهم، وتسري أنسام أنفاسهم مع الصوت، أو مع آخر قطر الصوت، وإن من الصوت لما يقطر في الأذن، ثم يسيل في أودية النفس، وإن منه لما يجف قبل أن يقطر..!

إياك أن تستقلّ عريق النغم وأصيل الشدو، فإن قليله كثير وكثير غيره "زائدة صوتية"! (فايرفلاي-الجزيرة) حق الفنية ومستحقها

وقال متأبط العود ابن أبي قيثارة المزاميري، في كناش "جوالب الشجو وجواذب الشدو":

إعلان

.. وإذا رأيت "السامع" يستخفه الطرب المشرقي ويطوي بساط استحسانه دون أصيل "الهول الحساني"*، فاتهمه في "فنيته"، وأيقن أن "قرص" ذائقته به "مناطق ميتة"؛ فإن ولاء الفن لا يتجزأ، وإن مجاري الحس لا تزال مطردة في الوجدان ما لم تتلف عضلة الوطنية أو ينسد فيها عرق فيشل نبضها!

وإذا أبصرت ذا "استماع" يرق قلبه لبارد الكلم وينكر جزل المعنى، ويقشعر جلده لهجين اللحن، ويهتز لمولد النغم، ولا تحرك فيه معجبات الطرب المحلي شعرة، ولا تعروه هزة لمرقصات الشدو البلدي، فاعلم أنه مبتلى في أم جهاز استقباله السماعي، فادع له بالعافية، واعتزل مجلسه، حتى لا تنتقل إليك عدوى تكلس الإحساس وتصلب المزاج، فإنهما داء عضال ووباء واصب!

وإن استطعت أن لا تغلب على "صوت" تتعاطاه في مفاصل اليوم -كمواعيد وصفة البيمارستاني- فافعل، ولا تقطع دواء "القطرات" المجرب؛ فإن فيه شفاء وراحة تتجاوز طبلة الأذن وصماخها، لتسري فيما وراء البدن!.. وإلا فما خف استراقه وغلت قيمته الفنية، مما رق وراق واتسق وشاق!

.. وإياك أن تستقل عريق النغم وأصيل الشدو، فإن قليله كثير، وكثير غيره "زائدة صوتية"!

سدوم وديمي يترنمان بمعتقات نصوص التراث العربي، ويحركان ساكن الشجن. يمنحان الكلمة بعدا وجدانيا مؤثرا يساير فيه النطق المعنى ويجسده (فايرفلاي-الجزيرة) طرب مؤثر

.. وعقب ابن أبي عازف الزريابي -في كراسته "إيقاظ كوامن النفس، وقدح زناد الحس.. في تحديد جهات السماع الخمس"- على كلام ابن أبي قيثارة المتقدم بقوله:

وما ذهب إليه ابن أبي قيثارة يؤيده أداء ثنائي من بلاد الملثمين* (موريتانيا): شاد ومطربة (سدوم وديمي)، كانا يترنمان -في أشرطتهما المشتركة الخالدة- بمعتقات نصوص التراث العربي، وربما عاجا على مستجاد أشعار المحدثين.. فيحركان ساكن الشجن، ويبعثان كامن الشعور، ويمنحان الكلمة -برهيف التوقيع- بعدا وجدانيا مؤثرا، يساير فيه النطق المعنى ويجسده؛ حتى يحصل للسامع من ذلك ما لا يتفق لمطالع الديوان حين يقرأ الكلمات مضبوطة بالشكل وينظر شرحها في الهامش؛ لأن في التجسيد النطقي معنى زائدا يفيض تشويقا وينبض عذوبة، فله بذلك وقع وأخذ بهما يملك المطرب أعنة الوجدان، ويمسك أزمة النفس، ويأخذ بمجامع الإحساس، ويصرف مقاليد الشعور..

إعلان

وقد كانت ديمي في متأخرات المطربات المعاصرات مثل أم كلثوم في متقدماتهن، ومن هنا استحقت لقب "كوكب المغرب"، وقد سارت الركبان برائعتها "ريشة الفن" التي غنتها في تونس، ولم تزل الراحلة سفيرة الأغنية الموريتانية في الوطن العربي، حتى غربت شمس مشوارها الغنائي في المغرب!

——————————————————————————–

*"الهول": الغناء الشعبي في موريتانيا وغيرها من مناطق الأدب الحساني الجغرافية. بلاد الملثمين (موريتانيا): هي مملكة قامت جنوب المغرب الأقصى، في المنطقة الواقعة بينه وبين السودان فيما تعرف اليوم بموريتانيا، وسميت بمملكة أودغست الإسلامية. سكنت هذه المنطقة مجموعات أمازيغية عرفت باسم "الملثمين"، وهم يعتبرون بمثابة الجيل الثاني من قبيلة صنهاجة الأمازيغية، وهم أسلاف الطوارق. الأسماء والأعلام الواردة في النص متخيلة لدواع تتعلق بالكتابة الفنية والتشويق السردي.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات

إقرأ أيضاً:

غدا.. حفل كلثوميات بمعهد الموسيقى العربية

كتب- محمد شاكر:

تنظم دار الأوبرا المصرية برئاسة الدكتور علاء عبد السلام، حفلاً ضمن سلسلة كلثوميات التى تقدمها فرقة عبد الحليم نويرة للموسيقى العربية بقيادة المايسترو صلاح غباشى.

وذلك فى الثامنة مساء غدا الأحد ١٣ أبريل على مسرح معهد الموسيقي العربية، فى إطار فعاليات عام أم كلثوم الذى أعلنته وزارة الثقافة بمناسبة مرور 50 عام على رحيل كوكب الشرق.

يتضمن البرنامج مختارات من أعمال سيدة الغناء العربى التى تعاونت فيها مع كبار الملحنين والشعراء خلال مشوارها الفنى منها إسأل روحك وجددت حبك ليه، يؤديها كل من رحاب مطاوع وغادة آدم.

يذكر أن سلسلة حفلات كلثوميات تأتى ضمن أهداف دار الأوبرا المصرية لتخليد أعمال كوكب الشرق أم كلثوم ونشرها للأجيال الجديدة بإعتبارها جزءا أصيلاً من التراث الموسيقى العربي.

اقرأ أيضًا:

أسعار البنزين الجديدة.. الأسباب والتأثيرات وتعريفات الموصلات بجميع المحافظات -(تغطية خاصة)

تأكيدًا لمصراوي.. محافظ الجيزة يعتمد التعريفة الجديدة للسرفيس والنقل الجماعي والعام والتاكسي الأبيض

لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا

لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا

دار الأوبرا المصرية الدكتور علاء عبد السلام كلثوميات مسرح معهد الموسيقي العربية أم كلثوم وزارة الثقافة سيدة الغناء العربى

تابع صفحتنا على أخبار جوجل

تابع صفحتنا على فيسبوك

تابع صفحتنا على يوتيوب

فيديو قد يعجبك:

الأخبار المتعلقة نجوم الموسيقى العربية تتغنى بأعمال العندليب على المسرح الكبير أخبار وزارة الثقافة تقيم معرض الشلاتين الثاني للكتاب.. الأحد أخبار لأول مرة.. ثلاث ليال للناي السحري مع عايدة بالأوبرا أخبار رئيس دار الأوبرا المصرية ينعي حفيد سيد درويش أخبار

إعلان

إعلان

أخبار

غدا.. حفل كلثوميات بمعهد الموسيقى العربية

روابط سريعة

أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلاميات

عن مصراوي

اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصية

مواقعنا الأخرى

©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا

اللقطات الأولى لحريق مستودع أنابيب منيا القمح "لو السواق زود الأجرة كلم الأرقام دي".. دليلك للإبلاغ عن مخالفات تعريفة المواصلات في محافظتك تغطية خاصة| زيادة أسعار البنزين والسولار.. وتعريفة المواصلات الجديدة بجميع المحافظات ستاندرد آند بورز تخفض النظرة المستقبلية لتصنيف الائتماني مصر من إيجابية إلى مستقرة 27

القاهرة - مصر

27 14 الرطوبة: 17% الرياح: شمال شرق المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب أخبار التعليم فيديوهات تعليمية رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك خدمة الإشعارات تلقى آخر الأخبار والمستجدات من موقع مصراوي لاحقا اشترك

مقالات مشابهة

  • ببطارية جبارة ومواصفات جديدة .. أفضل سماعات أذن لاسلكية في الأسواق
  • الدستورية العليا: حق الاحتفاظ بمسكن الحضانة ينتهي ببلوغ الصغار السن الإلزامي
  • المحكمة العليا تعلن شرط إعمال الأثر الرجعي للقضاء بعدم دستورية نص جنائي
  • المحكمة الدستورية ترسي مبدأ جديد بشأن أعمال المواد الجنائية بأثر رجعي
  • الدستورية تعلن شرط إعمال الأثر الرجعى للقضاء بعدم دستورية نص جنائى
  • مبدآن جديدان للمحكمة الدستورية العليا بشأن مسكن الحضانة
  • غدا.. حفل كلثوميات بمعهد الموسيقى العربية
  • حتى لا تموت الأحلام| المواهب الشبابية تُبحر بالتشكيل إلى واقع مختلف.. جيل جديد يعكس تطورًا فنيًا وفكريًا فى لوحاتهم ويعيد الحياة إلى عالم الفن التشكيلي
  • الاتحاد الأوروبي يوافق على حظر المنتجات الخطرة في الألعاب
  • «الحلال» هو الأصل في الموسيقى والغناء.. أمين الفتوى يوضح