كانَ ذلك في منزل السياسي والناشر العراقي فخري كريم في دمشق. جاءَ الزائرُ متثاقلاً كمن ينوء بجيش الخيبةِ المقيم في عينيه. كنت أحاول إعادتَه إلى الكتابة الصحافية بعد غيابٍ طال. حذَّرني أصدقائي من أنَّه صعب ولا يطاق. لكنَّني أعتبر الكتابَ المميزين أوسمةً على صدور الصحف وقلت أحاول. ثم إنَّني كنت قرأته تلميذاً وانتابني شعورٌ أنَّه نهر بري لا يشبه إلا نفسَه.
وتعليقاً على حوار كنت أجريتُه مع بشارِ الأسد، ابتسمَ الماغوط وقال: «انتبه. هذا الشّبل من ذاكَ الأسد». لم يشرح عبارتَه الأخيرة لكن ملامحَ وجهِه كانت تعبر عن أنَّ النظام غيرُ قابلٍ للإصلاح، خصوصاً أنَّه نصحني قبل المغادرة بعدم «الوقوع في الأمل».
في الأسابيع الماضية تذكَّرت كلامَ الماغوط مرتين. الأولى حين أطلَّ أحمد الشرع من باحة المسجدِ الأموي في دمشقَ معلناً طيَّ ما يزيد على نصف قرن من حكم الأسدين. والثانية حين لجأتِ الجمهوريةُ اللبنانية المقطوعةُ الرأس إلى قائدِ الجيش العماد جوزيف عون وألقت على كاهله مهمةَ استعادةِ الجمهورية وإعادة الأمل ببناء الدولة بعد عقود من الإقامةِ في عهدة الخراب.
في السَّنوات الأخيرة كان الانحدارُ اللبناني رهيباً. موسم ذلّ وفقرٍ طويل. تسارع تصدع الدولة فتضاعفَ يُتْمُ اللبنانيين. أطاحَ الانهيار المالي بودائع اللبنانيين وودائع غير اللبنانيين أيضاً. وقف المواطنون على أبوابِ المصارف يتسوَّلون حفنةً من الدولارات. نقلت وكالات الأنباء العالمية صورَ لبنانيين ينقبون في أكوام القمامةِ عمَّا يسد الجوع. وللمرة الأولى في تاريخ البلاد ألقَى شبانٌ بأنفسهم في «قوارب الموت» هَرباً من البطالة والجوع.
خافَ عون على الجيش من التَّفكّك لكن نزاهتَه شجَّعت أصدقاءَ لبنان على مساعدة المؤسسة العسكرية على تفادي هذا المصير تحت وطأة الفقر وغيبوبة الدولة. ومن مكتبه في اليرزة اتَّخذ عون قراراتٍ جريئة. رفضَ قمع انتفاضة المحتجين على صانعي الخراب ومنع أيضاً انزلاق البلاد إلى الاقتتال الأهلي.
تحوَّل احتقار اللبناني العادي مشهداً عادياً. وتحوَّل احتقار الدستور قاعدة. البرلمان تائهٌ والإدارة تتحشرج. وسقط القضاءُ تحت مطرقة الراغبين في إسقاطه. استنزف رصيد لبنان الإقليمي والدولي. فقد دورَه ومعناه. وتزايد الانطباع أنَّ المريض اللبناني يقاوم كلَّ الأدوية الكفيلة بإنقاذه.
بعد وباءِ الشغور الرئاسي الذي ضرب الجمهوريةَ مجدداً قبل عامين بدا أنَّ الكيان اللبناني نفسَه يلفظ أنفاسَه، وأنَّ المكونات اللبنانية لم تعد تنتمي إلى قاموس جامع يتيح لها العيش تحت سقف واحد.
لم يفقد جوزيف عون الأمل. وفي زمن الشغور حاولَ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إنقاذَ ما يمكن إنقاذُه من الخيط الأخير من خيوط الدولة وتأجيل الانهيار الكبير المقترب. ثم بدأ زمن المفاجآت. أطلق يحيى السنوار «طوفان الأقصى» وأطلق حسن نصر الله في اليوم التالي «جبهة الإسناد». وكان ما كان.
كان لا بدَّ من المبعوث الأمريكي آموس هوكستين لوقف آلة الدمار الإسرائيلية. ولم يكن أمام لبنان غير تجرّع كأس العودة إلى القرار1701 ورفاقه. وكشفت الممارساتُ الإسرائيلية بعد وقف النار حجم الخلل في موازين القوى. أطلق نتنياهو حربَ تغيير ملامح الشرق الأوسط وذهبت آلتُه العسكرية بعيداً في القتل والتدمير، مستهدفاً إيران هنا وهناك وداخل الأراضي الإيرانية أيضاً. وفجأة وقع الزلزال. صعد بشار الأسد إلى طائرة المنفى وجلس أحمد الشرع على كرسي الأسدين وانحسر الانتشارُ الإيراني في الإقليم.
غيّرت الحربُ المتعددة الخرائط موازينَ القوى في المنطقة. ووجد لبنان نفسَه أمام تبعات ما بعد وقف النار والتغيير السوري الكبير. كان على لبنان البحث عن رجل يؤمن بالدولة والمؤسسات ودولة القانون ولم يشارك في نادي صانعي الخراب. تقدم اسمُ جوزيف عون. وحاولت كتلٌ متعددة إبعادَ الكأس عن شفتيها. الرجل صعبٌ. شجاع لا يمكن ترهيبه لاستتباعه ونزيهٌ لا يمكن كسرَ إرادته بالمغريات. التقت رغبةٌ داخلية واسعة بقرارٍ عربي ودولي بمساعدة لبنان على استعادة دولته.
انتُخب عون وأيقظ في خطاب القسمِ حلمَ استعادة الدولة. تحدَّث عن الوحدة والمساواة في دولة القانون. وعن اتفاق الطائف والحياد الإيجابي والقضاء المستقل واسترجاع الدولة كاملَ حقوقِها بما فيها احتكار السلاح. قالَ ما تحلم به الأكثرية الساحقة من اللبنانيين. وسارع العالم إلى فتح النوافذ مع لبنان.
إخراج لبنان من الخراب الكبير والمديد واسترجاع الدولة ليس بسيطاً. يحتاج إلى دعمٍ داخلي وخارجي وإلى يقظةٍ لبنانية تتَّسم بدعم النزاهة ودولة القانون وتفهم القرارات المؤلمة. المسألة ليست امتحاناً للرئيس الجديد المكلف استردادَ لبنان. إنَّها امتحان للبنانيين أولاً وللقوى السياسية. لا بدَّ من الاتّكاء على سلاح الصبر. ولا بدَّ من المراجعة الفعلية والإقلاع عن الأدوار التي تفوق قدرة لبنان وتمنع عودتَه شرفة على شاطئ المتوسط.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: سقوط الأسد حصاد 2024 الحرب في سوريا عودة ترامب خليجي 26 إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية سقوط الأسد جوزيف عون
إقرأ أيضاً:
الشرع: نؤسس لمرحلة جديدة مع لبنان وسنكون مسافة واحدة من جميع اللبنانيين
أكد أحمد الشرع قائد الإدارة السورية الجديدة، أن إدارته ستؤسس لعلاقة جديدة بين سوريا ولبنان، مؤكدا أن سوريا ستكون على مسافة واحدة من الجميع في لبنان.
وقال الشرع خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي، إننا تطلب من الشعبين السوري واللبناني فرصة لمعالجة مشكلات الماضي، كما لفت الى أنهما بحثا موضوع الودائع السورية بالبنوك اللبنانية.
وأوضح أنّ الأولوية في سوريا هي للوضع الداخلي وحالة الأمن وحصر السلاح بيد الدولة، وأن تبنى سوريا العلاقات مع لبنان على أساس الأخوة ونسعى لزيادة الأواصر الاجتماعية، وأيّ عوائق حدودية بيننا يجب أن تُلغى مُستقبلاً.
وقال: "ندعم خيارات التوافق اللبنانية لاسيما على صعيد انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية"، وأضاف: "بيننا وبين لبنان مصالح مشتركة واستراتيجية". وأمل الشرع "اختيار ميقاتي لرئاسة الحكومة مُجدداً" وقال: "نسعى لتعاون طويل الأمد مع لبنان".
وقالت تقارير محلية إن الاجتماع تناول ملفات اللاجئين السوريين في لبنان وعملية دخول المواطنين بين البلدين بعد إيقاف سوريا إجراءات دخول اللبنانيين، إضافة إلى موضوع الأموال السورية المجمدة في لبنان.
وتابع: "اتفقنا على وجود لجان مختصة بشأن الحدود وملفات التهريب والقضايا الاقتصادية"، مشيرا إلى أن "أولويتنا الآن هي أمن سوريا وحصر السلاح بيد الدولة السورية".