موقع النيلين:
2025-02-17@06:17:36 GMT

تمازج: من أين جاء هؤلاء؟

تاريخ النشر: 20th, August 2023 GMT

تمازج: من أين جاء هؤلاء؟


(في مناسبة إعلان تمازج حلفها مع الدعم السريع أعيد نشر مقال عنها كتبته في مارس الماضي في سياق دعوتي لفصل السلاح عن السياسة)

ما كاد خاطر السودانيين المروع بنذر المواجهة بين القوات المسلحة و”الدعم السريع” يهدأ بلقاء الفريق أول عبدالفتاح البرهان القائد العام للقوات المسلحة والفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد “قوات الدعم السريع”، أخيراً، حتى هرج السلاح في الخرطوم بين قوات الشرطة وحركة “الجبهة الثالثة” (تمازج من حركات الكفاح المسلح الموقعة على اتفاق جوبا في أكتوبر/ تشرين الأول 2020).

ففي 12 مارس 2023 الجاري بلغ ضابط شرطة من قوة مكافحة سرقة السيارات أن اللواء حسين جقود أحد قادة “تمازج”، اعترضه أثناء قيامه بواجبه في التحقق من قانونية ترخيص السيارة التي كان يقودها وهدده بالقتل، فتم القبض عليه وحرر له بلاغاً بالاعتراض والتهديد. وبلغ شرطي آخر بعد ذلك عن القبض على فرد من “تمازج” يحمل سلاحاً غير مرخص، ثم بلغ شرطي ثالث باعتراض خمسة من الحركة له أثناء أداء واجبه الرسمي.

وبعد القبض على أولئك الأفراد من “تمازج” قامت جماعة مؤلفة من 50 من عناصرها بالارتكاز على نحو 10 سيارات “صالون” و”بكاسي” في موضع شرق قسم الشرطة، وشرعوا في تهديد القوة الموجودة هناك مطالبين بالإفراج عن المقبوض عليهم. ودخل اللواء أحمد قجة، وهو أحد قادة “تمازج” ببزته العسكرية، وتوعد بإطلاق القائد جقود عنوة، فأخرجوه ليحرض القوة المرتكزة للإحاطة بمبنى القسم.

واتخذت الشرطة إجراءات تسليح أفرادها وتأمين الحراسات وتمركزت جماعة منهم بأعلى مبنى القسم. ولدى تبليغ القسم رئاسة الشرطة عن أوضاعه، جاء مدير المباحث ووقف على إجراءات الإفراج على المضبوطين لتهدئة الوضع. وأخذت “قوة تمازج” أفرادها المفرج عنهم بين الصيحات وإطلاق الأعيرة النارية في دلالة على الانتصار. ونوه بيان الشرطة بحكمة قيادة القسم والشرطة لكبحهم جماح الاستفزازات.

ووقعت هذه المواجهة في سياق أرق قديم للشرطة صرحت به مصادر فيها لـ”صوت الهامش” في يونيو (حزيران) 2021 بأن سيارات تمازج تتحرك بلوحات مخالفة لقوانين المرور، ويعتدي عناصرها على أفراد الشرطة عند توقيفهم بسبب تلك المخالفات، كما أن واقعة القسم هي الثانية بين الشرطة و”تمازج”. ففي سبتمبر (أيلول) 2021 تعرضت القوات المشتركة من الشرطة والقوات المسلحة والدعم السريع لإطلاق نار من متفلتين من “تمازج” بمجمع اللجنة الأولمبية بناحية سوبا جنوب الخرطوم خلال إزالتها لظواهر سالبة وأوكار جريمة.

وظهرت “تمازج” في المشهد السياسي والعسكري بعد توقيع سلام جوبا في أكتوبر 2020. وتراها حركات مسلحة مشهودة في الساحة مع ذلك صنيعة الاستخبارات العسكرية السودانية لإرباك مساعي السلام بإغراقها بكل من هب ودب، والتربح من انفلاته وتعدياته في المدن لإلصاق سوء السمعة بالحركات المسلحة.

فلا تعلم هذه الحركات، بحسب قولها، عن “تمازج” وماهيتها قبل الآن. فالعميد حامد حجر عضو فريق الترتيبات الأمنية عن “حركة العدل والمساواة” صرح بأنها “صنيعة للاستخبارات العسكرية من أفراد كانوا في ميليشيات الدفاع الشعبي لنظام الإنقاذ المحلولة”، وقال إن صناعتها تمت أمام ناظريهم في مسرحية مشهودة في فندق بمدينة جوبا خلال مفاوضات السلام.

وتبرأت الاستخبارات العسكرية من تهمة صنع تمازج، وقالت إن ما يذاع عنها صادر ممن يريد إحداث شروخ في الجسد العسكري، وأضافت أنها تقدم الدعم للحركات المسلحة من غير تفضيل بينها.

ونفى رضوان جدو القيادي بـ”تمازج” اتهامهم بأنهم صنيعة الاستخبارات وتجارتهم في سوق السيارات غير المقنن وبيع الرتب العسكرية. وقال إنها ليست سوى “مكايد واتهامات باطلة توجه للحركة من قبل أعداء السلام”، واعترف مع ذلك بانفلات بعض عناصرهم على رغم الأمر العام لهم بالانضباط.

وقال الأمين العام لـ”تمازج” ياسر محمد حسن إن حركتهم معروفة لحركات الكفاح المسلح إلا من مكر عن غرض، فهي إحدى فصائل “الحركة الشعبية لتحرير السودان” (جون قرنق) عند خط التماس مع جنوب السودان عند ولايات سنار والنيل الأبيض وكردفان ودارفور، وأنها خرجت لرفع التهميش عن أهل الحدود، ومن هنا كان اسمها “تمازج” لوجودها على الشريط الحدودي بين السودانين، أو ما تسميه هي “شريط الموارد، مثل النفط والصمغ العربي والسمسم. وكثيراً ما لوحت حيال استبعادها في تنفيذ اتفاق جوبا، كما سيرد، أنها ستضطر إلى “تتريس” هذا الشريط وحجب موارده عن بقية السودان. وقال أمين الحركة العام إن “الحركة الشعبية بعد الانفصال فكت الارتباط بقوات الجبهة الثالثة التي كان مقرها آنذاك بمنطقة راجا القريبة من حدود السودان”، وهذا مفاد قولها إنها “تناسلت” عن الحركة الشعبية.

ولم يتعرف عمر أبو روف القيادي بالحركة الشعبية – شمال على “تمازج” كفصيل في حركتهم. وقال “لا علم لي بانتماء قيادات تمازج للحركة الشعبية الأم. إذا كانوا ينتمون إلى الحركة الشعبية عليهم أن يثبتوا تبعيتهم إلى أي منطقة أو أي قائد”.

ولكن هناك من الحركة الشعبية من وجد سبباً للانتساب لـ”تمازج”، إذ لمح قيادي من “الحركة الشعبية” إلى أن “(تمازج) مأوى لسواقط الحركة الشعبية انتهزوا سانحة التفاوض في جوبا لحجز مقعد في الاتفاق ومنافعه”. وقال قيادي في العدل والمساواة “إن تمازج كانت في طرف رياك مشار نائب رئيس جمهورية جنوب السودان في صراعه الدموي ضد سلفا كير رئيس دولة الجنوب في عام 2013”.

“تمازج” الآن هي الطريدة من عملية السلام من جانب أطرافه الأخرى. فبدا توقيعها على اتفاقية سلام جوبا كأن لم يكن. فلم تنل حظاً من قسمة الوظائف في حكومة دارفور التي قام عليها مني أركو مناوي زعيم جيش تحرير السودان. وعادت الحكومة إلى سحب دعوتها لها لاجتماع لجنة ترتيبات دمج قوات أطراف السلام في القوات المسلحة في الفاشر في أكتوبر 2022 بعد تبليغ القصر الجمهوري لهم بحضوره، وزاد الطين بلة قرار مجلس الأمن والدفاع بإخلاء المدن من قوات “تمازج” مرة واحدة.

أما حميدتي فلم يشقق القول عن “تمازج”، فسأل في لقاء تلفزيوني في أغسطس (آب) 2022 عمن وراء تسليح تلك القوة التي تملك أسلحة لا تتوافر إلا عند الحكومة، وكانت قد جاءت إلى مواجهة سوبا المذكورة أعلاه بأسلحة ثقيلة ومضادات طائرات. واتهم حميدتي “تمازج” بالتورط في الصراعات القبلية في غرب دارفور خلال الأعوام الثلاثة الماضية ليعلن القبض على أعضاء مكتبها في الولاية وترحيلهم إلى سجون نائية.

أما “تمازج” فشكت لطوب الأرض من فرط إهمالها في نيل مستحقاتها في ما تحقق من تنفيذ اتفاق جوبا. فقالت إنهم دخلوا الاتفاق 14 حركة مسلحة ومطلبية، نالت ست منها حظوظها من الاتفاق، بينما استبعدت الثماني الأخرى تماماً. وأضافت أن اتفاق جوبا محروس بوسطاء وشهود. ولن تتجرأ الحكومة على مصادرة سلاحها لأن في ذلك خرق للاتفاق ويؤذن بالحرب، ولفتت إلى أن عناصرها صبرت على جحود الحكومة وأطراف السلام الأخرى، ولكن للصبر حدوداً. وبدا على “تمازج” ملمح تفاؤل بأن حظهم ربما تغير للأحسن بالمصفوفة المحدثة لتنفيذ الترتيبات الأمنية التي صدرت عن ورشة جوبا لتقييم تنفيذ اتفاق جوبا قبل أسبوعين.
وما يحير هو نبذ حميدتي وحركات الكفاح المسلح لـ”تمازج” من فوق منصة أخلاقية قد لا يرقون مراقيها هم أنفسهم، فالدمامة واحدة في هرج السلاح الذي خيم لعقود في السودان، والاختلاف في الحظوظ منه اختلاف مقدار، لا نوع. فلم يستغرق قوميو جنوب السودان الذين أخذتهم العزة بالسلاح لتحرير بلادهم من المركز الشمالي سوى سنوات ثلاث ليجدوا أنفسهم يسددون نصل السلاح لصدور واحدهم الآخر في محرقة 2013، بل تقاتلوا قبل ذلك في عام 1991 خلال فتنة الحركة الشعبية بين شيعة جون قرنق وشيعة ريك مشار حرباً وصفت بأنها مما لم يرتكبه الجيش القومي “العدو” منذ عام 1955. وسمى الجنوبيون تلك الحرب بـ”حروب المتعلمين”، نظراً إلى درجة توحشها الكبيرة.

وحين يسأل حميدتي “من أين لتمازج هذا السلاح الكثير المتطور؟”، فهو نسي نفسه، إذ إن أسلحته من مضادات دبابات وطائرات ومدافع، مما يعد هرجاً بالسلاح، لا تملكاً في دولة حديثة، ناهيك بتواتر الأنباء في مايو (أيار) 2022 عن حصول “الدعم السريع” على منظومة تجسس من نوع “بريداتور” لاختراق الهواتف الذكية من شبكة إسرائيلية مصنعة. ولو صح سؤال “تمازج” عن مصدر سلاحها صح بالمثل سؤال حميدتي، ولكن السؤال هنا من حكم القوي على الضعيف.
أما حركات دارفور فلا وجه لها أن ترمي “تمازج” بالضعة الأخلاقية لأنها من صلب استخبارات السودان العسكرية، فإذا كانت إيجارة البندقية مطعناً في خلق الجماعة، فهذه الحركات بالغة في هذه الإيجارة باصطفافها في الحرب الأهلية في ليبيا وجنوب السودان بشهادة خبراء مجلس الأمن الدولي، ناهيك بغزو “حركة العدل والمساواة” للعاصمة الخرطوم في مايو 2008 محرشة من تشاد. فكان هجومها على الخرطوم بمثابة رد معجل على هجوم جبهة معارضة تشادية مدعومة بنظام الإنقاذ في فبراير (شباط) 2008 على أنجامينا حتى احتلال القصر الجمهوري.

ربما كانت “تمازج” في ضعة الخلق السياسي الذي ترميه بها الحركات المسلحة، ولن تكون مع ذلك مهما قلنا عن سوئها سوى وجه دميم من وجوه فجور السلاح ضارب الأطناب في السودان.

دقت ساعة إخلاء كل يد غير القوات المسلحة من السلاح لتحتكر الحكومة امتلاكه كما هو الأصل في الدولة الحديثة. جاء وقت وضع السلاح أوزاره في السياسة. فخاطر الأمة مروع. وكان عبدالوهاب الأفندي قد قال مرة: إننا لربما لم نعطِ مطلب فصل السلاح عن السياسة ما أعطيناه لفصل الدين عن السياسة.

عبد الله علي إبراهيم
عبد الله علي ابراهيم

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: القوات المسلحة الحرکة الشعبیة الدعم السریع جنوب السودان

إقرأ أيضاً:

تقرير لصحيفة “ذا تلغراف” البريطانية من داخل جبال النوبة .. أطفال يتحولون إلى جلد وعظام بالمجاعة المنسية فى بلاد مزقتها الحرب

الجوع الحقيقي يجعل الناس يائسين. على مدرج ترابي في جبال النوبة بالسودان، تنخل النساء الرمال بحثاً عن قطع صغيرة من الحبوب، وفي وقت سابق، تم إلقاء مئات الأكياس المحشوة بالذرة والفاصوليا والملح من باب الشحن في طائرة نقل عسكرية سابقة كانت تحلق على ارتفاع منخفض، وبعضها انفتح عندما ارتطمت بالأرض.

تقرير لصحيفة "ذا تلغراف" البريطانية من داخل جبال النوبة
أطفال يتحولون إلى جلد وعظام بالمجاعة المنسية فى بلاد مزقتها الحرب
كل فتات طعام لها أهميتها بالنسبة للملايين الذين يعيشون على حافة المجاعة
ليليا سيبوي مراسل الأمن الصحي العالمي. سيمون تاونسلي مصور فوتوغرافي في جبال النوبة

14 فبراير 2025

الجوع الحقيقي يجعل الناس يائسين. على مدرج ترابي في جبال النوبة بالسودان، تنخل النساء الرمال بحثاً عن قطع صغيرة من الحبوب.

وفي وقت سابق، تم إلقاء مئات الأكياس المحشوة بالذرة والفاصوليا والملح من باب الشحن في طائرة نقل عسكرية سابقة كانت تحلق على ارتفاع منخفض، وبعضها انفتح عندما ارتطمت بالأرض.

تشكل عمليات الإنزال الجوي مثل هذه شريان حياة ضئيلًا في منطقة وعرة وغير مضيافة حيث تم بالفعل إعلان المجاعة.



ولكن هذا لا يكفي لتلبية احتياجات المولودين هنا، ناهيك عن مئات الآلاف الذين نزحوا من المناطق المحيطة بسبب الحرب الأهلية في البلاد .

حصلت صحيفة التلغراف على فرصة نادرة للوصول إلى جبال النوبة، وهي منطقة نائية في السودان تسيطر عليها جماعة متمردة محلية تعرف باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال (SPLM-N).

ويعيش الآن حوالي أربعة ملايين شخص هنا، والجوع منتشر في كل مكان تنظر إليه.

وتقول منى عبد الله، التي فرت من الحرب إلى منطقة آمنة نسبيا، وهي الآن تجمع قطع الحبوب الضالة: "نقوم طوال اليوم بالكنس بهذه العصي تحت الشمس".
ويقول السكان المحليون إن الأسوأ لم يأت بعد.

وفي الأسبوع المقبل، ستتوقف عمليات الإنزال الجوي للمساعدات - والتي لم يكن المقصود منها أبدا أن تكون حلا دائما - مما سيجعل الناس يعتمدون على ما يمكن إحضاره من طعام بواسطة الشاحنات.

ثم في شهر مايو، ستؤدي الأمطار الموسمية إلى جعل الطرق الترابية غير سالكة، مما سيؤدي إلى عزلها عن العالم الخارجي تمامًا.

تنتشر نحو 50 امرأة على طول المدرج، وهن يكنسن وينخلن الطعام. أصغرهن سناً لا يتجاوز عمرها 15 عاماً. ومع ذلك، فإن هذه الوظيفة تشكل امتيازاً، وهو ما قد يعني الفارق بين تناول الطعام وعدم تناوله.

يقول أحد المتطوعين المحليين: "المعيار للعمل هنا هو الضعف - فهؤلاء النساء هن المعيلات الوحيدات لأسرهن" .

اندلعت الحرب الأهلية في السودان منذ أبريل/نيسان 2023، عندما اندلعت أعمال عنف بين رئيس أركان الجيش السوداني الجنرال عبد الفتاح البرهان ونائبه السابق محمد حمدان، أمير الحرب المعروف باسم حميدتي، الذي يقود قوات الدعم السريع شبه العسكرية.

ومع تدفق الأموال والأسلحة إلى الجانبين من قبل قوى بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة وإيران وروسيا، انفجرت أعمال العنف - حيث قُتل حوالي 150 ألف شخص وفر 12 مليون شخص من منازلهم في ما وصفته الأمم المتحدة بـ "أسوأ أزمة إنسانية في العالم".

وفي يناير/كانون الثاني، اتهمت الولايات المتحدة قوات الدعم السريع بارتكاب إبادة جماعية، لكن الخبراء يقولون إن الجوع هو الذي من المتوقع أن يتسبب في أكبر الخسائر، حيث يواجه 638 ألف شخص "خطر المجاعة الوشيك" .

وفي منطقة جبال النوبة، تنتشر الأدلة على سوء التغذية الشديد في كل مكان، ويتأثر الأطفال بشكل خاص.

يرقد صلاح البالغ من العمر عامين في مستشفى في غرب المنطقة وقد فقد حياته تقريباً. يبرز عنقه وعظام وجنتيه من الخارج، وتتدلى ثنايا جلده من أطرافه النحيلة.

يشتبه الأطباء في أن حالته تتفاقم بسبب مرض السل، وهو مرض يجعلك سوء التغذية أكثر عرضة للإصابة به وغير قادر على محاربته .

يقول الدكتور الأمين عثمان، المدير الطبي في مستشفى توجور بمديرية دالامي على الأطراف الغربية لجبال النوبة، إن كل طفل يراه تقريباً يعاني من سوء التغذية الحاد.
ويقول لصحيفة التلغراف: "معظم هذه الحالات تأتي في مراحل متأخرة، وخاصة مع القيء والإسهال"، ولكن لا يوجد سوى القليل من المساعدة المتخصصة.
ويقول إن "برامج معالجة سوء التغذية لدى الأطفال لم تصل منذ فترة".

وفي مخيم حجر الجواد في جبال النوبة الغربية، حيث تشتد حدة الجوع يعيش حوالي 2800 شخص جنبًا إلى جنب في أكواخ من القش تُعرف باسم "توكول" تنتشر في المناظر الطبيعية وتوفر الراحة الوحيدة من أشعة الشمس الحارقة.

لم يكن هناك أطفال يلعبون هنا. بل كانت الأسر تتجمع في جيوب مظللة، حتى أنها كانت تفتقر إلى الطاقة لإبعاد الذباب. وكان البعض يغلي الأعشاب من الأدغال المحيطة لإخماد جوعهم.

معظم البالغين في المخيم هم من النساء – وقد قُتل العديد من الرجال، وتم استهدافهم عمداً من قبل القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في محاولة لإضعاف جيش المتمردين المحلي.

هالة فضل الله، 35 عامًا، حامل في شهرها التاسع، لكن حجم بطنها بالكاد يعادل حجم كرة قدم صغيرة.

"أشعر بضعف شديد"، تقول، مضيفة أن أطفالها الأربعة الآخرين يضطرون الآن إلى القيام برحلة يومية تستغرق ثلاث ساعات ذهاباً وإياباً لجمع المياه لها.

وقال أرنو نغوتولو لودي، السكرتير الأول للإدارة المدنية في المنطقة، إن الجوع يفرض ضريبة نفسية قاسية على الناس في المخيم.

"يفكر الناس في الطعام الحقيقي، والآن يأكلون أوراق الشجر. إنه أمر صعب للغاية"، كما يقول. وقد وردت تقارير عن وفاة أطفال صغار بعد تناولهم عن طريق الخطأ أعشاب برية سامة لتجنب الجوع .

يُكسر الصمت من حين لآخر بصرخات عالية النبرة تأتي من أحد الأكواخ.

ويقول جيزمالا ديجوجو، نائب رئيس المخيم، وهو يشير إلى نحو 15 طفلاً هزيلاً ــ جميعهم أصغر من خمس سنوات ــ يرقدون على حصيرة من القش، وهم ضعفاء للغاية ولا يستطيعون الحركة: "هؤلاء هم الأطفال الأكثر معاناة من سوء التغذية".

وتترك الدموع آثارها على وجوههم ورؤوسهم التي تبدو كبيرة للغاية بالنسبة لأجسادهم - وهي علامة على الضرر الناجم عن سوء التغذية.

وقد نبتت لدى البعض منهم خصلات هشة من الشعر المحمر، وتبرز بطونهم الكروية من تحت ملابسهم القذرة - وهي أعراض مرض كواشيوركور، حيث يؤدي نقص البروتين إلى احتباس السوائل وانتفاخ بطونهم.

ويقول السيد ديجوجو "إنهم يواصلون الوعد بوصول الطعام، لكننا لم نتلقه".
وأضاف أن آخر توزيع للمساعدات المتمثلة في علبتين من الذرة لكل أسرة كان في سبتمبر/أيلول.
"لم يبق في قلوبنا شيء، نحن نعتمد فقط على الله."

هناك العديد من العوامل التي تلعب دوراً في المجاعة في السودان - ضعف الحصاد، والاضطرابات الواسعة النطاق في الزراعة وتسليم المساعدات، وهجمات الجراد، كل ذلك أثر بشدة على إمدادات الغذاء.

وفي جبال النوبة، اتُهمت القوات المسلحة السودانية بتعمد عرقلة المساعدات المخصصة للمنطقة، فضلاً عن سرقة ما يصل إليها عن طريق الغارات المسلحة.
وقد عرضت صحيفة التلغراف نتائج إحدى هذه الهجمات.

في يوم 13 يناير/كانون الثاني، حوالي الساعة الرابعة صباحاً، قامت القوات المسلحة السودانية بمداهمة مخازن الأغذية في حجر الجواد.

وقال العديد من شهود العيان إنهم شاهدوا مجموعة من نحو 20 جنديا اقتحموا المخيم وأطلقوا النار من بنادقهم وأشعلوا النار في العديد من الأكواخ الخشبية أثناء توجههم إلى المخزن.

يقول أجالاي محمد، وهو حارس أمن، وهو يشمر عن أكمامه ليكشف عن العلامات التي تركتها الضربات على ذراعيه: "طلبوا مني أن أحضر المفتاح وضربوني ببنادقهم".
ثم يقول: «أطلقوا النار على الباب وطردوني، وهم يصرخون في وجهي بأن لا أعود».

وبمجرد دخولهم إلى الداخل، بدأ الجنود في نقل كل ما استطاعوا حمله، بما في ذلك أكثر من 1000 كيس من الذرة، و324 كيساً من الفاصوليا الحمراء، وستة جالونات من زيت الطهي الثمين، ومكملات غذائية متخصصة للأطفال والنساء الحوامل. وحتى النوافذ انتزعها الناهبون من إطاراتها.

ويقول السيد محمد: "لقد أخذوا كل شيء، حتى البطانيات التي نستخدمها للنوم .

وفي اليوم الذي زارت فيه صحيفة التلغراف المخيم، كانت ثقوب الرصاص لا تزال ظاهرة على أبواب المستودع، وكانت هناك بقع داكنة حيث سكب الجنود بعض الزيت على الأرض لاستفزاز سكان المخيم.

ونفت القوات المسلحة السودانية أن تكون قواتها مسؤولة عن السرقة، وزعمت أن سكان المخيم قاموا بمداهمة متاجرهم بأنفسهم.

واتهمت القوات المسلحة بشن العديد من الغارات في مختلف أنحاء المنطقة، ويعتقد كثيرون أن لديها جواسيس داخل المخيمات للإبلاغ عن موقع مخازن المساعدات.

ويقول جمري عثمان، الذي شهد الغارة على معسكر حجر الجواد في يناير/كانون الثاني الماضي: "إنهم يأتون بملابس مدنية حتى تعتقد أنهم أخوك" .

تخوض الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال معارك متقطعة ضد الحكومة في الخرطوم منذ عام 1983 ـ تمرداً ضد فرض الإسلام واللغة العربية على القبائل الأصلية في الجنوب.

وقال الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال ورئيس وفدها لمفاوضات السلام، عمار أمون: "نتوقع أن تقوم القوات المسلحة السودانية بقصفنا في أي وقت".
وأضاف السيد أمون أن الحركة الشعبية لتحرير السودان - قطاع الشمال ليست صديقة لقوات الدعم السريع، على الرغم من أن لديهم عدوًا مشتركًا.

وقال لصحيفة التلغراف: "لا يمكننا أن نعرف نتيجة [الحرب]، ولكن أيا كان الفائز، سيكون لدينا خياران: إما القتال ضدنا، أو التفاوض. ونحن مستعدون لكليهما".

ويرى جمعة بلة، القائم بأعمال محافظ المنطقة، المعروفة محليًا باسم الجبال الغربية، أن الغارات على مخازن الأغذية تتناسب مع نمط ثابت.
وأضاف أن "القوات المسلحة السودانية استخدمت التجويع كسلاح وسياسة لفترة طويلة، وهو أمر مأساوي، فقدنا الكثير من الأرواح" .

إن المجاعات مثل تلك التي شهدتها جبال النوبة لا يتم الإعلان عنها إلا في ظروف استثنائية، فقد حدثت أربع مرات فقط خلال هذا القرن.

ولكي يتم تصنيف أزمة الجوع على أنها مجاعة، يجب أن يموت شخصان على الأقل من كل 10 آلاف شخص بسبب الجوع الصريح أو التفاعل بين سوء التغذية والمرض، وفقاً للتصنيف المتكامل لمرحلة الأمن الغذائي (IPC)، وهو جهاز مراقبة الجوع العالمي المدعوم من الأمم المتحدة والذي يصنف المناطق التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي الحاد على مقياس من خمس درجات.

ويقول التصنيف الدولي لتصنيف الأمن الغذائي إن المجاعة "هي المظهر الأكثر تطرفاً للمعاناة الإنسانية [...] فهي ليست مجرد نقص في الغذاء بل انهيار عميق في الصحة وسبل العيش والبنى الاجتماعية، مما يترك مجتمعات بأكملها في حالة من اليأس .

والخطوة الأولى نحو معالجة هذه الأزمة الشديدة هي أن تقبل الحكومة المضيفة الإعلان.
ولكن الحكومات قد تكون مترددة في القيام بذلك ــ فقبول الإعلان هو بمثابة اعتراف بالفشل ــ وهذا هو الحال حتى الآن في السودان.

وفي ديسمبر/كانون الأول، أكدت لجنة مراجعة المجاعة التابعة للجنة التخطيط المتكامل أن جبال النوبة الغربية كانت أحدث منطقة تنزلق إلى "أزمة مجاعة متفاقمة" في السودان. وأضافت أن مخيمين آخرين للنازحين في الفاشر، عاصمة شمال دارفور المحاصرة، يواجهان نفس السيناريو. كما وجدت اللجنة أن المجاعة، التي تم تحديدها لأول مرة في أغسطس/آب، لا تزال مستمرة في مخيم زمزم في شمال دارفور.

لكن القوات المسلحة السودانية نفت بشدة صحة التقارير، بل وأعاقت عمل لجنة السلام الدولية، مما أدى إلى تأخير إعلان المجاعة في مخيم زمزم المترامي الأطراف لعدة أشهر .

أعلنت القوات المسلحة السودانية انسحابها التام من منظمة مراقبة الجوع العالمية عشية صدور التقرير الأخير، مدعية أن المنظمة أصدرت "تقارير غير موثوقة تقوض سيادة السودان وكرامته".

وبالإضافة إلى عدم رغبتها في الاعتراف بأنها خذلت شعب السودان، فإن الحكومة تشعر بالقلق أيضاً من أن يؤدي ذلك إلى ضغوط دبلوماسية لفتح معبر حدودي رئيسي لشحن المساعدات من تشاد. وتزعم الحكومة أن القيام بذلك قد يمهد الطريق لمزيد من الدعم الأجنبي لقوات الدعم السريع .

ولكن رفض الحكومة التعاون مع مجموعات المراقبة له عواقب وخيمة. فقد أضر بالجهود الإنسانية الرامية إلى الحد من الأزمة، ويتناقض مع وفرة الأدلة التي جمعتها المنظمات الدولية بما في ذلك الأمم المتحدة وشبكة أنظمة الإنذار المبكر بالمجاعة (التي توقفت الآن بسبب الأمر التنفيذي الأخير للرئيس الأميركي دونالد ترمب بتجميد جميع المساعدات الأجنبية) والتي تظهر بوضوح أن ظروف المجاعة موجودة.

وفي مختلف أنحاء السودان، يواجه ما لا يقل عن 638 ألف شخص حالياً أعلى فئة من انعدام الأمن الغذائي، وفقاً للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي.

ويتوقع التقرير أن يواجه 24.6 مليون شخص ــ أي ما يقرب من نصف السكان ــ انعداما حادا في الأمن الغذائي في الفترة ما بين ديسمبر/كانون الأول 2024 ومايو/أيار 2025 .

وقال نيكولاس هان، عضو لجنة مراجعة المجاعة (FRC)، التي تم تنشيطها للتحقق من نتائج المجاعة التي ينتجها المحللون الفنيون: "إذا كانت [قوة المهام الإنسانية] تشعر بالقلق من عدم حدوث المجاعة، فإن أسهل طريقة لحل هذا النقاش هي منح العاملين في المجال الإنساني إمكانية الوصول غير المقيد لجمع البيانات حول الرفاهة البشرية في وقت نحتاج فيه إلى المعلومات الأكثر موثوقية ودقة".

استغرقت صحيفة التلغراف ما يقرب من أسبوع للوصول إلى مركز المجاعة في جبال النوبة عن طريق البر، حيث سارت على طول مسارات ترابية متعرجة سوف تتحول قريبا إلى أنهار مع وصول الأمطار الموسمية.
وتشكل عزلة المنطقة أحد أكبر التحديات التي تواجه جهود الإغاثة.

وفي محاولة لتجنب مجاعة أشد خطورة، تعمل منظمات الإغاثة جاهدة على إيصال الغذاء إلى المنطقة قبل هطول الأمطار .

حصلت إحدى المنظمات غير الحكومية الدولية على إذن بإرسال الغذاء إلى جبال النوبة الغربية عن طريق البر، لكن هذا لا يمثل سوى جزء ضئيل مقارنة باحتياجات المنطقة.

وقال يوهانس بليت، الرئيس التنفيذي لوحدة تنسيق جنوب كردفان التي تنظم المساعدات في النوبة، إن الوقت هو الآن العامل الأكثر أهمية، مضيفاً أنه يتوقع أن تصل المجاعة إلى ذروتها خلال الشهرين المقبلين.
وأضاف أن "الحصاد المقبل لن يأتي قبل أكتوبر/تشرين الأول 2025. وهذا يعني أنه في العديد من المناطق لن يكون هناك طعام متاح لمدة ستة أشهر على الأقل بمجرد استنفاد الإمدادات الحالية .

ويشكل تعليق المساعدات الأميركية أيضًا تهديدًا لجهود الإغاثة.

وقال السيد بليت "لا نستطيع إلا أن نأمل في أن تتدخل دول أخرى لتوفير المساعدة العاجلة التي يحتاج إليها الناس في جبال النوبة وغيرها من المناطق المتضررة في السودان".

ولا توجد أي مؤشرات على تراجع الصراع بين الحكومة وقوات الدعم السريع.

استعادت القوات المسلحة السودانية زخمها في الصراع وتقول أنها على وشك استعادة العاصمة الخرطوم لكن نهاية الحرب لا تلوح في الأفق .

في هذه الأثناء، عرقلت روسيا، التي تسعى إلى إنشاء قاعدة بحرية على البحر الأحمر بالقرب من بورتسودان التي تسيطر عليها القوات المسلحة السودانية، أحدث مشروع قرار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يدعو إلى وقف إطلاق النار.

ويؤدي القتال في شمال البلاد إلى نزوح المزيد من الناس من منازلهم، ويزيد من موجة النازحين داخلياً الذين يصلون إلى جبال النوبة.

وتدفع أعمال العنف المتزايدة الناس أيضاً إلى النزوح من منازلهم داخل المنطقة نفسها - فقد اندلعت اشتباكات عنيفة في مدينة كادوقلي في جنوب كردفان الأسبوع الماضي، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 80 مدنياً وإصابة العشرات، وفقاً للأمم المتحدة.

وفي مخيم حجر الجواد بجبال النوبة الغربية ، والذي لا يزال يعاني من آثار الهجوم على مخازن المساعدات، يستعد المسؤولون لإجلاء سكانه إلى كوليندي، على بعد نحو 200 كيلومتر.

وقال السيد ديجوجو نائب رئيس المخيم "في العام الماضي توفي تسعة أشخاص بسبب الجوع". والخوف هذا العام هو أن يكون عددهم بالآلاف  

مقالات مشابهة

  • الدعم السريع يستهدف محطات الكهرباء بـالمسيَّرات.. غوتيريش يدعو لوقف تدفق السلاح للسودان
  • البرهان يؤكد على أهمية تطوير وتعزيز علاقات السودان الخارجية ودعم مجالات التعاون الاستراتيجي
  • مصطفى تمبور يؤدي القسم أمام البرهان والياً لولاية وسط دارفور
  • مناوي للجيش السوداني .. لا توقعوا مع أي “شماسي”
  • رسالة دعم وتقدير: شعبة التوجيه المعنوي تتابع حالة جرحى القوات المسلحة في القطرون
  • مقتـ ل 3 مجرمين وإصابة آخر.. تفاصيل معركة الشرطة مع مهربى السلاح
  • تقرير لصحيفة “ذا تلغراف” البريطانية من داخل جبال النوبة .. أطفال يتحولون إلى جلد وعظام بالمجاعة المنسية فى بلاد مزقتها الحرب
  • جنوب السودان يشتعل.. اشتباكات عنيفة وسقوط قتلى في غياب سلفاكير واتهامات تطال “الإمارات”
  • فيديو .. البرهان يحدد مصير القوات المقاتلة مع الجيش ويقطع طريق التفاوض والمساومة
  • أبرز ماورد في خطاب السيد رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة بأمدرمان