لماذا يدين المؤرخون الأمريكيون «إبادة إسرائيل للمدارس»؟
تاريخ النشر: 12th, January 2025 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
ثمة أسئلة كثيرة للغاية ينبغي أن تعالجها مهنة التاريخ في الوقت الراهن. فبين أهل اليمين الراغبين في تأكيد تفرد أمريكا وعظمتها وأهل اليسار الراغبين في تأكيد إخفاقات أمريكا ونقاطها العمياء، كيف ينبغي أن يحكي المؤرخون قصة هذه الأمة؟ وما دور التاريخ في مجتمع يعاني نقصا خطيرا في سعة الانتباه؟ وما الذي يمكن أن يفعله هذا المجال -إن كان بوسعه أن يفعل أي شيء- لإيقاف تراجع عدد الطلبة الذين يتخصصون في دراسة التاريخ، والذين بلغت نسبتهم وفقا لآخر إحصاء نسبة شديدة التدني هي 1.
غير أن السؤال الأكثر إلحاحا في المؤتمر السنوي للجمعية التاريخية الأمريكية الذي حضرته للتو في نيويورك لم يقترب من أي من هذه الأسئلة. بل إنه لم يتناول دراسة التاريخ أو ممارسته أصلا. وإنما تناول بدلا من ذلك ما أطلقَ عليه «إبادة إسرائيل للمدارس» -التي تم تعريفها بأنها التدمير العمدي للنظام التعليمي- في غزة، وكيف ينبغي أن يكون رد الفعل على ذلك من جانب الجمعية التاريخية الأمريكية التي تمثل المؤرخين في الأوساط الأكاديمية، والمدارس الابتدائية والثانوية، والمؤسسات العامة والمتاحف في الولايات المتحدة.
في مساء يوم الأحد، صوّت الأعضاء في لقائهم المهني السنوي على قرار تقدمت به جمعية (مؤرخون من أجل السلام والديمقراطية) وهي جمعية تابعة تأسست سنة 2003 لمعارضة الحرب في العراق. تضمن القرار ثلاثة إجراءات. أولا، إدانة العنف الإسرائيلي الذي تقول الجمعية إنه يقوض حق أهل غزة في التعليم. ثانيا، المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار. وأخيرا، وربما الأغرب من منظمة أكاديمية، التزام «بتشكيل لجنة للمساعدة في إعادة بناء البنية الأساسية التعليمية في غزة».
قال لي فان جوس، أستاذ التاريخ الفخري في كلية فرانكلين ومارشال والرئيس المشارك المؤسس لجمعية مؤرخين من أجل السلام والديمقراطية «إننا نعد هذا» أي الأفعال الإسرائيلية في غزة «انتهاكا متعدد الأوجه للحرية الأكاديمية». وأشار إلى أن الجمعية التاريخية الأمريكية قد اتخذت مواقف عامة من قبل، منها إدانة حرب العراق وحرب روسيا على أوكرانيا. «شعرنا أنه ليس لدينا خيار آخر، وأننا لو لم نخرج بهذا القرار، لكانت تلك رسالة مفادها أن المؤرخين لا يبالون فعليا بإبادة المدارس».
سيطر هذا الالتزام العاطفي على الاجتماع المهني الذي دأبه أن يكون فعالية هادئة تجتذب قرابة خمسين من الحضور، غير أنه في هذا العام، وبعد مسيرة في وقت أسبق، امتلأت جميع مقاعد القاعة. وبقيت برغم ذلك مجموعات من الأعضاء واقفة تصوت خارج قاعة ميركوري للرقص في فندق هيلتن نيويورك بوسط المدينة، دون حتى الاستماع إلى المتحدثين الخمسة المؤيدين والمتحدثين الخمسة المعارضين (ومن بينهم رئيس الجمعية القادم) وهم يعرضون وجهات نظرهم.
منع الإعلام من حضور اجتماع يوم الأحد ولكن الحاضرين وصفوا عبر صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي مناخا صاخبا غير معهود. وقد رأيت الكثير من الأعضاء يتجهون إلى الاجتماع مرتدين الكوفيات الفلسطينية ومعلقين ملصقات مكتوب عليها «قولوا لا لإبادة المدارس». وبينما تعرض معارضو القرار لصيحات الاستهجان والصفير، قوبل المؤيدون له بالتصفيق المدوي.
وقد لا يكون مدهشا إذن أن التصويت جاء بأغلبية ساحقة فالمؤيدون 428 والمعارضون 88، وتعالت هتافات «حرروا فلسطين» مع إعلان النتيجة.
كان الإجماع واضحا بين المؤرخين المحترفين، وهم جماعة شهدت الكثير من التنوع في السنوات الأخيرة، أو أنه كان واضحا في الأقل بين الأعضاء الذين حضروا. وقد يفسر المرء هذا باعتباره إشارة على دينامية المجال وعلى أن المؤرخين ناشطون في الاشتباك مع الشؤون العالمية بدلا من أن يشيبوا في صمت داخل الأراشيف المتربة، أو لعل هذا الإجماع -مثلما يشير المعارضون- نتيجة لحملة محكمة التنظيم.
ولكن بغض النظر عن أي شعور جيد يحدثه القرار في نفوس مؤيديه تجاه التزامهم الأخلاقي، فإن هذا التصويت له نتائج عكسية.
أولا، يعارض القرار التزام المؤرخ الأساسي بأن يقيم الحجج بناء على الأدلة. فهو يقول إن إسرائيل «دمرت فعليا النظام التعليمي في غزة»، دونما إشارة إلى أن حماس -التي لا ذكر لها في القرار- تؤوي مقاتليها في المدارس، بحسب رواية إسرائيل.
ثانيا، قد يشجع القرار منظمات أكاديمية أخرى على الانحياز في الصراع بين إسرائيل وغزة، وهو أمر أفضى إلى تمزيق أواصر الجامعات في العام الماضي، ولا تزال الجامعات تحاول أن تبرأ منه. ففي الاجتماع السنوي الذي يعقد في إجازة هذا الأسبوع للجمعية اللغوية الحديثة على سبيل المثال، من المتوقع أن يحتج الأعضاء على القرار الأخير الذي اتخذته منظمة العلوم الإنسانية برفض التصويت على الانضمام إلى مقاطعة إسرائيل.
وحتى من يوافقون على رسالة قرار الجمعية التاريخية الأمريكية قد يجدون سببا لعدم تأييد هذه الرسالة. فمن المؤكد أنها تصرف انتباه الجمعية عن تحديات تواجه مهمتها الأساسية وهي دعم الدور المهم للتفكير والبحث التاريخيين في الحياة العامة. فالالتحاق بصفوف التاريخ يتراجع والأقسام تتقلص، وسوق العمل في أدنى مستوياته للحاصلين على الدكتوراة في التاريخ.
وأخيرا، يؤكد هذا القرار ويعزز التصور بأن الوسط الأكاديمي بات مسيَّسًا للغاية وذلك في اللحظة التي تشهد تولي دونالد ترامب -المعادي للأكاديمية- السلطة مهددا باتخاذ إجراءات صارمة ضد النشاط السياسي اليساري في التعليم. فلماذا تأجيج هذه النيران؟
قال لي جيفري هيرف، أستاذ التاريخ الفخري في جامعة ميريلاند وواحد من المؤرخين الخمسة الذين تحدثوا ضد القرار يوم الأحد إنه «في حال نجاح هذا التصويت، فإنه سوف يدمر الجمعية التاريخية الأمريكية. فعند هذه النقطة، سيقول الرأي العام والجهات السياسية الفاعلة خارج الأكاديمية إن الجمعية التاريخية الأمريكية أصبحت منظمة سياسية وسوف يفقدون الثقة فينا تماما. فلماذا نصدق أي شيء يقولونه عن العبودية أو الصفقة الجديدة أو أي شيء آخر؟»
وليس القرار أمرا واقعا. فمجلس الجمعية التاريخية الأمريكية، وهو الهيئة الحاكمة للجمعية، لا بد أن يقبل أو يرفض إقرار التصويت أو ينقضه. ومن شأن الرفض أن يرسل القرار إلى أعضاء الجمعية البالغ عددهم أكثر من 10450 للتصويت الكامل. وقد أصدر المجلس في اجتماعه يوم الاثنين بيانا مقتضبا قال فيه إن قراره مرجأ إلى الاجتماع التالي، في موعد ما خلال الشهر الجاري. وحتى ذلك الحين، لن تتخذ الجمعية التاريخية الأمريكية موقفا رسميا.
وفي رسالة إلى أعضاء الجمعية قال جيم جروسمان، مدير الجمعية التنفيذي وأحد معارضي القرار إن «الجمعية لا تستطيع أن تتدخل، ولا تتدخل، ولا يجب أن تتدخل في أي مكان. فبوصفنا جمعية مشكلة من أعضاء، نظل على مسافة من القضايا الخلافية بين أعضائنا. كما أننا نضع في اعتبارنا أن فعاليتنا تقوم على شرعيتنا، وسمعتنا بوصفنا محايدين، وعلى نزاهتنا المهنية، وعلى الحدود اللائقة بنا».
ولعل ذلك الموقف قد تزحزح بالفعل. إذ أدان بيان الجمعية بشأن حرب العراق سنة 2007، على سبيل المثال، تورط أمريكا في العراق والرقابة المفروضة على السجل العلني لها وحث أيضا على إنهاء الحرب. وفي ما يتعلق بأوكرانيا، جاء البيان أكثر حذرا في عباراته، فرفض وصف فلاديمير بوتين لأوكرانيا بأنها جزء من روسيا واعتبر أنه مناف للتاريخ.
وقد يعتقد مؤيدو القرار الراهن أنهم يتحركون بوازع أخلاقي. ولكن المؤرخين يتعلمون أن يأخذوا النظرة بعيدة المدى بعين الاعتبار. وقد أذهب إلى أنه في حين يجب أن يكون المؤرخون أحرارا في المشاركة في القضايا العامة بمفردهم، فإنه خير للجمعية التاريخية الأمريكية بوصفها المؤسسي ألا تتدخل في صراعات سياسية. وقد يرى البعض في هذا خنوعا. أما أنا فأراه وقفا حكيما لموجة توسيع المهام ودعما من جانب العلماء للفكر المستقل.
باميلا باول من كتاب الرأي في نيويورك تايمز
خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی غزة
إقرأ أيضاً:
مومياء عمرها 7 آلاف سنة.. هل تُعيد صياغة السردية التاريخية للصحراء الليبية؟
لطالما عُرفت صحراء ليبيا بأنها أرض جرداء قاحلة تكتنفها الرمال الجافة، إلا أن دراسة حديثة أزاحت اللثام عن وجود حياة بشرية عاشت قبل نحو 7 آلاف عام على أرض خضراء رطبة.
وفي الوقت الذي أثبتت فيه دراسات سابقة أن الصحراء الليبية القاحلة، لا سيما في موقع تاخارخوري جنوب غربي البلاد، كانت في الماضي أرضا خضراء رطبة، فإن دراسة حديثة أعدها معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في لايبزيغ بألمانيا بالتعاون مع جامعة سابينزا في روما، ونُشرت مطلع أبريل من عام 2024، عثرت على ما لم يكن متوقعا.
فقد عثرت على مومياوين بشريتين في كهف تاخارخوري تنتميان إلى سلالة بشرية غير معروفة، إذ أظهرت التحاليل أن هذه السلالة، التي سميت بـ"الشبحية"، انفصلت عن بقية سلالات البشر في أفريقيا منذ ما يقرب من 50 ألف سنة قبل أن تنقرض، ليكون هذا الاكتشاف علامة فارقة وغامضة في تاريخ البشرية، ويجعل من ليبيا نقطة محورية لفك أحد أعظم ألغاز الحضارة البشرية.
الصيرورة الحضاريةرئيس البعثة الأثرية لجامعة سابينزا الإيطالية، الباحث الإيطالي سافينو دي ليرنيا، وهو عالم آثار متخصص في عصور ما قبل التاريخ الأفريقي وأحد القائمين على الدراسة، أوضح في تصريح خاص للجزيرة نت أن البحث الجينومي الذي أُجري على المرأتين المدفونتين في موقع تاخارخوري قبل 7 آلاف عام هو أحدث سلسلة من الاكتشافات "المذهلة"، التي تم التوصل إليها في هذا الموقع الاستثنائي الواقع في جبال تدرارت أكاكوس، والمدرج بالفعل على قائمة التراث العالمي لليونسكو.
إعلانلذا، فإن إثبات وجود سلالة أجداد قديمة يساعد في فهم ديناميكيات سكان الصحراء الخضراء بشكل أفضل، ويطرح تساؤلات حول كيفية إعادة توطين المنطقة بين نهاية العصر البليستوسيني وبداية العصر الهولوسيني، أي تقريبا بين 15 ألفا و9 آلاف سنة مضت، حسب تصريحه.
وجوابا عن سؤال الجزيرة نت حول انعكاس هذا الاكتشاف على الرواية التاريخية والثقافية لليبيا، قال العالم الإيطالي إن المرأتين المحنطتين طبيعيا اللتين عُثر عليهما في موقع تاخارخوري كانتا جزءا من ممارسة طقسية دامت ما بين حوالي 8 آلاف إلى 4,500 سنة مضت، إذ استُخدم جزء منعزل من الملجأ لدفن النساء والأطفال، في حين دُفن الرجال في مكان آخر، مضيفا أن نساء تاخارخوري عشن نمط حياة يعتمد على الرعي، إذ كانت الحيوانات المستأنسة الرئيسة هي الأبقار والأغنام والماعز، والتي دجنت قبل ذلك بآلاف السنين في جنوب غرب آسيا.
ولفت الباحث الإيطالي إلى أن البحث الجيني أثبت أن الرعي انتشر عن طريق عملية انتشار ثقافي وليس عن طريق استبدال سكاني، بفضل شبكة معقدة من الروابط الثقافية التي تظهر بوضوح في فنون النقوش الصخرية والثقافة المادية مثل الفخار، وفق حديثه للجزيرة نت.
ومن منطلق انتماء السلالة الجينية للمومياوين إلى "سكان أشباح"، أكد العالم الإيطالي أن البقايا البشرية المكتشفة في موقع تافورالت في المغرب -الذي يعد أقدم من تاخارخوري- تشترك بشكل كبير مع هذه السلالة الأجدادية، مما يثير تساؤلات جوهرية حول العلاقات البيولوجية والثقافية في شمال أفريقيا خلال أواخر العصر البليستوسيني.
وأضاف، في حديثه للجزيرة نت، أن اكتشاف تاخارخوري يؤكد الأهمية البالغة للصحراء الليبية في إعادة بناء التاريخ الثقافي العميق لأفريقيا، إذ يحوي هذا الموقع أقدم دليل على معالجة الحليب في أفريقيا منذ 7 آلاف عام، وأول أشكال زراعة الحبوب البرية منذ أكثر من 10 آلاف سنة، فضلا عن أقدم بقايا لحيوانات مستأنسة منذ 8 آلاف عام، علاوة على فن النقوش الصخرية وغيره من السمات الاستثنائية التي تركتها الجماعات البشرية التي كانت تعيش في هذه المناطق.
بدوره يرى الباحث في علم الآثار والمدير السابق لإدارة الشؤون الفنية بمصلحة الآثار، نويجي العرفي، أن مومياء تاخارخوري تتمتع بخصوصية استثنائية، ليس على صعيد السردية الليبية فحسب، بل في سياق التاريخ الإنساني بأسره، إذ لم تخضع لعمليات التحنيط التقليدية المعروفة في الحضارات القديمة، وإنما حفظتها الظروف البيئية الطبيعية الفريدة التي وفرت بيئة ملائمة لاستمرارية بقاء أنسجتها عبر العصور، إلى جانب اكتشاف بقايا أوانٍ فخارية مشبعة بدهون الحليب في محيطها، ما يُشكّل أقدم دليل مادي على صناعة الألبان وتدجين الحيوانات في تاريخ البشرية.
من جهته، اعتبر أستاذ الآثار بجامعة بنغازي الدكتور خالد الهدار، في حديثه للجزيرة نت، أن هذا الاكتشاف يمثل تحولا جوهريا في قراءة التاريخ الليبي، لا سيما الجنوب الذي ظل لعقود منطقة هامشية في السرديات التاريخية، ليبرز اليوم بوصفه مهدا حقيقيا للحضارة الإنسانية.
إعلانوعن تأثير هذا الاكتشاف على السردية التاريخية لليبيا، أوضح الهدار أن الصحراء الكبرى، رغم غناها التاريخي والأثري، كانت مهملة مقارنة بالتركيز على المدن الساحلية، وأن اكتشاف المومياء سيسهم في إعادة الاعتبار لحضارة الجنوب الليبي، بما في ذلك حضارات ما قبل التاريخ، والجرمنت، والفترات الإسلامية اللاحقة.
منهجيات جديدةوأكد الهدار أن هذا الاكتشاف يفرض ضرورة إعادة تقييم مناهج علم الآثار في الجامعات الليبية، لا سيما فيما يتعلق بدراسات ما قبل التاريخ، موضحا أن قلة المتخصصين في تحليل البقايا الأثرية بالجامعات الليبية تشكّل تحديا.
وأوصى الهدار بضرورة استثمار هذا الاكتشاف عبر إطلاق نهضة علمية حقيقية تتأتى من خلال:
إنشاء برامج دراسات عليا متخصصة في آثار الصحراء الليبية، موضحا أن ليبيا تفتقر حاليا إلى برامج متخصصة في عصور ما قبل التاريخ. تحديث المناهج الأكاديمية في جميع الجامعات والمؤسسات التعليمية. تأسيس مركز وطني لدراسات ما قبل التاريخ يتخذ من الجنوب مقرا له. إشراك الباحثين الليبيين في مشاريع تجرى بالتعاون مع الجامعات العالمية والبعثات الأثرية الدولية.وحول التحديات، أكد مستشار وزير السياحة والآثار في الحكومة الليبية أحمد حسين، للجزيرة نت، أن إدارة الموروث الثقافي في ليبيا تواجه تحديات بنيوية جسيمة، في ظل غياب مصلحة آثار فاعلة في المنطقة الشرقية، وانحصار دور مصلحة الآثار في المنطقة الغربية، وهو ما يترك فراغا إداريا كبيرا يلقي بظلاله على حماية المواقع الأثرية.
وقال مستشار الوزير إن ليبيا، بمساحتها الشاسعة وتنوعها الحضاري الفريد، تختزن إرثا ثقافيا يضاهي قارة بأكملها، إلا أن هذا الإرث يرزح منذ سنوات تحت وطأة غياب الإرادة السياسية وقلة الإمكانات.
إعلانوعن الوضع في المنطقة الشرقية، أوضح حسين أن غياب المتاحف الوطنية يمثل إحدى أبرز المعضلات، فمدينة شحات التي تضم أبرز الشواهد التاريخية لا تمتلك أي متحف، مشيرا إلى أنه لو جرى دعم قطاع الآثار بجدية لمدة عامين فقط، فإن ليبيا ستكون قادرة على خلق مشروع ثقافي توعوي، وفني، بل واقتصادي متكامل.
من جانبه، عدد الباحث في علم الآثار نويجي العرفي، للجزيرة نت، أبرز التحديات الجسيمة التي تهدد آلاف الشواهد الأثرية:
الإمكانات المادية لا توازي حجم الأعباء والمسؤوليات. إهمال مزمن وغياب مستمر للدعم المؤسسي منذ أكثر من نصف قرن. جمود تشريعي، إذ لا يزال قانون الآثار المعمول به، الذي جرى تعديله قبل 30 عاما، عاجزا عن الاستجابة لمتطلبات العمل الأثري الحديثة، في ظل ما يشهده العالم من تطورات علمية، وتغيرات مناخية، وضغوط توسع عمراني متزايدة.وكل هذه المعطيات مجتمعة حاصرت جهود الخبراء الليبيين في حدود ضيقة لا تغطي أكثر من 5% من الاحتياجات الفعلية، في وقت تغيب فيه عمليات الترميم والصيانة الدورية للمواقع الأثرية، حسب العرفي.
أما على صعيد البنى التحتية، فالموجود من مخازن الآثار لا يعدو أن يكون مباني قديمة ومتهالكة لا تليق بما تحويه من نفائس تراثية.
وأضاف العرفي للجزيرة نت أن ليبيا، التي تملك بالكاد 7 متاحف عاملة، تحتاج وفق أدنى التقديرات إلى إنشاء ما لا يقل عن 45 متحفا.
وفي عصر تدفق المعلومات الرقمية، تبرز الحاجة إلى دور المدونين في تأريخ الأحداث وتعزيز الوعي الثقافي، وفي هذا الصدد، أوضح الكاتب والمدون المهتم بالتاريخ، رضوان اللفع، أن المدونات والمنصات الرقمية أصبحت اليوم تمثل إحدى الأدوات الحيوية لإحياء الاهتمام بتاريخ ليبيا العريق، لا سيما في ظل الاكتشاف النوعي في كهف تاخارخوري، الذي لم يقتصر على العثور على مومياوين فحسب، بل كشف عن متحف طبيعي يختزن أدوات ومقتنيات ونباتات متحجرة تعود إلى آلاف السنين.
إعلانونوه اللفع إلى أن الاهتمام التاريخي والأثري لطالما تركز على مناطق الساحل والمواقع الرومانية واليونانية، في حين ظلت الصحراء الليبية -بما تحويه من حضارات وفنون صخرية ومآثر إنسانية منسية- بعيدة عن الضوء، وذلك بسبب الصعوبات اللوجستية والأمنية، علاوة على تراكم التصورات النمطية التي اختزلت الجنوب الليبي كأرض ميتة.
وأشار اللفع إلى أن العالم اليوم يعيش في عصر الزخم المعلوماتي الرقمي، ولم تعد وسائل الإعلام التقليدية وحدها كافية لإيصال المعرفة أو تعزيز الوعي الثقافي، مما يضع المدونين والكتّاب الرقميين أمام مسؤولية مزدوجة تتمثل في نقل هذه الثروات الأثرية إلى جمهور أوسع، وتحفيز المؤثرين وصُناع الرأي على دعم هذه الاكتشافات، لإبراز أهمية ليبيا في المسار الحضاري الإنساني، والدعوة للحفاظ على التراث، وتشجيع البحث العلمي، بما يعيد لليبيا موقعها المستحق على خريطة التاريخ العالمي، وفق قوله.