في العام 1989، توصل اللبنانيون بوساطة سعودية إلى ميثاق وطني تحت مسمى «اتفاق الطائف»، الاتفاق الأشهر في تاريخ لبنان الذي أنهى حرباً أهلية دامية، وأعاد شكل لبنان الدولة بدلاً من لبنان الميليشيات، كانت فرصة تاريخية ضمنت للبنان واللبنانيين الاستمرار في الحياة دون الانزلاق في الحرب مرة أخرى.
كان اتفاقاً مرضياً وجيداً لكل الأطراف المتنازعة والمتحاربة، وضمن لمكونات لبنان اقتسام السلطة وتدوير القرار السياسي والأمني والاقتصادي بينهم.
اتفاق الطائف حافظ -وما زال- على الحد الأدنى من لبنان، لكن لبنان الذي تمناه الجميع لم يعد، ليس بسبب الاتفاق في حد ذاته -بالرغم من جودته-، بل لأن الفرقاء والقوى الإقليمية المستفيدة لم يكونوا يريدون إلا ربع لبنان، لا لبنان المكتمل، أو بصيغة أخرى شكله لا جوهره؛ ولذلك لم يعمل الفرقاء اللبنانيون على الخروج التام من مأزقهم السياسي والأمني، فقد كان لبنان الممزق في حاجة إلى أن يتبنى أبناؤه تلك الفرصة النادرة ويبنون عليها وطنهم، كانت فرصة سياسية واقتصادية كبرى لم يستفيدوا منها.
الفرصة الثانية عادت مع الدعم السعودي والتوافق الدولي قبل أيام على تعيين رئيس للجمهورية اللبنانية، بالتأكيد أن الاتفاق على الرئيس جوزيف عون ليس شبيهاً أبداً بتعيين رئيس الجمهورية الأسبق رينيه معوض 1992، فالظروف ليست نفس الظروف، لكن يبقى اتفاق «جوزيف عون» خطوة في رحلة سياسية مهمة يمكن أن تعيد لبنان إلى دولة ناجحة بدلاً من شكل اللا دولة الذي لاحقها طويلاً.
ولعلنا نذكر كيف أن النظام السوري التف -حينها- على اتفاق الطائف واغتيل رينيه معوض، وأحكمت دمشق «البعث» سيطرتها على القرار اللبناني لثلاثين سنة لاحقة، تخللتها حروب بالوكالة، ووجبات اغتيال بالجملة، وتحول لبنان المتعافي إلى مجرد مصنع كبير للمخدرات.
صحيح أن ظروف ما بعد انتخاب جوزيف عون -الحالية- لا تشبه ظروف 1992، لكن أي محاولة لتعطيل الاتفاق أو الالتفاف عليه ستعتبر تهوراً أشد من تهور اغتيال الحريري وقبله رينيه معوض، فإعادة تشكيل المنطقة على يد القوى العظمى من كابل إلى المحيط الأطلسي لن تتوقف، وكل من يراهن على قدرته على الوقوف أمام قطار التغيير سيتعرض لما تعرض له نظام بشار في حده الأدنى، وما تعرض له حزب الله في حده الأعلى.
يعتقد البعض في المنطقة ممن لا يزالون يعيشون في المرحلة السابقة بكل تفاصيلها أنهم قادرون على التذاكي والالتفاف على تطورات اليوم، كما فعلوا منذ الثمانينات إلى 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وأن قليلاً من الانحناء سيمكّنهم من استيعاب العواصف ثم استعادة المبادرة، واحتلال قرارات الحرب والسلام في الإقليم مرة أخرى.
لكن، لا بشار سيعود، ولا البعث الذي مات سينهض، ولا «غازي كنعان» جديداً سيدير لبنان من البقاع؛ لذلك لا يمكن إعادة خلق النظام السابق في دمشق مرة أخرى، فلم تنجح محاولات إعادة نظام البعث العراق، ولا الجماهيرية الليبية، وهو ما يخلق بالتأكيد شكلاً جديداً في الحياة السياسية في الشام جميعاً من دير الزور شرقاً إلى بيروت غرباً.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: سقوط الأسد حصاد 2024 الحرب في سوريا عودة ترامب خليجي 26 إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية إسرائيل وحزب الله لبنان جوزيف عون سقوط الأسد
إقرأ أيضاً:
رئيس يعيد الدولة اللبنانية إلى رشدها
في كل العالم يعتبر انتخاب رئيس جمهورية حدثاً عادياً، بعض الأحيان يمر ذلك الحدث بشكل عابر. هناك مَن لا يسمع به. إلا في لبنان فإنه حدث استثنائي هو أشبه بالمعجزة.
بعد سنتين من المماطلة والصراع والمناكدة واللعب والممانعة والهروب من الاستحقاق الدستوري ومحاولات الإرغام والتسويف صوت مجلس النواب اللبناني على اختيار قائد الجيش اللبناني جوزيف عون رئيسا للجمهورية.يكاد ذلك الحدث أن يختصر الواقع اللبناني بكل ملفاته التي سيكون الرئيس الجديد ملزما بمواجهتها لا لإنقاذ منصبه حسب، بل وقبل ذلك إنقاذ الدولة التي وضعه الدستور على رأسها. وهي ليست دولة بالمفهوم الحقيقي للدولة الحديثة بقدر ما هي حطام دولة، صنعت الطبقة السياسية من هياكلها الفارغة ملعبا لفسادها.
ما يدعو إلى الأسى والأسف أن حدثا عاديا مثل انتخاب رئيس جمهورية ما كان يمكن له أن يتم لولا أن إسرائيل كانت قد أجهزت على حزب الله وقد كان بمثابة العقبة التي لا يمكن تجاوزها من أجل انجاز ذلك الاستحقاق الدستوري.
لو لم تُمحَ قوة حزب الله ويُنسف الوجود الإيراني لما كان هناك رئيس للجمهورية اللبنانية ولظل لبنان يدور في متاهة الشروط الإيرانية وتأوهات المعارضين التي هي الوجه الآخر لخلو الحياة السياسية في لبنان من الإرادة الوطنية.
غير أن معطيات حرب إسرائيل على حزب الله كان من الممكن تحييدها والقفز عليها من خلال غض النظر عنها وتأجيل التفاعل معها لو أن الأمر ظل رهين قرار تتخذه الطبقة السياسية اللبنانية. لكن تلك الحرب بما انتهت إليه من نتائج وضعت لبنان مرة أخرى على مائدة اجتمعت حولها دول عالمية وإقليمية مهمة هي التي اتخذت القرار بأن يبدأ لبنان حياة جديدة، حياة صحية خارج مخزن البارود الذي تم تفجيره.
بمعنى أن النواب كانوا مجبرين على الكف عن الاستمرار في لعبتهم المجنونة التي دفع الشعب ثمنها بعد أن تحول لبنان إلى دولة فاشلة.
"لقد انتهى زمن السلاح المنفلت" قائد الجيش هو الأكثر دراية بمعنى أن يكون هناك سلاح إلى جوار سلاح الدولة. بمعنى أن تكون هناك قوة غير خاضعة للدولة هي التي تمسك بزمام قرار الحرب والسلم. بمعنى أن يتم الزج بلبنان في حرب لم يقرر خوضها وليست له مصلحة فيها ولم يكن معنيا بها.
يعرف جوزيف عون أن اللبنانيين ينتظرون منه الكثير. غير أن ذلك الكثير لا يمكن الوصول إليه إلا بعد أن تتم تلبية الشروط العالمية والإقليمية التي تقف في مقدمتها إعادة الهيبة للدولة اللبنانية والعمل على إنهاء تلك الدولة التي أقامها حزب الله داخل الدولة وصارت فيما بعد بمثابة دولة أكبر من الدولة اللبنانية.
لقد صغرت دولة لبنان أمام دولة حزب الله التي هي عبارة عن محمية إيرانية. ذلك ليس افتراء، بل هو الواقع الذي كان زعيم حزب الله السابق حسن نصرالله يقر به بلسانه. وهو الوهم الذي لا يزال متمكنا من أذهان عدد ليس بالقليل من اللبنانيين الذين لا يصدقون أن زمن تصفية الحسابات على أساس طائفي من خلال الاستعانة بالأجنبي قد ولى وأن عليهم أن يستعيدوا رشدهم على أساس الإيمان بوطنهم.
لا اعتقد أن عون سعيد بمنصبه، وهو يعرف أن التحديات التي سيواجهها أكبر من منصبه وصلاحياته. غير أن تربيته العسكرية يمكن أن تشد إزره. هناك حرب حقيقية يجب عليه أن يقودها على جبهات متعددة. جبهة السلاح المنفلت وجبهة الفساد الذي دمر الاقتصاد اللبناني وهبط بفئات من اللبنانيين إلى قاع الفقر وجبهة القضاء الذي كان مقيدا بخيارات تقع كلها خارج القانون وجبهة علاقة لبنان بمحيطه العربي التي ينبغي أن يُعاد ترميمها من أجل إنعاش الإقتصاد اللبناني على الأقل.
عبر ربع قرن وهو عمر الهيمنة الإيرانية من خلال مندوبها حزب الله فقد لبنان الكثير من صفاته التي كانت تؤهله أن يكون دولة شرق أوسطية بعمق عربي. ليست استعادة تلك الصفات بالأمر اليسير. ذلك ما جعلني استبعد أن يكون الرئيس عون سعيداً بمنصبه. ولكنني من جانب آخر على يقين من أن قائد الجيش السابق سيعيد الدولة اللبنانية إلى رشدها. فلبنان في زمنه العصيب هو في أمس الحاجة إلى قوة تنتشله من قاع البئر التي سقط فيها.