لجريدة عمان:
2025-01-12@22:02:37 GMT

النسيج الاجتماعي.. لا يكتفي بالتكوين الذاتي

تاريخ النشر: 12th, January 2025 GMT

يُنّظَرُ إلى مفهوم النسيج الاجتماعي على أنه مفهوم معقد، يكتنفه الكثير من الغموض سواء في التعريف أو الدلالة، ربما التعريف قد يكون أكثر تبسيطا من الدلالة، وذلك لأن الدلالة يشوب تعقيدها مضامين العلاقات التي تكون بين فئات المكون الاجتماعي، ومشكلة العلاقات أنه يصعب ضبطها وفق منهج معين، لأنها خاضعة للقناعات، وللمصالح، وللظروف الآنية، ولتراكم الصور الذهنية السابقة والناتجة من ذات العلاقات، فالذاكرة تلعب دورا محوريا في مسألة تخزين الصور الذهنية بما فيها الصور النمطية التي تبقى عالقة في الذهن، ويصعب نسيانها أو إزالتها حيث تحتاج إلى زمن ليس يسيرا بالمطلق، وهذا مما يراكم الشعور بالهزيمة كلما أراد الإنسان أن يستعيد شيئا من حيوية العلاقات مع الآخر، وكلما أراد أن يستقيم تلقى صفعات الذاكرة، أن فلان أو مجموعة من الناس كانوا كذا، وكان موقفهم كذا، ولا ينبغي الاستسلام لكذا.

وتظل هذه الـ «كذا» عقدة نفسية، تعرقل مسارات النسيج الاجتماعي الذاهبة إلى التصالح، وإلى السير سيرا عفويا بنائيا، ومرمما لمجموعة النتوءات التي تحدثها هذه العلاقات في خط سيرها المعروف، لذا يبقى النسيج الاجتماعي متأرجح التشكل والانسجام، والبناء على ما تم إنجازه في بنيان هيكل المجتمع ككل، ومن هنا تمتحن الشعوب في إرادتها، وفي قراراتها، وفي استشرافاتها للمستقبل، ولكن لعل ما يخفف من وطئ هذه الحالة هو الأحداث الجسام التي تمر بها المجتمعات.

فمن شأن هذه الأحداث أن توحد أبناء المجتمع، وتُحَيِّدَ مجموعة الاختلافات المتموضعة طوال الزمن، وتجبر كسر الخواطر، وتتسامى على الصغائر مما اقترفته الأيدي والألسن، والأرجل، حيث تعود تلك الصورة الناصعة البياض لجمال الأخوة والتآزر والتعاون والتوافق، فالأحداث الجسام على الرغم من قسوة تأثيرها على الناس، تظل بمثابة البلسم الذي يرمم جروح العلاقات بين الناس، وبذلك يتعزز النسيج الاجتماعي بين المجموعات، فتصبح في لحظة زمنية فارقة على كلمة رجل واحد، ومتى وصل حال المجتمع إلى هذا المستوى من التحقق أصبح ذلك بمثابة الأمر الملزم للجماعة كلها المحافظة على هذا الإنجاز على أقصى قدر ممكن من عمر المجتمع، ولنا في الحديث الشريف مبلغ الأثر، والعبرة والحكمة، فعن عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد، يريد يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه»- رواه مسلم – بحسب المصدر.

يتشكل هيكل النسيج الاجتماعي من سلسلة تبدأ بالفرد، مرورا بالأسرة والمجتمع، وصولا إلى المكون الاجتماعي الكبير للدولة ككل، ومن خلال هذه السلسلة يتجسد المعنى العام للنسيج الاجتماعي، وهو في حقيقته حالة ذهنية، وليست مادية يمكن نقلها من مكان إلى آخر، ولأنها حالة تختزنها الحاضنة الذهنية، بالتالي يصعب تصويب مساراتها بصورة ممنهجة بالتي يراد لها أن تكون لأنها خاضعة للقناعات والتصرفات الفردية كما جاء أعلاه ولكن يمكن الدفع إلى تعزيزها من خلال الخطط والبرامج الذاهبة إلى تعزيز البنى الاجتماعية، وربط ذلك بالمصلحة العامة التي تهم الجميع، فوجود مؤسسات اجتماعية فاعلة في المجتمع من شأنها أن تعزز النسيج الاجتماعي؛ لأن كل فرد في المجتمع يهمه كثيرا أن يكون مجتمعه متعاونا، ومتآزرا، يكرم فيه الفرد، ويعز دوره، ويشعر أن هناك حاضنة اجتماعية ترعى مصالحه، وتعمل على تنمية الدور الذي يقوم به بين أحضان المجتمع، ولذلك تسعى الأنظمة السياسية الفاعلة والمحركة لديناميكيات المجتمعات التي تديرها إلى استحداث برامج وأنشطة تعمل على تعزيز الدور الذي يقوم به أبناء المجتمع لتحريك الساكن داخل مجتمعهم من خلال أنشطة اجتماعية مختلفة، وبرامج خدمية يلمس أثرها الفرد في المجتمع، وتشعره أنه جزءا منها، وأن عليه المحافظة عليها، وتعظيم دورها، خدمة له، ولأبنائه، وللمجتمع المحلي من حوله، حيث تتوغل هذه الأنشطة بصورة غير مباشرة في وجدان الناس، فتشعرهم بأنهم ذو قيمة معنوية في وسطهم الاجتماعي، وأنهم جزء لا يتجزأ من عملية البناء والتنمية، وإلا لما كان لهذه البرامج من وجود، وبالتالي ينقلهم هذا الشعور إلى التكاتف والتعاون أكثر، فيكون عائد ذلك كله هو تعضيد النسيج الاجتماعي، وتقويته، أما إذا لم ينتبه النظام السياسي لذلك، وترك الحبل على الغارب، تتقصى النخب المترصدة لأحوال المجتمعات مصالحها الخاصة فيه، وسط غفلة الآخرين، فإن ذلك بلا شك سوف يفت من عضد النسيج الاجتماعي، فيصبح أفرادا وجماعات يأكل بعضهم بعضا، وبذلك يتعرض الانتماء الاجتماعي إلى كثير من الخلل البنيوي، غير المرغوب، وغير المستساغ في البناءات الاجتماعية القائمة على التآزر والقوة، وهذه مسألة مهمة، فالوطن دائما وأبدا يتقوى باللحمة الاجتماعية، ويرى فيها تحقيق مشاريعه الوطنية السامية.

ينظر إلى استثمار العلاقات بين مكونات المجتمع من أنجح الوسائل لتعزيز قوة وتأثير النسيج الاجتماعي على امتداد مظلته الاجتماعية، ولعل ما يأخذ الراية ابتداء هنا هو علاقات النسب، والمصاهرة، ومن هنا نستشف الإشارة الربانية من لدن المولى عز وجل في هذا الاتجاه في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) – الآية (13) من سورة الحجرات -. فهذه المعرفة «مجموعة العلاقات» هي التي تقوم عليها فكرة بقاء وحيوية النسيج الاجتماعي، لأن المعرفة هي التي تحمل كل طرف من طرفي المعادلة المسؤولية الذاتية في الحرص على الآخر، ومراعاة مصالحه، وللشعور الفطري بتحقق المؤازرة لكلا الطرفين، فالإنسان يتعزز بمن حوله، ويجد فيه النصرة في حالات الشدة والنصح والإرشاد في حالات الرخاء، ويكفي أن تجد من حولك في حالات ضعفك يحيطونك، ويواسونك، ولو على سبيل المجاملة، فالمهم أن تجد أن هناك أناس حولك، وأنك لست مقطوعا من شجرة، وأن هنا بالفعل شجرة تستظل بظلالها الوارفة من الرعاية والعناية، والـ «طبطبة» الحانية على ذاتك المرتبكة وخاصة في ساعة لحظات الأحداث المؤلمة، والمزلزلة لأركان الثبات والصبر، وكما يقال: «المرء في المحنة عي» والإعياء هنا هو التشتت والارتباك، وعدم القدرة على لملمة أشلاء الشعور المتناثرة على أرصفة الألم والحزن، فكم تتماهى كل هذه الأعباء المعنوية عندما تجد أن هناك من يحيط بك من كل اتجاه يواسونك ويؤازرونك، ويشدون من عضدك في لحظات العسرة.

يؤدي المكون الأخلاقي الإيجابي الذي تعكسه مجموعة العلاقات القائمة بين أفراد المجتمع دورا محوريا في تعزيز النسيج الاجتماعي، وتقويته، لكي يحافظ المجتمع بكل أطيافه على تماسكه، وتآزره، وتعاونه، وتكامله، حيث يتمثل هذا المكون في مجموعة من الممارسات، والاشتغالات التي يقوم بها الأفراد بين بعضهم البعض، فالمسألة لا تقتصر على التوافق المعنوي بين الأطراف، فلا بد أن يترجم ذلك على أعمال وأنشطة، تشعر كل الأطراف بأن هناك شيئا فاعلا في هذه العلاقات، فجملة «الصديق وقت الضيق» لم تأتِ من فراغ، وإنما هي ضرورة ملحة لاستقامة النسيج الاجتماعي بين الجماعات والأفراد، فالتفكير في الآخر، ولو كان بعيدا عنك، واستحضار هيئته كفرد، واستحضار حاجته كإنسان، يصنف في ذروة سنام النسيج الاجتماعي، ومن هنا تجد فلان من الناس آت إليك: لزيارة لتأدية غرض ما لمؤازرة لطلب حاجة، لمناقشة أمر ما يخصه، أو يخصك، فهذا المشوار الذي قطعه لكي يصل إليك لم يأت من فراغ، وإنما يأتي توظيفا لشعور أقلق صاحبه حتى وصل إلى عندك، هذا الشعور هو من صميم مكونات هذا النسيج، ومن حقيقة هذه الـ «اجتماعية» فهنا المسألة تعكس بعدا موضوعيا في العلاقة في غاية الأهمية، وليس شكليا فقط، فالشكلية متحققة من الأساس في الهيكلية، (مجتمع به أفراد يجمعهم محيط أسري في بقعة جغرافية محددة) فالموضوعية هي من يعضد حقيقة النسيج الاجتماعي، ويعلي من شأنه مستوى تفاعلاته بين أفراد المجتمع الواحد، وقد ينظر البعض إلى ضرورة تحقق شيئا من الانسجام بين المجموعة الواحدة لكي يؤدي النسيج الاجتماعي دوره الأكبر، ويذهب مفهوم الانسجام إلى مجموعة منها: اللغة، القيم والعادات، وعلاقات النسب، ولكنني لا أزكي «الانسجام» على أنه أمر مهم جدا في إعلاء بنيان النسيج الاجتماعي.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: النسیج الاجتماعی أن هناک

إقرأ أيضاً:

جمعية خبراء الضرائب: مد إيقاف العمل بضريبة الأطيان يسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي

رحبت جمعية خبراء الضرائب المصرية بموافقة لجنة الخطة والموازنة في مجلس النواب على مشروع قانون بشأن مد إيقاف العمل بالقانون رقم 113 لسنة 1939 الخاص بضريبة الأطيان الزراعية لمدة عام آخر.

وقال أشرف عبد الغني رئيس الجمعية - في بيان اليوم /الجمعة/ - إن قرار وقف العمل بضريبة الأطيان الزراعية يسهم في تحقيق رؤية مصر 2030 للوصول إلى الاكتفاء الذاتي في معظم المحاصيل الزراعية وخاصة الإستراتيجية وتصدير الفائض لزيادة موارد الدولة من العملة الصعبة. 

وأضاف أن هذه المرة الرابعة التي يمد فيها إيقاف العمل بضريبة الأطيان الزراعية، وذلك لتخفيف الأعباء الضريبية على العاملين في المجال الزراعي وتشجيعهم على زيادة الإنتاج. 

وأوضح أن القرار يساهم أيضا في تقليل الفجوة بين الواردات والصادرات الزراعية المصرية، حيث تستورد مصر ما يتجاوز من 11 مليار دولار سنويا.. في حين أن الصادرات لم تتجاوز 9 مليارات دولار. 

وأكد أشرف عبد الغني أن الوصول إلى الاكتفاء الذاتي في المحاصيل الأساسية يتطلب عدة إجراءات أهمها استقرار أسعار مستلزمات الإنتاج، وكذلك الرقابة على الأسمدة والمبيدات لزيادة الإنتاجية، بالإضافة إلى تشجيع الزراعة التعاقدية لضمان أسعار مناسبة للمزارعين.

مقالات مشابهة

  • فيلم “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو” يكتفي بتحقيق ما يقرب من 600 ألف جنيه
  • للمرة الثانية تواليا.. بن ناصر يكتفي بمقاعد البدلاء
  • خريطة طريق للعمل الاجتماعي 2/3
  • حلف قبائل حضرموت يطالب بإقالة المحافظ ويجدد تمسكه ب ” الحكم الذاتي “
  • التكافل الاجتماعي
  • رحب بإعلان المجلس الرئاسي.. حلف قبائل حضرموت يجدد تمسكه بـ "الحكم الذاتي" ويطالب بإقالة المحافظ
  • جمعية خبراء الضرائب: مد إيقاف العمل بضريبة الأطيان يسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي
  • خبراء الضرائب: مد وقف العمل بضريبة الأطيان يساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي
  • جمعية الخبراء: تمديد وقف العمل بضريبة الأطيان يساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي