نشرت صحيفة "أوبزيرفر" مقال رأي للمعلق سايمون تيسدال قال فيه إنّ "إنجازات الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن في داخل أمريكا كان مهمة، إلا أن تعامله مع السياسة الخارجية جعلته في نظر العالم أحمقا. وفي عصر آخر، ربما كان بايدن زعيما عظيما في الحرب الباردة، لكن ولايته اتسمت بالأخطاء والحذر المفرط".

وأشارت الصحيفة إلى أن الولايات المتحدة ودعت بحزن الرئيس جيمي كارتر، وجرى الحديث عن إرث الرؤساء والتدقيق في إنجازاتهم، لكن قلة من الرؤساء الأمريكيين يتم تذكرهم أبعد من حياتهم وبأنهم قادة تاريخيون.

وفي القرن العشرين تم تذكر بحق وودرو ويلسون وفرانكلين دي روزفلت وجون أف كيندي وريتشارد نيكسون، كقائمة مهمة، أما البقية فمجرد أسماء يتم ذكرهم في التواريخ والكتب المدرسية.

وفي الوقت الذي يحضر فيه بايدن لمغادرة منصب الرئيس في 20 كانون الثاني/ يناير يتم تقييمه ضمن القائمة غير الجذابة من الرؤساء.  ومثل أسلافه الـ44 السابقين قيل إنه قلق على مكانته في التاريخ، وهو ليس وحده في هذا القلق، فالجميع يفعل هذا، وهو تعبير عن الغطرسة، حيث يقدمون محاضرات وداعية ويتبرعون لمؤسسات وقفية وينشئون مكتبات بأسمائهم ويكتبون مذكراتهم، وهم في هذا يخلطون ما بين الشهرة والأهمية التاريخية.

وتساءل تيسدال عما حققه بايدن في الحقيقة، وماذا سيبقى منه بعد رحيله؟ ويجيب أن نجاحاته على الصعيد المحلي مثيرة للإعجاب، فقد أنعش اقتصادا مريضا ووفر 16 مليون وظيفة وزاد من الرواتب وأنفق على الأعمال الجديدة وبناء البنى التحتية وخفض من معدلات الجريمة وحد من الهجرة غير الشرعية. وأدى قانون خفض التضخم إلى تقليل النفقات الصحية، بما في ذلك 400 مليار دولار لمعالجة أزمة التغير المناخي. وفي الوقت نفسه ازدهرت الأسواق المالية. كل هذه الإنجازات لا تعطي صورة عن "كارثة" وطنية كما يزعم خلفه دونالد ترامب.



ومع ذلك فقد كان بايدن أسوأ عدو لنفسه، ذلك أنه قلل من أهمية التضخم المرتفع على الناخبين، وفي إنكاره لتراجع صحته وقدراته العقلية، حاول أن يترشح لولاية ثانية، بعدما ألمح عام 2020 أنه لن يفعل. وأصر بأنه قادر على هزيمة ترامب، رغم أرقام الاستطلاعات الفظيعة، ثم قبل على مضض ترشح كامالا هاريس. والآن خرج بايدن من الرئاسة وبدأ فترة راحة في عهد ترامب. وربما بدد الرئيس المقبل كل المكاسب الاقتصادية التي تحققت خلال السنوات الأربع الماضية.

وفي السياسة الخارجية أيضا، قد يجعل ترامب العديد من المشاكل أسوأ. ولكن الفارق بينهما هو أن إرث بايدن في الشؤون الدولية يقترب من الحضيض. وهذا لرجل طالما وصف نفسه بالخبير في السياسة الخارجية، حيث كانت حصيلة إنجازاته في السياسة الخارجية مثيرة للإحباط.

وبدأت في أفغانستان في عام 2021، حيث سرع كما يقول تيسدال، من الإنسحاب المخزي الذي بدأه ترامب. وكانت النتيجة خيانة للشعب الأفغاني وللجنود الأمريكيين والبريطانيين وجنود الناتو الذي دفعوا حياتهم ثمنا خلال عشرين عاما. وتجاهل بايدن بغباء فكرة عودة طالبان إلى السلطة، وهو ما قاد إلى تراجع شعبيته بين الأمريكيين ولم تتعاف أبدا.

تخطبه في أوكرانيا
واستمر تخبطه في أوكرانيا، فقد توقعت المخابرات الأمريكية وبدقة غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا، لكنها قللت من قدرات الروس.  فلو حذر بايدن بوتين في كانون الثاني/يناير 2022 بأن الناتو سيتعامل مع أي هجوم باعتباره تهديدا للأمن الجماعي لأوروبا (وهو ما كان عليه وما زال)، وأن الناتو سيدافع في مثل هذه الظروف عن أوكرانيا، فهل كان هناك من يعتقد مضي بوتين حقا في الغزو؟

ومع ذلك منح بايدن وزنا غير حقيقي لتهديدات بوتين النووية مع استمرار الغزو، ثم أخذ في تقديم مساعدات عسكرية متأخرة جدا. وبعد ما يقرب من ثلاث سنوات، ومع مقتل وإصابة عشرات الآلاف من المدنيين، وتدمير بلد بالكامل وإنفاق مئات المليارات من الدولارات من المساعدات الأمريكية والأوروبية، تواصل روسيا السيطرة على الأراضي في وقت تنزف فيه أوكرانيا ببطء حتى الموت.



ثم اجتمعت سذاجة بايدن وحذره المفرط في تضخيم وخلق مصيبة بعد هجمات حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وقد تحايل عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عدم الضمير أكثر من مرة.  ومستغلا دعم بايدن القوي لإسرائيل، مضى نتنياهو فيما تخشى الأمم المتحدة والمحاكم الدولية ومنظمات حقوق الإنسان أن تكون حملة متعمدة لإبادة جماعية للفلسطينيين في غزة. لقد تجاهل نتنياهو مرارا وتكرارا الخطوط الحمراء التي وضعها بايدن، كما في رفح مثلا والمساعدات الإنسانية، بينما استفاد نتنياهو في الوقت نفسه من عمليات تسليم قياسية للأسلحة الأمريكية. ووسع الحرب بتحد إلى لبنان وسوريا، وجر القوات الأمريكية إلى مواجهة مباشرة مع إيران.

ويظل نتنياهو وحلفاؤه من اليمين المتطرف أكبر عقبة أمام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وعائلات الأسرى الذي يعمل البيت الأبيض جاهدا لتحقيقه قبل نهاية فترة الإدارة الحالية، لقد اعتبر بايدن أحمقا. والأسوأ من ذلك أنه جعل الولايات المتحدة طرفا في الإبادة الجماعية.

لم ينجزأ أي شيء
وتعهد بايدن بإحياء الاتفاقية النووية التي وقعتها إيران مع دول عالمية، لكنه لم ينجز أي شيء. وشيطن ولي العهد السعودي بسبب مقتل الصحافي جمال خاشقجي ثم صافحه وطلب منه المساعدة على زيادة ضخ النفط.

لقد استند نهج بايدن الأيديولوجي إلى ثلاثة ركائز وكلها متداعية. الأولى، هو شعار حملته الانتخابية لعام 2020 بأن السياسة الخارجية يجب أن تخدم "الطبقة المتوسطة" في أمريكا، حيث كانت هذه محاولة غير متماسكة لإقناع الناخبين بأن المشاركة العالمية للولايات المتحدة، على عكس عزلة ترامب الشعبوية، كانت في مصلحتهم، ولم يصدقه معظمهم. أما الركيزة الثانية فهي الادعاء المثير للجدال بأن الهيمنة العالمية للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية لم تنته، على الرغم من أنها كانت كذلك بوضوح. وأعلن بايدن: "أمريكا عادت!". إلا أنه بعد أربع سنوات، وعلى الرغم مما أشاد به وزير الخارجية أنتوني بلينكن باعتباره "تجديدا استراتيجيا"، فإنها ليست كذلك. إن الركيزة الثالثة التي يتبناها بايدن والتي تتلخص في "نحن وهم"، أي أن الولايات المتحدة تقود صراعا وجوديا عالميا بين الديمقراطية والاستبداد، وقد عملت عن غير قصد على توسيع هذا الصدع نفسه، فالصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية ودول مجموعة البريكس و"الجنوب العالمي" تتحد بشكل متزايد لتحدي النظام القائم على القواعد الذي يهيمن عليه الغرب. وربما كان بايدن قد حقق بعض الأمور الصحيحة على الصعيد العالمي، مثل إعادة العلاقات بين طرفي الأطلنطي وتعبئته للناتو من أجل الرد على الغزو الروسي وتقويته للتحالفات في منطقة آسيا والباسيفيك في محاولة لاحتواء التوسع الصيني ومصادقته الهند، كما ودعم التحركات لمواجهة التغيرات المناخية.

ومأساة بايدن أنه أصبح رئيسا في شتاء عمره. فلو كان رئيسا في زمن الحرب الباردة لأنجز الكثير. وعندما وصل إلى البيت الأبيض أخيرا، وجد سناتور ولاية ديلاوار الذي انتخب لها أولا عام 1972 العالم وقد تغير بطريقة لم يعد يتعرف عليه.

واعتقد بايدن صادقا بأن طالبان ستلتزم بوعودها وكان خائفا من الحرب النووية، لكن بوتين الخائن لعب بقواعد أخرى. واعتقد أن نتنياهو يريد السلام. ولن يتم نسيان سذاجة كهذه. ولقد وثق "جون الصادق" بالناس، لكن إرثه في عصر ما بعد جيمي كارتر هو أنه لا يمكن الثقة بالساسة أبدا.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية بايدن الرئاسة سذاجة البيت الأبيض امريكا البيت الأبيض بايدن الرئاسة سذاجة صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی السیاسة الخارجیة

إقرأ أيضاً:

السياسة الخارجية العمانية.. بين ضرورات الجغرافيا وحقائق التاريخ

في سبتمبر من عام 2013 كنت برفقة وفد رسمي يقوم بزيارة إلى إيران، وهي زيارة جاءت بعد أقل من شهرين من الزيارة التاريخية التي قام بها السلطان الراحل قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، إلى إيران. كان على متن الطائرة الصغيرة التي تتسع لثمانية ركاب فقط سفير سلطنة عُمان في طهران في ذلك الوقت يحيى آل فنة، وكان حينها ينهي إجراءات عودته إلى مسقط بعد أن انتهت مهام عمله في إيران. وَبِحِسٍّ صحفي وعبر أسئلة كثيرة ومتداخلة لم تخلُ من «الخبث» الصحفي، حاولت أن أعرف أهم الملفات التي ناقشها السلطان قابوس مع الرئيس الإيراني حسن روحاني أو مع المرشد الأعلى علي خامنئي. كانت الطائرة أضيق من أن يدور فيها حوار ثنائي بهذا المستوى من السرية والخطورة. وكان السفير عنيدا جدا ومتحفظا إلى أبعد الحدود، ولم أستطع الحصول على أي تفاصيل ذات قيمة إلى قرب نهاية الرحلة، حينها قال همسا: إن الزيارة كانت «تاريخية»، وسيبقى ما دار فيها محل نقاش لسنوات طويلة جدا، وسيؤكد موضوعها تفوق السياسة الخارجية العمانية التي ستبقى محل إشادة عالمية وليست إقليمية فقط.

كانت هذه الكلمات الهامسة القصيرة تحمل تأكيدا لما كان يدور في الكواليس، الضيقة على الأقل، في ذلك الوقت من أن سلطنة عمان تقود جهودا دبلوماسية لوضع نهاية للخلاف الغربي الإيراني حول الملف النووي. ولكن لم يكن أحد ليتصور، في ذلك الوقت، أن يستطيع أحد جمع إيران والغرب على طاولة مفاوضات واحدة يكون كل منهم حريصا على نجاح اللقاء وما يتبعه من لقاءات؛ لكن ذلك حدث بالفعل وسط تفاصيل كثيرة كشف الكثير منها وبقي البعض الآخر في انتظار الزمن المناسب كشفه وتم توقيع «خطة العمل الشاملة المشتركة» في عام 2015 قبل أن يأتي الرئيس الأمريكي ترامب وينقضها في عام 2018.

ثبات الدبلوماسية

لم تُرضِ الوساطة العمانية، التي أنتجت الاتفاق النووي بين الغرب وإيران، الجميع في الإقليم، رغم أنها منعت حربا طاحنة كانت على وشك أن تندلع في أي وقت بين أمريكا وإيران. وتساءل الكثيرون عن مصلحة سلطنة عمان في ذلك الوقت من تلك الوساطة، بالقدر نفسه الذي تساءلوا فيه عن قوة دبلوماسيتها التي نجحت في التقريب بين أشد الأعداء.

شغلت هذه الأسئلة وسائل الإعلام العربية والغربية لسنوات طويلة، رغم أن الملف النووي الإيراني لم يكن النجاح الوحيد الذي أنجزته الدبلوماسية العمانية، رغم أنه كان الأبرز، فطوال العقود الأربعة الماضية استخدمت سلطنة عُمان قوة وثبات دبلوماسيتها لحل الكثير من الخلافات في منطقة الخليج العربي والإقليم المحيط، وجنّبت المنطقة الكثير من الحروب أو إنها احتوت خلافات عربية - عربية كانت مرشحة أن تتحول إلى نزاعات ثنائية أو حروب إقليمية.

ولو عدنا بعقارب الزمن على الوراء قليلا وتذكرنا التوترات التي حدثت في المنطقة في أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979، حيث وصلت التوترات في الخليج إلى نقطة اللاعودة حينما اشتعلت الحرب العراقية الإيرانية وأدخلت منطقة الخليج العربي في حالة طويلة من غياب الاستقرار؛ برزت الدبلوماسية العمانية في تلك المرحلة المبكرة بنهجها المدروس وقدرتها على قراءة المستقبل في ضوء المعطيات الماثلة على أرض الأحداث، وعلى النقيض من الكثير من دول المنطقة الذين انحازوا بقوة إلى معسكر أو آخر، التزمت سلطنة عُمان بمبدأ الحياد والحوار، وهو القرار الذي تشكل عبر فهم عميق وراء تجارب تاريخية وضرورات جغرافية.

السير وسط حقول الألغام

بهذا المعنى سمحت السياسة الخارجية العمانية لعُمان التنقل وسط عقود طويلة من الاضطرابات الإقليمية مع الحفاظ على الاستقرار الداخلي وتعزيز السمعة الدولية كوسيط موثوق به، ولم ينشأ هذا التوجه الدبلوماسي في فراغ؛ بل هو نتاج مزيج فريد من الاستمرارية التاريخية والضرورة الجغرافية والقيادة القادرة على فهم ديناميكيات الأقليم والأطماع العالمية به ومسار الأحداث بناء على كل ذلك.

كانت عُمان عبر التاريخ ملتقى للحضارات، وباعتبارها إمبراطورية بحرية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، سيطرت على طرق تجارية حيوية تمتد من شرق إفريقيا إلى جنوب آسيا، ومنح هذا التاريخ عُمان فهما عميقا للتعددية الثقافية وفن التفاوض، كان هذا الفهم أساسيا للحفاظ على استقلال عُمان أمام أطماع الكثير من القوى العالمية عبر التاريخ أمثال الأطماع الاستعمارية البرتغالية والهولندية والأسبانية والبريطانية.

كانت هذه التجارب وما بها من مخاضات سياسية وعسكرية مريرة أحيانا تشكل السياسة الخارجية العمانية؛ فهي كما يتضح نتاج قرون طويلة من التفاعلات الثقافية والحضارية والأيديولوجية والعسكرية بين الجغرافيا العمانية والجغرافيا الإقليمية والعالمية وحوارات ونقاشات مع الآخر كانت تحدث عبر التفاعل الحضاري، وهي أيضا نتاج فهم حقيقي وعميق لمعنى التفاعل بين الجغرافيا والتاريخ، وإذا كان ابن خلدون يقول إن الجغرافيا هي التي تصنع التاريخ، فإن التاريخ العماني كان على الدوام نتاج تفاعل حقيقي مع الجغرافيا.

تفهم سلطنة عُمان الإقليم الجغرافي الذي تعيش فيه أكثر من غيرها، ومَكّنها هذا من صناعة تاريخها على النحو المشرق الذي نقرأه، كما ساعدها في تحقيق نجاحات سياسية ودبلوماسية يُنظرُ إلى الكثير منها بأنه استثنائي، نظرا لما تنطوي عليه من تعقيدات كبيرة جدا، ويعود الأمر إلى اعتبارات كثيرة تشكلت عبر التاريخ ربما أهمها أنها الكيان السياسي الأقدم في المنطقة، الذي عايش وأسهم وتفاعل مع التحولات الكبرى التي حدثت في منطقة الجزيرة العربية والإقليم المحيط بها، ليس منذ قرنين فقط ولكن منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، عندما كانت الأمة في عُمان قد شكلت دولة على مبادئ سياسية وحضاري، فيما كانت الكثير من الدول التي نراها اليوم في الإقليم مجرد قبائل متصارعة في أفضل الأحوال. كان التراكم السياسي والفهم العميق لثقافات المنطقة وطموحاتها وأيديولوجياتها وأنظمتها الحاكمة أحد أهم العوامل التي أسهمت في نجاحات السياسة العمانية، وفي الحقيقة، في تشكل ركائزها وفي قدرتها على الإسهام في حل التحديات الإقليمية.

تتصالح سلطنة عمان مع الجغرافيا المحيطة بها ولم تضعها في يوم من الأيام في خانة التحديات بل بقيت على الدوام ميزة لا بد من الاستفادة منها.

لا نختار الجغرافيا

وكان سلاطين عمان يرددون دائما مقولة «إننا لا نختار الجغرافيا ولا نختار الدول التي تكون في جوارنا»، وهذا يعني أن علينا أن نتصالح معهم ونتكامل، وأن نبني سياساتنا واستراتيجياتنا وفق الواقع الذي تفرضه الجغرافيا.

والجغرافيا عامل حاسم جدا في تشكيل السياسة الخارجية العمانية، إذ تقع سلطنة عمان عند تقاطع طرق بحرية مهمة، وفي مقدمتها مضيق هرمز الذي يمر من خلاله الجزء الأكبر من إمدادات النفط العالمية، كما أنها مطلة على المحيط الهندي ومن ورائه الكتلة الآسيوية بكل ثقافاتها وتطلعاتها وتاريخها، وفي الشمال تطل على إيران بحضارتها الفارسية العريقة وتطلعاتها المستقبلية وما يصاحب ذلك من تحديات كبيرة، وإلى الغرب تطلّ على السعودية وبقية دول الخليج العربي، وإلى الجنوب على اليمن بكل صراعاته التي عاشها عبر التاريخ، كل هذه الكتل الجغرافية غنية بالمتغيرات وبالتطلعات والتحديات بل والصراعات التي لا تنتهي، الأمر الذي يجعلها كتلًا متحركة غير ثابتة.

وعبر التاريخ كان لعُمان الكثير من الصلات مع هذه الكتل الجغرافية، والتفاعل الذي انعكس إيجابا ليس على عُمان وحدها ولكن على الإقليم بأكمله. كانت مسقط وصحار وصور وصلالة وخصب مراكز تجارية مهمة في المنطقة، واستطاعت أن تبني صلات حضارية مع الكثير من المدن والشعوب المحيطة والبعيد، مثل الهند وشرق أفريقيا والجزيرة العربية ومصر والعراق والصين، هذا الأمر وجه اهتمام سلطنة عُمان للحفاظ على استقرار المنطقة وبناء تعاون أمني وثيق مع جميع الدول المحيطة بها لضمان أمن الملاحة البحرية.

ورغم الصراع الكبير الذي تشهده اليمن، ليس فقط خلال العقد الماضي ولكن عبر أكثر من قرن من الزمن، حافظت عُمان على استقرار حدودها الجنوبية مع اليمن، وبقيت تدعم الجهود الدبلوماسية لحل القضايا اليمنية، بل إنها في الكثير من الأوقات كانت هي التي تتبنى الجهود الدبلوماسية وتهيئ لها الظروف الجيدة للحوار، إضافة إلى تنشيط دبلوماسية المساعدات الإنسانية في طريق استقرار اليمن.

هذا الفهم العميق لدور الجغرافيا في بناء الركائز السياسية في عُمان عبر التاريخ جعلها قادرة على القيام بالكثير من الأدوار في حل النزاعات الخليجية والإقليمية، وقدمت سلطنة عمان باعتبارها الطرف الإقليمي الأكثر قدرة على فهم المنطقة والأكثر قدرة على القيام بأدوار سياسية في اللحظات الصعبة، التي تعادل فيها الدبلوماسية الحكيمة الحياة أو الموت، كما هو الحال في الملف النووي الإيراني، الذي عاد إلى الواجهة العالمية مرة أخرى بعد أن أشعلت دولة الاحتلال الإسرائيلي حرب إبادة لا نهاية لها في قطاع غزة، وبما قامت به من أدوار تاريخية في حقن الدماء اليمنية بعد سنوات من الحرب الطاحنة.

بوعي تام بكل التشابكات الحضارية الناتجة عن التفاعل بين الجغرافيا وبين المعطيات السياسية والاقتصادية والأيديولوجية والثقافية، كانت عُمان تضع أسس وقيم ومبادئ سياستها الخارجية التي اتسمت بالتوازن والانفتاح والتعاون مع الجميع.

نصنع استقرار الإقليم

لكن هذا التوازن الدبلوماسي الذي يتكئ على فهم الجغرافيا وضروراتها لم يكن يوما خاليا في التحديات؛ فقد أثار حياد سلطنة عُمان في بعض الأحيان، وربما في كثيرها، انتقادات الآخرين الذين اعتبروا حياد عُمان نوعا من غياب التضامن معها! ولكن عُمان كانت تؤكد على الدوام أن سياستها ودبلوماسيتها تخدم المصالح الأوسع للاستقرار الإقليمي، وهذا الطرح يدعمه سجل سلطنة عُمان في الحد من التوترات في منطقة الخليج والعالم العربي.

هناك أمر آخر مهم في هذا السياق وهو أن سلطنة عُمان عرفت منذ وقت مبكر أن التنمية وجلب استثمارات أجنبية لا يمكن أن يستقيم إلا في بيئة مستقرة بعيدة عن اضطرابات هذا الفهم، أيضا، فرض على عُمان أن تكون سياستها الخارجية متبنية للحياد وبعيدة عن الأجندات وأن تتسم بكثير من الثبات وعدم التلون وفقا للمتغيرات السريعة، ولذلك يمكن القول إن السياسة الخارجية العمانية هي ضرورة اقتصادية بقدر ما هي استراتيجية سياسية.

كان البعض يعتقد أن السياسة الخارجية العمانية ستتغير بعد وصول حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق إلى عرش عمان في يناير 2020، لكن الحقيقة أن هذه السياسة بقيت كما كانت عليه من قبل ولم تشهد انحرافات تذكر عن المبادئ التي كانت تتحرك وفقها؛ فبقي السلطان هيثم، حفظه الله، ملتزما بالحياد والحوار واحترام سيادة الآخرين ومحافظا على سيادة عُمان وعلى قرارها السياسي من أي تأثير خارجي حتى في اللحظات الصعبة التي مر بها العالم خلال أزمة كورونا وما صاحبها من أزمة مالية خانقة.

نموذج يحتذى

وهذه التجربة في الحياد الإيجابي وفي التمسك بالمبادئ والقيم الدبلوماسية في منطقة مضطربة على الدوام تقدم نموذجا بديلا يعطي الأولوية للاستقرار والاحترام المتبادل، وهذا النهج ينسجم مع المصالح المشتركة التي يمكن أن يقبل بها العالم خاصة في ظل التمتع بالمصداقية، وهذا النهج أيضا يسمح للمواطنين، عمانيين أو في أي مكان آخر، أن يتمتعوا بمستوى كبير من الأمن والاستقرار والازدهار، وفي هذا الكثير من الدروس القيمة للكثير من الدول الإقليمية التي تسعى بشكل حثيث لبناء سياسات خارجية تتسم بالمرونة وتبعد الدولة عن المخاطر المحيطة بها، ورغم أن هذا الأمر ليس بالسهولة التي يعتقدها البعض؛ لأن سياسة عمان مستمدة من تاريخها الطويلة ومن فهم لحقيقة التاريخ وحقيقة الجغرافيا لكن فهم الدول لتاريخها باستخدام هذه المعطيات يمكنها من بناء سياسة خارجية تعود عليها بالاستقرار.

لكن لا بد من الإشارة هنا أن احتفاء عُمان بالجغرافيا في بناء سياستها الخارجية لم تمنعها يوما، عبر التاريخ، من الانحياز للقضايا العربية والقضايا الدولية العادلة، الأمر الذي أتاح لعُمان الكثير من المرونة في التعامل مع القضايا العربية والإنسانية ويمكن العودة إلى الكثير من الأحداث التي تحفظها كتب التاريخ العماني والعربي وإلى الوثائق السياسية الغربية ليفهم بشكل عميق دور عُمان الإيجابي في تلك القضايا، وهو دور يشعر العمانيين اليوم بكثير من الفخر وهو مساهم أساسي في بناء الشخصية العمانية المستقرة والمتصالحة مع ذاتها ومع الآخر وهذا بدوره ينعكس على استمرارية السياسة الخارجية العمانية على المبادئ والقيم نفسها.

عاصم الشيدي

كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان

مقالات مشابهة

  • السياسة الخارجية: تصريحات ترامب عن الحرب الأوكرانية تتغير باستمرار
  • مستشار مركز السياسة الخارجية: تصريحات ترامب عن الحرب الأوكرانية تتغير باستمرار
  • السياسة الخارجية العمانية.. بين ضرورات الجغرافيا وحقائق التاريخ
  • "واشنطن بوست": سياسات بايدن الداخلية والخارجية جعلت النظام العالمي أقل استقرارا
  • كيف خرجت السياسة الخارجية لبايدن عن مسارها؟
  • بايدن يستبق ولاية ترامب ويمدد ل 18 شهرا إقامة 800 ألف مهاجر من فنزويلا والسلفادور وأوكرانيا والسودان
  • إدارة بايدن تتخذ خطوة تجاه السودانيين بأمريكا قبل وصول ترامب للبيت الأبيض
  • صدمة في السياسة الأمريكية.. ترامب يبدأ ولايته بـ100 أمر تنفيذي
  • بايدن يعتزم إلقاء خطاب ختامي حول إرثه في السياسة الخارجية