محمد بن عيسى البلوشي

تتجه الدول إلى تمكين الاقتصاد؛ ليكون مُحركها الأساس نحو تنوُّع وتطوُّر واستدامة برامج التنمية، وفي سلطنة عُمان نلمسُ توجهًا وإرادة حقيقة مُنبثقة من الرؤية السامية الكريمة لمولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- في جعل الاقتصاد هو المحرك الأساسي لعجلة التنمية في بلادنا، والفلك الذي تدور حوله وإليه جميع الأنشطة والبرامج الوطنية، وما الزيارات السامية إلى العواصم والاستقبالات التي قام بها جلالته- أيده الله- والاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارية التي تم توقيعها، إلّا دليل واضح على عمق الاستراتيجية الاقتصادية التي تمضي عُمان نحو تحقيقها.

ولا شك أنَّ جعل سلطنة عُمان قِبلة للاقتصاد العالمي، ليس ضربًا من الخيال، ولا أمرًا يستحيل تحقيقه، ولنا في تجارب بعض اقتصاديات المنطقة حقيقةً ومثالًا يُمكن النظر إليه بتمعُّن ودراسة. لكننا نثق في عُمان أننا نتفرد بالكثير من المُقوِّمات والعناصر الاقتصادية والاستثمارية، والميزة النسبية والتنافسية ليست فقط لتفرد موقعنا الاستراتيجي؛ بل لتنوُّع الإمكانات التي تتميز بها، من حيث الاستقرار السياسي والعلاقات الدبلوماسية، والموارد الطبيعية، والخدمات اللوجستية التي يُمكن تنفيذها، إلى جانب أنها محطة نقل بحري مباشر إلى المسارات العالمية البعيدة عن أية صراعات سياسية.

هنا نشير بجلاء إلى رؤية جلالة السُّلطان- أيده الله- في تمكين النهضة الاقتصادية المُتجدِّدة والتي تقوم على قواعد متينة وأركان صلبة وأسقف تعلو إلى سماء طموحات الوطن، عندما أكد جلالته- رعاه الله- في خطابه الكريم بمناسبة الحادي عشر من يناير بالقول: "إنَّ تطويرَ البيئةِ الاستثماريّةِ والتجاريّةِ يُعدُّ ضرورةً أساسيّةً لدفعِ عجلةِ التنميةِ بالبلاد، ولذلك فقد وجّهنا الحكومةَ بتقديمِ المزيدِ من التسهيلاتِ اللازمة والحوافزِ التنافسيّة والبيئةِ الدّاعمةِ للاستثمار بما يسهل ممارسةَ الأعمالِ التجاريةِ لضمانِ تنويعِ اقتصادِنا الوطنيِ وتحقيقِ نموٍّ مستدامٍ ولتوفيرِ المزيدِ من فرصِ العملِ في القطاعاتِ الاقتصاديّةِ والخدميّةِ المختلفة وبما يجعلُ البلادَ وجهةً استثماريّةً جاذبةً وأكثرَ اندماجًا في منظومةِ الاقتصادِ العالمي، ولتحقيقِ هذا الاندماجِ فقد سعتْ حكومتُنا لبناءِ شبكةٍ واسعةٍ من الموانئ والمناطقِ الحرّةِ والمناطقِ الاقتصاديّةِ الخاصّةِ والمناطقِ الصناعيّةِ المتكاملةِ وتقديمِ الدعمِ لبرامجِ الابتكارِ وريادةِ الأعمال وصناديقِ الاستثمار الوطنيّةِ منها والمشتركة مع الدولِ الشقيقةِ والصديقة".

هذه، إذن، بوصلة النهضة الاقتصادية والإرادة السامية لأن تكون هوية بلادنا هي الهوية الاقتصادية والاستثمارية الأولى.

لقد أصبحت الحاجة إلى وجود عاصمة اقتصادية لسلطنة عُمان من الضرورات المُلِحَّة التي ستُسهم بوجودها في تحقيق رؤية جلالة السلطان المعظم في تنويع مصادر الدخل الوطني، وجذب المزيد من الاستثمارات إلى السوق المحلي. ولكون منطقة الدقم الاقتصادية من البوابات المُهيَّئة بكل نواحيها وإمكاناتها وقوانينها وتشريعاتها وموقعها التنافسي الفريد من نوعه في منطقة الشرق الأوسط، فإنَّ ترشيح الدقم لأن تكون العاصمة الاقتصادية لسلطنة عُمان، وتحمل اسم "مدينة السلطان هيثم الاقتصادية"، يُعد واحدةً من الغايات التي نرجو أن نراها مُتحققة قريبًا بمشيئة الله تعالى.

لا شك أنَّ وجود عاصمة اقتصادية عُمانية، سيمثل إضافة نوعية لاقتصاد السلطنة، وقِبلة سيسافر إليها المستثمرون من شتى بقاع العالم. إذ إنه بجانب الميزة النسبية والتنافسية التي تُقدِّمُها الدقم بكل محتوياتها لاقتصاد المنطقة والعالم، يبقى وجود عاصمة اقتصادية عُمانية على خارطة المدن العالمية أمرًا في غاية الأهمية، وترسم بُعدًا اقتصاديًا محوريًا سيعمل على تمكين الرؤية السامية لجلالته- أيده الله- في جعل السلطنة قِبلة لاقتصادات العالم واستقطاب استثمارات نوعية.

إنَّ المُتابِع للرؤية الاقتصادية الاستراتيجية لسلطنة عُمان، يجد أن منطقة الدقم تمثل مُستقبل عُمان الاقتصادي، وبوابتها الشرقية إلى الاقتصاد العالمي؛ إذ إن الأرضية مُهيَّئة لاستقبال مشاريع إضافية، والقوانين الخاصة بها تُسهم في جذب الاستثمار، وبها إدارة خاصة تُدير قراراتها وأنشطتها وبرامجها المتنوعة، وتتمتع بحوكمةٍ متينة. وأعتقدُ أن جميع تلك المُرتكزات تتطلب أن تُتوَّج بإعادة النظر إلى المدينة، وتخصيصها كعاصمة اقتصادية باسم "مدينة السلطان هيثم الاقتصادية".

إنَّنا سنُنافس أنفسنا قبل أن نُنافس العالم في تقديم الدقم كعاصمة اقتصادية استثنائية بالمنطقة، وأول عاصمة اقتصادية عُمانية في عصر النهضة المُتجدِّدة، يستطيع المُستثمر عبرها الوصول إلى المسارات العالمية دون تعقيد أو تأمين إضافي، مُستفيدًا من كافة المُقدَّرات التي تُوفِّرُها الإمكانات والأنظمة والقوانين والتشريعات العُمانية، من أجل إنجاح دور المشاريع التي تعمل على توطين أساساتها الصلبة في تلك البقعة الفريدة من العالم.

** خبير في الإعلام الاقتصادي

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الهوية والولاء في عصر السلطان صلاح الدين

11 أبريل، 2025

بغداد/المسلة: سیروان عبدالكريم علي

إن الحجة القائلة بأن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الأيوبي (1137-1193) فشل في المساهمة في القضية القومية الكردية تُسيء فهم السياق التاريخي الذي عاش فيه بشكل أساسي. إن تقييم الشخصيات التاريخية من منظور القومية الحديثة هو فرض للمفاهيم المعاصرة على عالم القرون الوسطى الذي كان منظمًا وفق مبادئ مختلفة تمامًا للهوية والانتماء.

خلال القرن الثاني عشر، عندما برز السلطان صلاح الدين الأيوبي، كان الناس في جميع أنحاء العالم الإسلامي يعرّفون أنفسهم في المقام الأول من خلال الانتماء الديني وليس الهوية العرقية أو القومية. إن مفهوم القومية كما نفهمه اليوم – بتأكيده على اللغة المشتركة والثقافة والسيادة الإقليمية – لم يكن موجودًا ببساطة. بدلاً من ذلك، كان الشرق الأوسط في العصور الوسطى متحدًا من خلال روابط الإيمان، مع الأمة (المجتمع الإسلامي) كمصدر رئيسي للهوية الجماعية.

كما يقول الشاعر المعاصر لصلاح الدين، ابن جبير في رحلته:
“وكان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله قد وحد القلوب على التقوى، وجمع الشمل على الهدى”

كان عالم صلاح الدين عالمًا حيث كان الولاء السياسي موجهًا نحو السلالات و القبائل والسلطات الدينية بدلاً من الدول القومية. إنجازاته في توحيد مصر وسوريا تحت حكم الأيوبيين واستعادة القدس من الصليبيين في عام 1187 كانت مدفوعة بالحماس الديني والبراغماتية السياسية، وليس بالاعتبارات العرقية. على الرغم من أن صلاح الدين كان بالفعل من أصل كردي، فإن تطبيق التوقعات القومية الكردية الحديثة على أفعاله غير متزامن تاريخيًا بشكل أساسي.

وقد وصفه الشاعر ابن سناء الملك بقوله:
“أعدت بسيفك القدس الذي ضاع واسترجعت بالعزم أرض الأقصى
وما كان إلا الدين همك وحده فيا لك من سلطان عدلٍ ومن فتى”

هناك تحديات عدة في اتخاذ السلطان كرمز قومي للشعب كردي فعلى الرغم من السياق التاريخي، يجادل بعض العلماء والقوميين الكرد بأنه من الإشكالي المطالبة بصلاح الدين كرمز للقومية الكردية بأثر رجعي. هذه الحجة المضادة لها مزايا لعدة أسباب:

أولاً، على الرغم من أنه كان كرديًا عرقيًا، ولد في تكريت (في العراق الحديث)، إلا أن إنجازاته السياسية والعسكرية لم تُصاغ أبدًا من حيث الهوية أو التطلعات الكردية. طوال حياته المهنية، عمل في إطار الوحدة الإسلامية بدلاً من الخصوصية العرقية. كانت إدارته وجيشه متعددي الأعراق، بما في ذلك العرب والأتراك وغيرهم من المجموعات إلى جانب الكرد.

وقد ذكر المؤرخ ابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ” أن السلطان صلاح الدين:
“كان يقرب إليه كل من يظهر منه الصلاح والديانة، لا ينظر إلى عرقه ولا أصله، بل إلى إخلاصه وتقواه”

وفي الوقت نفسه، هناك رأي آخر يشير إلى أن السلطان صلاح الدين اعتمد بشكل كبير على أبناء عشيرته وعلى الكرد في تأسيس دولته وجيشه، مما يعكس الطبيعة القبلية للولاءات السياسية في ذلك العصر، حيث كان من الطبيعي أن يعتمد القادة على دوائر الثقة الأقرب إليهم، بدءًا من العشيرة والقبيلة، ثم التوسع إلى التحالفات الأوسع.

ثانيًا، تكمن الأهمية التاريخية الأساسية للسلطان صلاح الدين في دوره كموحد للأراضي الإسلامية ضد الصليبيين وكمؤسس للسلالة الأيوبية. امتدت رؤيته السياسية عبر الحدود العرقية، مع التركيز على إنشاء كيان إسلامي موحد بدلاً من تعزيز المصالح الكردية على وجه التحديد.

ثالثًا، هناك القليل من الأدلة على أن السلطان صلاح الدين نفسه أكد على هويته الكردية كأمر ذي أهمية سياسية. المصادر المعاصرة التي تناقشه تركز على تفانيه الديني، وبراعته العسكرية، وفطنته السياسية بدلاً من خلفيته العرقية.

وقد وصفه القاضي الفاضل، وزيره ومستشاره، في إحدى رسائله:
“كان همّه نصرة الإسلام وحماية بيضته، لم يكن يرى فرقاً بين عربي وعجمي إلا بالتقوى، ولا بين شامي ومصري إلا بالعدل”

اليوم نرى رئيس جمهورية إيران الإسلامية ورئيس جمهورية العراق الفدرالية من أصول كردية، ويمثلون أحزابًا قومية. فلماذا لا يساهمون في تأسيس الدولة الكردية وانفصال الكرد من إحدى الدول برئاسة شخصية كردية؟ في حين من المفترض أن يكونوا قوميين بكل المعاني!

هذه المقارنة تكشف بوضوح عن التناقض في انتقاد السلطان صلاح الدين التاريخي. إن السياسة المعاصرة، مثل السياسة في العصور الوسطى، معقدة وذات طبقات متعددة. القادة السياسيون يعملون ضمن أنظمة مؤسسية ودستورية وجيوسياسية معقدة تتجاوز الانتماءات العرقية البسيطة. إن تولي قيادي كردي منصبًا رفيعًا في دولة غير كردية لا يعني بالضرورة “خيانة” للهوية الكردية، بل قد يعكس فهمًا أكثر دقة للسياسة كفن الممكن.

لذلك نرى بأن هذا الرأي القائم على انتقاد السلطان صلاح الدين لعدم تأسيس دولة كردية غير منطقي ويسيء إلى سمعة الكرد والإقليم ومبادئ الديمقراطية الكردية التي يسعى إليها برلمان وحكومة إقليم كردستان وشعبه. هذا النوع من التفكير الأحادي يتجاهل التعقيدات السياسية والتاريخية، ويضع معايير غير واقعية لتقييم الشخصيات التاريخية والمعاصرة.

إن حملة تشويه رأي المؤرخ المصري د. يوسف زيدان وإلغاء سفره إلى أربيل متعلقة بآرائه حول تأريخ السلطان، فعدم قبول رأيه تضر بسمعة إقليم كردستان سياسيا كمنطقة معروفة بالتعددية وقبول الآخر وقبول الرأي المخالف. مثل هذه الإجراءات تتناقض مع القيم الأساسية التي يسعى الإقليم لتمثيلها في العالم المعاصر.

نحن نوثق السلطان صلاح الدين الأيوبي كجزء من تاريخ الدولة الأسلامية الأموية، وله أكثر من تفسير ورأي. فهو كان شخصية سياسية قبلية ذات ولاء للدولة الإسلامية الأيوبية، بغض النظر عن القوميات المختلفة. وعندما ننظر إلى السياق التاريخي الكامل، يصبح من الواضح أن فهم شخصية مثل السلطان صلاح الدين الأيوبي يتطلب منا تجاوز التفسيرات الأحادية والبسيطة.

لذلك يتطلب التحليل التاريخي منا فهم الشخصيات في سياقها الخاص بدلاً من الحكم عليها وفقًا للمعايير القومية الحديثة. ويجب قراءة تاريخ السلطان صلاح الدين الأيوبي بناءً على قيم وهياكل سياسية من زمنه – حيث كانت الوحدة الدينية، وليس القومية العرقية، هي المبدأ المنظم للمجتمع. إن محاولة المطالبة بالشخصيات التاريخية أو انتقادها من خلال عدسة قومية بأثر رجعي يشوه فهمنا للماضي ويفرض توقعات غير معقولة على الجهات السياسية التاريخية والمعاصرة على حد سواء.

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

مقالات مشابهة

  • بياضٌ وابتسامة
  • "إكسبو أوساكا" وروابط عُمانية ممتدة
  • إدارة مكافحة المخدرات لـ سانا: في إطار الجهود المتواصلة التي تبذلها وزارة الداخلية لمكافحة آفة المخدرات، تمكّن فرع مكافحة المخدرات في مدينة اللاذقية من ضبط مستودع يحتوي على مكبس لتصنيع حبوب الكبتاغون المخدّرة
  • الاثنين.. جلالة السلطان يغادر البلاد متوجها إلى مملكة هولندا
  • حج النافلة أم الصدقة.. أمين الفتوى: العبادة التي يصل نفعها للغير أولى
  • الهوية والولاء في عصر السلطان صلاح الدين
  • جيش الاحتلال يزعم مقتـ.ـل هيثم رزق قائد كتيبة الشجاعية التابعة لحماس
  • جلالة السلطان يصدر مرسوما ساميا
  • جمعية الصناعيين العُمانية توقع اتفاقية مع داتافلو لتسريع نمو القطاع الصناعي
  • الخثلان يوضح الأعمال التي تُدخل الإنسان الجنة بلا عذاب.. فيديو