مستقبل نظام المحافظات.. والرهانات الاقتصادية والاجتماعية
تاريخ النشر: 12th, January 2025 GMT
د. عبدالله باحجاج
احتفلت البلاد بالذكري الخامسة للنَّهضة المُتجدِّدة ببشارات كثيرة لامست جوانب اجتماعية واقتصادية مُباشرة، كدعم مالي قيمته 178 مليون ريال، وإقامة صندوق للزواج في كل محافظة بدعم حكومي، سيصدر أسلوب حوكمته لاحقًا.
وهذه الحوكمة مُرتقبة من الشباب، ونتمنى ألا تُضيِّق فرص الاستفادة من الصندوق، كأن تتشدد في الحد الأدنى للرواتب عند 325 ريالًا مثلًا؛ لأنَّ من أهم أهداف الصندوق مساعدة الشباب على تأسيس المؤسسة الزوجية من داخل الوطن في ظل توجهات البعض نحو الخارج، حيث كشفت إحصاءات عن عقد 3500 حالة زواج في العام الماضي، بجانب عزوف البعض عن الزواج بسبب الظروف المالية، كما تتطلب الحاجة تحديد المهور، وجعلها في مستويات الظروف المالية الاجتماعية الجديدة للأسر وإمكانيات الشباب.
اللافت في خطاب الذكرى الخامسة للنهضة المُتجدِّدة، الرهانات على مستقبل نظام المحافظات كرؤية استراتيجية لحل الكثير من المشاكل التي لا يُمكن حلها عن طريق الحكومة المركزية، فكثيرة هي جوانب الحياة المعاصرة التي تكون فيها اللامركزية الحل الأمثل لمواجهة المشاكل، خاصةً في عالم اليوم المُتغيِّر، ونتاج مُتغيراته عابرة للحدود بصورة تلقائية. ومن هنا، فقد صدرت التوجيهات السامية في مطلع السنة السادسة من انطلاقة النهضة المُتجدِّدة، بالاستمرارية في منح المحافظات المزيد من الصلاحيات والدعم في مختلف القطاعات، لتحقيق هدف استراتيجي مُحدد وطموح جدًا، حدده جلالته- حفظه الله- في الآتي: "لكي تُصبح المحافظات مراكز اقتصادية تقود النمو الاقتصادي في البلاد"، وهذه تُعد من الطرق المُثلي لزيادة النمو الاقتصادي، وذلك لإمكانيات المحافظات الواعدة من جهة، ولأنها الوسيلة التي ستضمن انعكاسات اجتماعية مباشرة وملموسة كإنتاج فرص عمل وارتفاع الأجور وتحسين المستويات المعيشية من جهة ثانية؛ إذ إنَّ تحوُّل المحافظات إلى مراكز اقتصادية يُحقق هدفين استراتيجيين هما: هدف اقتصادي، يتمثل في تعظيم إيرادات الدولة من خلال استغلال المزايا النسبية لكل مُحافظة، ومن ثم تنويع الاقتصاد العُماني. والثاني هدف اجتماعي وفق ما أشرنا إليه سابقًا، والانعكاس هنا سيكون ملموسًا، وقد عبَّرنا في مقالات سابقة عن قناعتنا بحل قضية الباحثين عن عمل والمسرحين عن طريق اللامركزية.
واليوم كل محافظة باتت تضم مناطق اقتصادية أو حرة أو مدن صناعية، ووصل العدد إلى 15 منطقة اقتصادية وحرة ومدينة منها 8 مناطق جديدة. ووفق الإحصائيات بلغ حجم الاستثمار التراكمي المُلتَزَم به في هذه المناطق بنهاية يونيو 2024 نحو 20.1 مليار ريال مقارنة مع 16.7 مليار ريال في يونيو 2023. وهنا نستخلص مجموعة رؤى تدعم مسار الرهانات السامية لتحويل المحافظات إلى مراكز اقتصادية لقيادة النمو الاقتصادي في البلاد، نذكر منها: أولًا: تطوير شكل العلاقة الجديدة بين نظام المحافظات والمركزية لتعظيم الأثر الاقتصادي والاجتماعي للمشروعات الكبرى في المحافظات؛ ففي محافظة ظفار- مثلًا- هناك ميناء صلالة الذي تجاوزت أرباحه الصافية أكثر من 1.5 مليون ريال في النصف الأول من عام 2024، والتساؤل هنا: ما دور الميناء في تنشيط الحركة التجارية الإقليمية؟ وما انعكاسات هذه الأرباح على المجتمع المحلي في ظفار؟
وكذلك المنطقة الحرة بصلالة، وقد تجاوز حجم الاستثمار التراكمي فيها نحو 4.6 مليار ريال بنهاية يونيو 2024، ويبلغ عدد الشركات في المنطقة 143 شركة، كما إنَّ الإقبال على توطين الاستثمارات فيها يتزايد، بفضل موقعها الاستراتيجي، وحالة الاستقرار التي تنعم بها بلادنا، فما حجم انعكاسات المنطقة الحرة اجتماعيًا؟ وهل تتماشى مع مستوى الطموحات؟ الميناء والمنطقة الحرة مجرد أمثلة، بينما هناك شركات ومناطق حكومية وخاصة من الوزن الكبير ينبغي أن يُفتح ملف تعظيم فوائدها الاقتصادية وانعكاساتها الاجتماعية بعد التوجيهات الجديدة بتحويل المحافظات الى مركز اقتصادية لقيادة النمو الاقتصادي، بحيث تكون المحافظات اللامركزية هي المسؤولة عن الملف الاجتماعي.
ثانيًا: أصبح الآن بمقدور كل محافظة أن يكون لها اقتصاد خاص بها، وقد منحها قانون المحافظات والمجالس البلدية صلاحية استثمار الأراضي والمرافق، ومن خلالها يُمكن المساهمة الفعّالة في تحول المحافظة إلى مركز اقتصادي مُدِر للإيرادات العامة والمحلية، ويوفر فرص عمل ويُحسِّن من المستويات المعيشية للمواطنين.
ثالثًا: تطوير العلاقة بين المؤسسات اللامركزية. ونحصر هذه المؤسسات في محافظة ظفار مثلًا في: مكتب المحافظ، ومكتب الوالي بكل ولاية، وبلدية ظفار، والمجلس البلدي، وفرع غرفة وتجارة صناعة عُمان بالمحافظة، والجمعيات والمؤسسات المدنية والخيرية، كأن يتم تحويل فروع الغرفة في المحافظات إلى غُرف مستقلة ومرتبطة بالسياسات العامة للغرفة وحوكمتها. وهذه مسألة مُهمة في اتجاه تحويل المحافظات إلى مراكز اقتصادية لقيادة النمو؛ إذ إن كل محافظة لها ميزتها النسبية الاقتصادية والجغرافية، التي يمكن من خلالها الانفتاح على محيطها دون بيروقراطية.
رابعًا: مع هذا التوجه الوطني، ستتعاظم أدوار المجالس البلدية المُنتخبة، وستتجه بوصلة الرأي العام المحلي في كل محافظة إليها؛ لأنها ستكون معنية بتفاصيل الحياة اليومية لمجتمعاتها المحلية من خدمات وحقوق، كالصحة والتوظيف والحفاظ على القيم والهوية التي شدَّد عليها عاهل البلاد- حفظه الله- في خطاب الذكرى الخامسة لتوليه الحكم، واعتبرها مُقدَّسة رغم انفتاح البلاد. وهذا يعني أن جلالته يُريد للانفتاح أن يكون محكومًا بشروط وطنية حاكمة، ومعها سيظل مجلس الشورى كمؤسسة مركزية ذات مهام رقابية وتشريعية، وبهذا ستكون البوصلة الاجتماعية أفقية وليست رأسية، مهما كانت النتائج أو التداعيات، وستستدعي بوصلتها الرأسية في حالة تدخلها السياسي عند الضرورة.
خامسًا: إقامة مراكز للتخطيط الإقليمي في المحافظات، من أجل بلورة الأولويات اللامركزية، في ضوء الاستراتيجيات الوطنية مثل رؤية "عُمان 2040"، داخل كل محافظة، ونُعوِّل على هذه المراكز بعد تصريح معالي الدكتور سعيد بن محمد الصقري وزير الاقتصاد لإذاعة الوصال، والذي قال فيه إن برنامج تنمية المحافظات "لم يكن واضحًا بالنسبة لنا.. وكذلك بالنسبة للمحافظات في السنة الأولى له؛ مما أحدث بطئا في تنفيذ المشاريع في سنته الأولى". غير أن معاليه أكد أنه تم تنفيذ نسبة 80% منه حاليًا. أما المراكز- التي نقترحها في سياق مقالنا هذا- ستقوم بعملية التخطيط لتعزيز المسارات والتوجهات الوطنية في المحافظات؛ لجعلها مراكز اقتصادية تقود النمو الاقتصادي بعيدًا عن الاجتهادات ورؤى المركزية الحكومية.
وأخيرًا.. لنا في نماذج دولية، أمثلة تدعم ذلك، مثل التجربة الماليزية في تطبيق اللامركزية، والتي حققت نجاحات كبيرة على صعيد التنمية البشرية، والقضاء على البطالة والفقر، بعدما كانت تعاني منها لسنوات طويلة، علاوة على أن التطبيق الناجح للامركزية جعل ماليزيا من البلدان حديثة التصنيع، واستطاع معها تحقيق تنمية اقتصادية محلية لكل أقاليمها، وأيضًا القضاء على النعرات العرقية، والإثنية التي كانت تقف حاجزًا أمام إنجاز التنمية الاقتصادية.
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
النجاة معًا: لنتحدث عن الأبعاد السياسية والاجتماعية للصحة النفسية
قبل دخولي إلى المدرسة -أذكر أن إخوتي كانوا يذهبون إلى حصص الزراعة - كطالبة كانت لدينا حصص التربية الأسرية التي تعلمنا منها أشياء عن الطبخ، والخياطة والحياكة. مساقات صارت تتناقص، لتُصبح شؤون الحياة الفعلية أمرًا هامشيًا، مُقابل التدريب التقني على الأعمال المكتبية والمهن، ونُترك مع شعور أن الحياة بحاجة إلى تمرين تنقصنا ممارسته. ضاعف هذا فكرة التخصصية، التي تؤكد على أننا لا نحتاج إلا لإتقان شيء واحد في الحياة من أجل أن ننجو. فإذا ما أتقنت مهنتك، فبإمكانك أن تُؤجر أحدًا ليفعل لك أي شيء يخطر ببالك. أخذ هذا منا طقوسًا اجتماعية من شأنها أن تمنحنا مشاعر اللحمة والتضامن. أتحدث عن أمور مثل أن نطهو معاً، أو نُسرّح شعرنا، أو نفعل أياً من الأنشطة الحميمة التي نكلف اليوم الغرباء بها.
«فين الدواء»؟
«يقولك واحد راح لطبيب نفسي، وما شخصه باضطراب الشخصية الحدية» هكذا تذهب النكتة التي تلتقط جانباً من مشاكل التشخيص النفسي. عندما تشتكي من ألم في الحلق، تقول: آآآه وينظر الطبيب إلى البقع البيضاء على لوزتيك ويخبرك ليس عن الالتهاب الذي تعانيه، بل وحِدّته أيضاً. ماذا عن الأمراض التي لا نملك لتشخيصها لا الفحص عبر الأشعة السينية، ولا أخذ خزعات، ولا تحليل أي من إفرازات الجسم؟ فوق هذا، فواحدة من تحديات التشخيص في المرض النفسي، أنه يعتمد على الحكم الذاتي على المشكلة وحدتها، وما إذا كانت تستدعي التدخل.
في عملية تشخيص الأمراض النفسية، يقوم الطبيب أولاً باستبعاد الأسباب العضوية للأعراض التي يُظهرها المريض. على سبيل المثال، يتسبب قصور الدرقية بأعراض مماثلة للاكتئاب، وكذلك بعض الحالات من عوز فيتامين B12. لهذا يتم إجراء فحص الدم للتثبت أولاً - كما قلنا - من أن السبب غير عضوي. ما يفعله هذا النوع من الفحوص إذا هو استبعاد كل احتمال آخر إلى أن لا يبقى سوى الاكتئاب، والأمر ذاته يحدث مع أمراض نفسية أخرى. بالإضافة لفحص الدم، ثمة أيضا مسوح الدماغ، وتحديدا التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي fMRI الذي يرصد نشاط المخ عبر رصد التغيرات المرتبطة بتدفق الدم.
اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه يُمكن، والذي يؤدي إلى ضعف التركيز، وتذكر المعلومات،والذي -لدى الأطفال خصوصا- يتجلى في صعوبة التحكم بالسلوك. تدعي بعض الدراسات الحديثة أن مسوح الدماغ لا تقتصر فائدتها على أنها ترصد وروم الدماغ، والتلف، والإصابات الناتجة عن الصدمات، وبذلك يُمكن الاستنتاج من غيابها أن المشكلة نفسية - ولكنها فوق ذلك قادرة على رصد الفارق في أدمغة المصابين باضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه والمتمثل في صغر حجم الدماغ، وزيادة في ترابطه الوظيفي، والنقص في تدفق الدم. مع هذا ففحوص كهذه لا تزال في مراحلها المبكرة، عدا أنها مُكلفة وقليلًا ما يلجأ لها الأطباء النفسيون، إلا إذا كان لديهم اعتقاد بإمكانية وجود تلف أو ورم في الدماغ، ونادرا -حتى لا أقول قطعا- ما تستخدم في تشخيص الاضطرابات النفسية.
وإن كان اضطراب الشخصية الحدية هو الموضة قبل سنوات، فالدارج اليوم هو التشخيص باضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه عند البالغين، أو الحالة الخاصة منه اضطراب تشتت الانتباه أو نقص الانتباه. وكلمة «موضة» هنا لا تقصد التسفيه، إنه يُعبر فقط عن ظاهرة تنمو. تقول الأرقام إن 366 مليونا من سكان الكوكب يعانون منه.
كيف يجب أن نُفكر في المسألة؟
يسهل صرف النظر عن الظاهرة باعتبار أن الجميع يُظهر بين الفينة والأخرى خصيصة من الخصائص السلوكية لهذا الاضطراب، وأن أعداد المشخَصين المتنامية ليست انعكاسًا حقيقيًا لانتشار المرض. يُمكن المجادلة بعكس ذلك والقول إن الزيادة في الحالات المشخصة هو انعكاس لزيادة الوعي بهذا الاضطراب، ورفع العار عن المرض النفسي، وفوق ذلك هو نتيجة لطبيعة الحياة المتسارعة اليوم. يُمكن نقل النقاش إلى بعد آخر، ومناقشة خطورة التشخيص الخاطئ أو أخطار التداوي دون التيقن من صحة التشخيص. يمكن أن نذهب خطوة أبعد ونفكر لماذا يضع الناس الفعالية فوق أي اعتبار آخر؟ أي أنهم يختارون تعاطي الأدوية دون تيقنهم من دقة التشخيص، ولمجرد أنه يجعلهم أكثر إنتاجية. بل وفي بعض الحالات الإصرار على تعاطيها لأنها تساعدهم فقط، رغم معرفتهم بأنهم لا يعانون من هذا المرض.
لا يُمكنني أن أصف لكم عدد الإعلانات التي تحاول إقناعي بإني مريضة بنقص الانتباه. إنها تطاردني حيثما أذهب في فضاء الإنترنت. وهذا تمثيل لواحدة من ميزات عصرنا: الترزق على مخاوف الناس الحقيقية، من انخفاض الإنتاجية، وبالتالي تهديد أمانهم الوظيفي والمالي.
إننا أمام معضلة حقيقية، حيث يُطالب المرء بأن يكون منتجًا، لحدٍ يُشجع إساءة استخدام الأدوية. ويُطالب المرء بأن يكون «واعيًا بذاته»، ويتعامل مع صدمات الطفولة، مع الوعد الضمني بأن هذا سيشفيه، وسيجعله أكثر حضورًا، أكثر لياقة ببيئة العمل، ويمنحه الصداقات والشراكات العاطفية التي يتوق لها. في تجاهل كامل للظرف الذي أنتج المشاكل التي يحاول المرء تجاوزها أو علاجها.
«الثيربي» أيضًا خيار
يُستخدم هذا التعبير عادة للهزء ممن يذهبون بعيدًا (ممارسة أنشطة رياضية متطرفة، الرياضات الخطرة، إدمان العمل) في تعاملهم مع التحديات النفسية. وهو ما يختصر التحول ليس بإزالة وصمة العار عن العلاج النفسي فحسب، بل اعتباره أمرًا جذابًا (كوول)، هو وإظهار الهشاشة، ومعالجة التروما. بشرط أن لا يتسرب من الفضاء الإلكتروني أو الاجتماعي الخاص إلى أماكن العمل.
عائشة خان كتبت مؤخرًا مقالًا مطولًا من جزأين بعنوان «هل يجعلنا التركيز على التعافي والعناية بالذات وتطوير الذات أكثر مرضًا؟» تختصر القضية في قولها: «وها هي الرأسمالية كعادتها، تخلق القلق ثم تعده مرضًا، لأنه لا يخدم العمل. يقلل القلق من إنتاجيتنا ولكن عبء إدارته يُلقى على عاتق الفرد؛ الأمر الذي يُفسر الشعبية الهائلة لعلم وطب النفس الشعبوي». وهي تُلفت الانتباه إلى أننا غير مصممين لقضاء هذا الوقت في رؤوسنا. وتُجادل أنه وإن يكن تعلم الوعي بالذات، والمُراجعة الناقدة لسلوكنا الرأسمالي الباطن (أي الشعور بالذنب في أوقات الراحة، والحط من إنجازاتنا، وجعل الإنجاز أولوية تعلو على العافية)، إلا أن هذه أمور يُفترض بنا ممارستها جماعيًا، من خلال الحياة نفسها.
تُوفر النظريات النفسية الشعبية قدرًا من المعرفة يُربك أكثر من كونه يكشف ويُعين. إذ تُجهدنا بإيجاد الروابط العجيبة لتحليل سلوكنا (خصوصًا الجوانب التي لا تُرضينا من سلوكنا)، والتنظير حول أصل ونمط السلوك. والنتيجة؟ من فرط محاولتنا لأن نُحسن أنفسنا، ونراعيها ونراعي الآخرين، نُصبح متمركزين حول ذواتنا على نحو هوسي، حتى صرنا نُعرف بأننا «جيل من المفرطين في التفكير»، أو بكلمات عائشة خان: «نصبح مستغرقين في أنفسنا أكثر فأكثر بمجتمع مصمم أصلًا لتوليد النرجسية والفردانية الشرسة».
الفردانية التي تذكي التركيز على الذات والبعد عن مفهوم النجاة الجماعية، تجعلنا أكثر وحدة وأقل تنظيمًا. وعوضًا عن معالجة المشاكل السياسية والاجتماعية، ونسعى لحلها، نعمل على تطوير أنفسنا، ورعاية أنفسنا بحيث نتقبل وجود هذه المشاكل كواقع حتمي. لتصبح مساعدة الذات هي صناعة تقدر قيمتها بـ52 بليونا، أما الاهتمام بالذات والعافية فهي صناعة تقدر قيمتها بـ5.6 تريليون دولار. من هنا تأتي أهمية معالجة المشاكل النفسية من منظور اجتماعي وسياسي، وباعتباره نتيجة لظواهر اجتماعية وسياسات، وليس كمشكلة فردية.
طيب، إن لم يكن هذا سبيل الخلاص، فما السبيل؟
ثمة طرق طبيعية وغير واعية للتعامل مع الأزمات، علينا أن نشجعها ونربيها. الفكاهة مثلًا إحدى آليات التكيف. تقزم المآسي عوضًا عن الانشغال بها، وتكبيرها، والانهماك في معرفة جذرها. لعلها ليست صدفة أن يكون للغزيين حس فكاهة استثنائي. ليس هذا للدفاع عن إيجابية مزيفة، ندعي فيها أن بإمكان البسمة أن تحل أعتى المشاكل، وأن الحرمان من الغذاء، والسكن، وفقدان المرء لعائلته يُمكن أن يُتجاوز عبر الهزء من الظروف. بل هو لنقول بإعطاء الجراحات الصغيرة والصدمات المبكرة موقعها وثقلها الحقيقي، وتجاوزها من أجل أن يُفسح المجال لمعالجة مشاكل العالم الحقيقية، والعمل على التفكير بالنجاة كفعل جماعي، وليس باعتباره حقا حصريا لمن يملكون ثمنه.
الحياة الاجتماعية المتراحمة، والانتظام لحل قضايا العالم هو طريقنا للعافية. التبادلية في الدعم الاجتماعي، عدم أخذ الأمور بجدية، حسن الظن، وعدم حساب النقاط في علاقات الأخذ والعطاء اليومية مع أقاربنا، زملائنا، معارفنا، وبالطبع أصدقائنا. وقد يُفيدنا أيضًا القبول بأن العالم ليس مكانًا منصفًا، دون أن يعني هذا فقدان الأمل في تغييره.
دعونا نضحك على مشاكلنا، نتحمل بعضنا، معارفنا وزملاؤنا وأصدقاؤنا، ونطالبهم بأن يتحملوا أمزجتنا بدورهم.
تغيير الوضع القائم يتطلب شجاعة، يتطلب قبولًا بأن محاولة النجاة الجمعية مكلفة على المدى القريب، لكنها الطريقة لتحدي الوضع القائم.
نوف السعيدية كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم