في سبتمبر من عام 2013 كنت برفقة وفد رسمي يقوم بزيارة إلى إيران، وهي زيارة جاءت بعد أقل من شهرين من الزيارة التاريخية التي قام بها السلطان الراحل قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، إلى إيران. كان على متن الطائرة الصغيرة التي تتسع لثمانية ركاب فقط سفير سلطنة عُمان في طهران في ذلك الوقت يحيى آل فنة، وكان حينها ينهي إجراءات عودته إلى مسقط بعد أن انتهت مهام عمله في إيران.

وَبِحِسٍّ صحفي وعبر أسئلة كثيرة ومتداخلة لم تخلُ من «الخبث» الصحفي، حاولت أن أعرف أهم الملفات التي ناقشها السلطان قابوس مع الرئيس الإيراني حسن روحاني أو مع المرشد الأعلى علي خامنئي. كانت الطائرة أضيق من أن يدور فيها حوار ثنائي بهذا المستوى من السرية والخطورة. وكان السفير عنيدا جدا ومتحفظا إلى أبعد الحدود، ولم أستطع الحصول على أي تفاصيل ذات قيمة إلى قرب نهاية الرحلة، حينها قال همسا: إن الزيارة كانت «تاريخية»، وسيبقى ما دار فيها محل نقاش لسنوات طويلة جدا، وسيؤكد موضوعها تفوق السياسة الخارجية العمانية التي ستبقى محل إشادة عالمية وليست إقليمية فقط.

كانت هذه الكلمات الهامسة القصيرة تحمل تأكيدا لما كان يدور في الكواليس، الضيقة على الأقل، في ذلك الوقت من أن سلطنة عمان تقود جهودا دبلوماسية لوضع نهاية للخلاف الغربي الإيراني حول الملف النووي. ولكن لم يكن أحد ليتصور، في ذلك الوقت، أن يستطيع أحد جمع إيران والغرب على طاولة مفاوضات واحدة يكون كل منهم حريصا على نجاح اللقاء وما يتبعه من لقاءات؛ لكن ذلك حدث بالفعل وسط تفاصيل كثيرة كشف الكثير منها وبقي البعض الآخر في انتظار الزمن المناسب كشفه وتم توقيع «خطة العمل الشاملة المشتركة» في عام 2015 قبل أن يأتي الرئيس الأمريكي ترامب وينقضها في عام 2018.

ثبات الدبلوماسية

لم تُرضِ الوساطة العمانية، التي أنتجت الاتفاق النووي بين الغرب وإيران، الجميع في الإقليم، رغم أنها منعت حربا طاحنة كانت على وشك أن تندلع في أي وقت بين أمريكا وإيران. وتساءل الكثيرون عن مصلحة سلطنة عمان في ذلك الوقت من تلك الوساطة، بالقدر نفسه الذي تساءلوا فيه عن قوة دبلوماسيتها التي نجحت في التقريب بين أشد الأعداء.

شغلت هذه الأسئلة وسائل الإعلام العربية والغربية لسنوات طويلة، رغم أن الملف النووي الإيراني لم يكن النجاح الوحيد الذي أنجزته الدبلوماسية العمانية، رغم أنه كان الأبرز، فطوال العقود الأربعة الماضية استخدمت سلطنة عُمان قوة وثبات دبلوماسيتها لحل الكثير من الخلافات في منطقة الخليج العربي والإقليم المحيط، وجنّبت المنطقة الكثير من الحروب أو إنها احتوت خلافات عربية - عربية كانت مرشحة أن تتحول إلى نزاعات ثنائية أو حروب إقليمية.

ولو عدنا بعقارب الزمن على الوراء قليلا وتذكرنا التوترات التي حدثت في المنطقة في أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979، حيث وصلت التوترات في الخليج إلى نقطة اللاعودة حينما اشتعلت الحرب العراقية الإيرانية وأدخلت منطقة الخليج العربي في حالة طويلة من غياب الاستقرار؛ برزت الدبلوماسية العمانية في تلك المرحلة المبكرة بنهجها المدروس وقدرتها على قراءة المستقبل في ضوء المعطيات الماثلة على أرض الأحداث، وعلى النقيض من الكثير من دول المنطقة الذين انحازوا بقوة إلى معسكر أو آخر، التزمت سلطنة عُمان بمبدأ الحياد والحوار، وهو القرار الذي تشكل عبر فهم عميق وراء تجارب تاريخية وضرورات جغرافية.

السير وسط حقول الألغام

بهذا المعنى سمحت السياسة الخارجية العمانية لعُمان التنقل وسط عقود طويلة من الاضطرابات الإقليمية مع الحفاظ على الاستقرار الداخلي وتعزيز السمعة الدولية كوسيط موثوق به، ولم ينشأ هذا التوجه الدبلوماسي في فراغ؛ بل هو نتاج مزيج فريد من الاستمرارية التاريخية والضرورة الجغرافية والقيادة القادرة على فهم ديناميكيات الأقليم والأطماع العالمية به ومسار الأحداث بناء على كل ذلك.

كانت عُمان عبر التاريخ ملتقى للحضارات، وباعتبارها إمبراطورية بحرية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، سيطرت على طرق تجارية حيوية تمتد من شرق إفريقيا إلى جنوب آسيا، ومنح هذا التاريخ عُمان فهما عميقا للتعددية الثقافية وفن التفاوض، كان هذا الفهم أساسيا للحفاظ على استقلال عُمان أمام أطماع الكثير من القوى العالمية عبر التاريخ أمثال الأطماع الاستعمارية البرتغالية والهولندية والأسبانية والبريطانية.

كانت هذه التجارب وما بها من مخاضات سياسية وعسكرية مريرة أحيانا تشكل السياسة الخارجية العمانية؛ فهي كما يتضح نتاج قرون طويلة من التفاعلات الثقافية والحضارية والأيديولوجية والعسكرية بين الجغرافيا العمانية والجغرافيا الإقليمية والعالمية وحوارات ونقاشات مع الآخر كانت تحدث عبر التفاعل الحضاري، وهي أيضا نتاج فهم حقيقي وعميق لمعنى التفاعل بين الجغرافيا والتاريخ، وإذا كان ابن خلدون يقول إن الجغرافيا هي التي تصنع التاريخ، فإن التاريخ العماني كان على الدوام نتاج تفاعل حقيقي مع الجغرافيا.

تفهم سلطنة عُمان الإقليم الجغرافي الذي تعيش فيه أكثر من غيرها، ومَكّنها هذا من صناعة تاريخها على النحو المشرق الذي نقرأه، كما ساعدها في تحقيق نجاحات سياسية ودبلوماسية يُنظرُ إلى الكثير منها بأنه استثنائي، نظرا لما تنطوي عليه من تعقيدات كبيرة جدا، ويعود الأمر إلى اعتبارات كثيرة تشكلت عبر التاريخ ربما أهمها أنها الكيان السياسي الأقدم في المنطقة، الذي عايش وأسهم وتفاعل مع التحولات الكبرى التي حدثت في منطقة الجزيرة العربية والإقليم المحيط بها، ليس منذ قرنين فقط ولكن منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، عندما كانت الأمة في عُمان قد شكلت دولة على مبادئ سياسية وحضاري، فيما كانت الكثير من الدول التي نراها اليوم في الإقليم مجرد قبائل متصارعة في أفضل الأحوال. كان التراكم السياسي والفهم العميق لثقافات المنطقة وطموحاتها وأيديولوجياتها وأنظمتها الحاكمة أحد أهم العوامل التي أسهمت في نجاحات السياسة العمانية، وفي الحقيقة، في تشكل ركائزها وفي قدرتها على الإسهام في حل التحديات الإقليمية.

تتصالح سلطنة عمان مع الجغرافيا المحيطة بها ولم تضعها في يوم من الأيام في خانة التحديات بل بقيت على الدوام ميزة لا بد من الاستفادة منها.

لا نختار الجغرافيا

وكان سلاطين عمان يرددون دائما مقولة «إننا لا نختار الجغرافيا ولا نختار الدول التي تكون في جوارنا»، وهذا يعني أن علينا أن نتصالح معهم ونتكامل، وأن نبني سياساتنا واستراتيجياتنا وفق الواقع الذي تفرضه الجغرافيا.

والجغرافيا عامل حاسم جدا في تشكيل السياسة الخارجية العمانية، إذ تقع سلطنة عمان عند تقاطع طرق بحرية مهمة، وفي مقدمتها مضيق هرمز الذي يمر من خلاله الجزء الأكبر من إمدادات النفط العالمية، كما أنها مطلة على المحيط الهندي ومن ورائه الكتلة الآسيوية بكل ثقافاتها وتطلعاتها وتاريخها، وفي الشمال تطل على إيران بحضارتها الفارسية العريقة وتطلعاتها المستقبلية وما يصاحب ذلك من تحديات كبيرة، وإلى الغرب تطلّ على السعودية وبقية دول الخليج العربي، وإلى الجنوب على اليمن بكل صراعاته التي عاشها عبر التاريخ، كل هذه الكتل الجغرافية غنية بالمتغيرات وبالتطلعات والتحديات بل والصراعات التي لا تنتهي، الأمر الذي يجعلها كتلًا متحركة غير ثابتة.

وعبر التاريخ كان لعُمان الكثير من الصلات مع هذه الكتل الجغرافية، والتفاعل الذي انعكس إيجابا ليس على عُمان وحدها ولكن على الإقليم بأكمله. كانت مسقط وصحار وصور وصلالة وخصب مراكز تجارية مهمة في المنطقة، واستطاعت أن تبني صلات حضارية مع الكثير من المدن والشعوب المحيطة والبعيد، مثل الهند وشرق أفريقيا والجزيرة العربية ومصر والعراق والصين، هذا الأمر وجه اهتمام سلطنة عُمان للحفاظ على استقرار المنطقة وبناء تعاون أمني وثيق مع جميع الدول المحيطة بها لضمان أمن الملاحة البحرية.

ورغم الصراع الكبير الذي تشهده اليمن، ليس فقط خلال العقد الماضي ولكن عبر أكثر من قرن من الزمن، حافظت عُمان على استقرار حدودها الجنوبية مع اليمن، وبقيت تدعم الجهود الدبلوماسية لحل القضايا اليمنية، بل إنها في الكثير من الأوقات كانت هي التي تتبنى الجهود الدبلوماسية وتهيئ لها الظروف الجيدة للحوار، إضافة إلى تنشيط دبلوماسية المساعدات الإنسانية في طريق استقرار اليمن.

هذا الفهم العميق لدور الجغرافيا في بناء الركائز السياسية في عُمان عبر التاريخ جعلها قادرة على القيام بالكثير من الأدوار في حل النزاعات الخليجية والإقليمية، وقدمت سلطنة عمان باعتبارها الطرف الإقليمي الأكثر قدرة على فهم المنطقة والأكثر قدرة على القيام بأدوار سياسية في اللحظات الصعبة، التي تعادل فيها الدبلوماسية الحكيمة الحياة أو الموت، كما هو الحال في الملف النووي الإيراني، الذي عاد إلى الواجهة العالمية مرة أخرى بعد أن أشعلت دولة الاحتلال الإسرائيلي حرب إبادة لا نهاية لها في قطاع غزة، وبما قامت به من أدوار تاريخية في حقن الدماء اليمنية بعد سنوات من الحرب الطاحنة.

بوعي تام بكل التشابكات الحضارية الناتجة عن التفاعل بين الجغرافيا وبين المعطيات السياسية والاقتصادية والأيديولوجية والثقافية، كانت عُمان تضع أسس وقيم ومبادئ سياستها الخارجية التي اتسمت بالتوازن والانفتاح والتعاون مع الجميع.

نصنع استقرار الإقليم

لكن هذا التوازن الدبلوماسي الذي يتكئ على فهم الجغرافيا وضروراتها لم يكن يوما خاليا في التحديات؛ فقد أثار حياد سلطنة عُمان في بعض الأحيان، وربما في كثيرها، انتقادات الآخرين الذين اعتبروا حياد عُمان نوعا من غياب التضامن معها! ولكن عُمان كانت تؤكد على الدوام أن سياستها ودبلوماسيتها تخدم المصالح الأوسع للاستقرار الإقليمي، وهذا الطرح يدعمه سجل سلطنة عُمان في الحد من التوترات في منطقة الخليج والعالم العربي.

هناك أمر آخر مهم في هذا السياق وهو أن سلطنة عُمان عرفت منذ وقت مبكر أن التنمية وجلب استثمارات أجنبية لا يمكن أن يستقيم إلا في بيئة مستقرة بعيدة عن اضطرابات هذا الفهم، أيضا، فرض على عُمان أن تكون سياستها الخارجية متبنية للحياد وبعيدة عن الأجندات وأن تتسم بكثير من الثبات وعدم التلون وفقا للمتغيرات السريعة، ولذلك يمكن القول إن السياسة الخارجية العمانية هي ضرورة اقتصادية بقدر ما هي استراتيجية سياسية.

كان البعض يعتقد أن السياسة الخارجية العمانية ستتغير بعد وصول حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق إلى عرش عمان في يناير 2020، لكن الحقيقة أن هذه السياسة بقيت كما كانت عليه من قبل ولم تشهد انحرافات تذكر عن المبادئ التي كانت تتحرك وفقها؛ فبقي السلطان هيثم، حفظه الله، ملتزما بالحياد والحوار واحترام سيادة الآخرين ومحافظا على سيادة عُمان وعلى قرارها السياسي من أي تأثير خارجي حتى في اللحظات الصعبة التي مر بها العالم خلال أزمة كورونا وما صاحبها من أزمة مالية خانقة.

نموذج يحتذى

وهذه التجربة في الحياد الإيجابي وفي التمسك بالمبادئ والقيم الدبلوماسية في منطقة مضطربة على الدوام تقدم نموذجا بديلا يعطي الأولوية للاستقرار والاحترام المتبادل، وهذا النهج ينسجم مع المصالح المشتركة التي يمكن أن يقبل بها العالم خاصة في ظل التمتع بالمصداقية، وهذا النهج أيضا يسمح للمواطنين، عمانيين أو في أي مكان آخر، أن يتمتعوا بمستوى كبير من الأمن والاستقرار والازدهار، وفي هذا الكثير من الدروس القيمة للكثير من الدول الإقليمية التي تسعى بشكل حثيث لبناء سياسات خارجية تتسم بالمرونة وتبعد الدولة عن المخاطر المحيطة بها، ورغم أن هذا الأمر ليس بالسهولة التي يعتقدها البعض؛ لأن سياسة عمان مستمدة من تاريخها الطويلة ومن فهم لحقيقة التاريخ وحقيقة الجغرافيا لكن فهم الدول لتاريخها باستخدام هذه المعطيات يمكنها من بناء سياسة خارجية تعود عليها بالاستقرار.

لكن لا بد من الإشارة هنا أن احتفاء عُمان بالجغرافيا في بناء سياستها الخارجية لم تمنعها يوما، عبر التاريخ، من الانحياز للقضايا العربية والقضايا الدولية العادلة، الأمر الذي أتاح لعُمان الكثير من المرونة في التعامل مع القضايا العربية والإنسانية ويمكن العودة إلى الكثير من الأحداث التي تحفظها كتب التاريخ العماني والعربي وإلى الوثائق السياسية الغربية ليفهم بشكل عميق دور عُمان الإيجابي في تلك القضايا، وهو دور يشعر العمانيين اليوم بكثير من الفخر وهو مساهم أساسي في بناء الشخصية العمانية المستقرة والمتصالحة مع ذاتها ومع الآخر وهذا بدوره ينعكس على استمرارية السياسة الخارجية العمانية على المبادئ والقيم نفسها.

عاصم الشيدي

كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: السیاسة الخارجیة العمانیة فی ذلک الوقت عبر التاریخ سلطنة عمان على الدوام الکثیر من فی منطقة کانت ع مان فی

إقرأ أيضاً:

العودة إلى السياسة الواقعية الأمريكية

ترجمة: بدر بن خميس الظفري

تثير السياسة الخارجية التي ينتهجها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حيرة كثيرين وتساؤلات لا تهدأ. فما بين تقليص نفوذ الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والتلويح بضم كندا إلى الولايات المتحدة باعتبارها الولاية الحادية والخمسين، والتعامل الفج مع أوكرانيا، يبدو المشهد وكأن الولايات المتحدة تنحرف عن مسارها التقليدي في قيادة النظام العالمي. ثمة من يفسر هذه التوجهات بنزعة ترامب الشخصية نحو الجشع أو افتتانه بالحكام المستبدين، وربما تحمل هذه النظريات قدرا من الصحة، لكنها تظل غير كافية لفهم الصورة الكاملة. فبالنسبة لترامب، المسألة لا تتعلق بثروات الدول ولا بأيديولوجياتها، وإنما بحجم قوتها. إذ يؤمن بأن السيطرة للأقوياء، وأن الولاء يجب أن يُمنح لهم، فيما لا يستحق الضعفاء سوى التجاهل أو الابتزاز. إنها ببساطة واقعية صلبة تعود جذورها إلى أزمنة سحيقة.

ليس في ذلك دفاع عن سياسات ترامب، فالكثير من ممارساته على الساحة الدولية، كما على المستوى الداخلي، تتسم بالخشونة والسطحية وقصر النظر. ومع ذلك، يبدو أن إدارته قد أدركت بوضوح أن النظام الليبرالي العالمي الذي ظلت الولايات المتحدة ترعاه لعقود طويلة، كان قائماً بالأساس على تفوقها العسكري، وأن الشعب الأمريكي لم يعد مستعداً لدفع كلفته. وهذه في جوهرها نظرة واقعية، وإن جاءت في صورتها البدائية التي وصفها الباحث ستيفن والت يوماً بأنها «واقعية نياندرتالية»، لكنها تظل مع ذلك قراءة واقعية للعالم.

ينظر الواقعيون إلى العالم باعتباره ساحة صراع فوضوية لا مكان فيها للأوهام الأخلاقية. فالأمن، في هذا التصور، لا يتحقق عبر نشر الديمقراطية أو ترسيخ القوانين الدولية، بل في امتلاك ما يكفي من القوة لردع الخصوم، مع تجنب الاصطدام المباشر بالقوى الكبرى. من هذا المنطلق، يسعى ترامب لتفادي أي مواجهة مع روسيا، ولو كان الثمن التخلي عن أوكرانيا ومعاناتها.

يعود أصل هذا النمط من التفكير إلى الحرب البيلوبونيسية في القرن الخامس قبل الميلاد، عندما فرضت أثينا حصاراً على جزيرة ميلوس، مطالبة سكانها بالخضوع وإعلان الولاء، وإلا تعرضوا للقتل والاستعباد. وحين اعترض سكان ميلوس محتجين بأن أثينا لا تملك الحق في فعل ذلك، جاءهم الجواب صريحاً وواضحا: «الأقوياء يفعلون ما يستطيعون، والضعفاء يعانون ما لا بد لهم من معاناته»، كما نقل عنهم المؤرخ ثوسيديديس.

لو قُدر لي أن أعيش تلك اللحظة، لربما اخترت الخضوع على أمل مقاومة لاحقة أكثر جدوى. لكن قادة ميلوس آثروا القتال حتى النهاية، وكانت المحصلة أن قتل الرجال، واستُعبدت النساء والأطفال، واستولت أثينا على الجزيرة. وهنا يبقى السؤال معلقاً: هل كانوا أبطالاً يدافعون عن شرفهم، أم حمقى أغرتهم شعارات لا تصمد أمام منطق القوة؟ من يراهم أبطالاً ينتمي إلى المدرسة الليبرالية الدولية التي تؤمن بأن الأمن والسلام يعتمدان على عدالة الحكومات واحترام القوانين. أما من يراهم حمقى، فهو أقرب إلى الواقعية السياسية التي تحتكم إلى موازين القوى وحدها.

وفي لقاء جمع ترامب مؤخراً بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بدا الرئيس الأمريكي وكأنه يستعيد الموقف الأثيني نفسه، إذ قال لزيلينسكي بوضوح: «أنتم لا تملكون أية أوراق حاليا». لم يكن يشير إلى قيم أو مبادئ، بل إلى موقع أوكرانيا الضعيف في لعبة الأمم.

لطالما افتقرت الواقعية إلى حضور قوي في أروقة السياسة الخارجية الأمريكية، التي ظلت لعقود ساحة صراع بين المحافظين الجدد، الذين سعوا لفرض الديمقراطية بقوة السلاح، والليبراليين الذين فضلوا نشرها عبر أدوات ناعمة، من بينها برامج دعم المجتمع المدني التي تمولها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. وفي خضم هذا الصراع، همش العديد من المفكرين الواقعيين، ممن حاولوا مراراً تحذير الإدارات الأمريكية من مغبة التورط في مغامرات عسكرية مكلفة. هانز مورغنثاو حذر إدارة جونسون من توسيع حرب فيتنام فأقصي عام 1965. جورج كينان عارض توسع الناتو في التسعينيات، محذراً من استفزاز روسيا، فلم يسمعه أحد. برنت سكوكروفت حاول ثني جورج بوش الابن عن غزو العراق دون جدوى.

إلا أن السنوات الأخيرة شهدت عودة لافتة للمدرسة الواقعية في واشنطن. برزت مراكز أبحاث تتبنى هذا التوجه، مثل معهد كوينسي لفن الحُكم المسؤول، وأولويات الدفاع، ومركز تحليل الاستراتيجية الكبرى بمؤسسة راند. وظهر على الساحة عدد من المسؤولين الذين يُنظر إليهم باعتبارهم واقعيين، من بينهم نائب الرئيس جيه دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، ومديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد. بل إن أبرز المفكرين الواقعيين المعاصرين، إلبريدج كولبي، مرشح لمنصب وكيل وزارة الدفاع للسياسات في إدارة ترامب المقبلة. ولعل السيناتور الجمهوري عن ولاية ميزوري إريك شميت لخّص هذا التحول بقوله: «ندخل عصراً جديداً من الواقعية الأمريكية».

وراء هذا التحول شعور متزايد بالخطر. فحين كانت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة، لم تكن بحاجة لحسابات معقدة تأخذ في الاعتبار مصالح روسيا في أوكرانيا أو الصين في تايوان. أما اليوم فإن المعادلة تغيرت، روسيا والصين تمتلكان أسلحة متطورة تفوق سرعة الصوت، في حين لم تطور الولايات المتحدة حتى الآن وسائل فعالة للتصدي لها. وتملك الصين القدرة على تعطيل الأقمار الصناعية الأمريكية، مما يعني تهديد أنظمة حيوية تعتمد عليها القوات المسلحة والاقتصاد الأمريكي. والأسوأ أن القدرات الصناعية اللازمة لخوض حرب كبرى باتت متركزة في الصين نفسها، نتيجة السياسات الليبرالية التي حوّلتها إلى مصنع العالم.

ورغم ذلك، ما زالت الولايات المتحدة تملك من التحالفات والقدرات ما يضعها في موقع تفوق إذا أحسنت توظيفه. لكن المزاج الشعبي الأمريكي تغير كثيراً. فبعد تجارب العراق وأفغانستان، لم يعد الأمريكيون مستعدين لخوض الحروب من أجل شعارات نبيلة.

يبقى أن نعرف نوع الواقعية التي سيتبناها ترامب. فهناك الواقعيون الهجوميون الذين يرون المواجهة مع الصين أمراً محتوماً. وهناك الواقعيون الدفاعيون الذين ينصحون بتجنب استفزاز القوى الأضعف ودفعها إلى التسلح. ترامب، كالعادة، لا ينتمي بوضوح لأي من المدرستين. يقول ستيفن والت إنه «لا يوجد واقعي حقيقي يهدد بضم كندا أو غزة أو غرينلاند»، ومع ذلك، يفعل ترامب ذلك وأكثر.

ورغم اعتماد ترامب على منطق القوة والتخلي عن الضعفاء، فإن تهديداته لجيرانه وحروبه التجارية قد تكلف بلاده ما كلفته مغامرات النظام الليبرالي السابق. وكما قال راجان مينون، أستاذ العلوم السياسية في كلية سيتي بنيويورك: «من ينتظر من ترامب سياسة خارجية واقعية متزنة سيصاب بخيبة أمل كبيرة».

وفي لقائه مع ترامب، حاول زيلينسكي تحذيره قائلاً: «ربما لا تشعرون بالخطر الآن، لكنكم ستشعرون به لاحقا». فرد ترامب بحدة: «أنت لا تعرف ذلك. لا تخبرنا بما سنشعر به».

في النهاية، يعتقد ترامب أن الولايات المتحدة تظل قوة لا يجرؤ أحد على تحديها، وأن أوكرانيا ليست سوى ورقة يمكن التضحية بها. لكن دروس التاريخ تقول غير ذلك. فحتى أثينا، بعد أن أمعنت في إذلال ميلوس، دفعت الثمن لاحقاً بخسارة الحرب وتفكك تحالفاتها. ليتأكد مجدداً أن الأفكار والقيم النبيلة، رغم ضعفها الظاهر، قد تكون أقوى مما يظن الواقعيون.

فرح ستوكمان عضو هيئة التحرير في نيويورك تايمز ومؤلفة كتاب «صُنع في أمريكا: ماذا يحدث للناس عندما تختفي الوظائف».

** خدمة نيويورك تايمز

مقالات مشابهة

  • احتفالًا بالمدينة العمانية
  • العودة إلى السياسة الواقعية الأمريكية
  • أرقام وحقائق مثيرة بعد ختام دور الـ16 من «نخبة آسيا»!
  • روبيو عن بوتين: السياسة الخارجية تعني العمل مع أشخاص لا تحبهم ..فيديو
  • عاجل . البنك المركزي اليمني يكشف عن نقل مراكز البنوك التي كانت بصنعاء الى إلى عدن. ضربة موجعة للمليشيا الحوثية
  • مساعد وزير الخارجية: مصر كانت تُسابق الزمن لتنظيم كوب 27
  • الشيباني: مصائرنا مشتركة والبلدان يجب أن يقفا ضد التهديدات وضد التدخلات الخارجية التي يتعرضان لها كما أننا مستعدون للتعاون مع العراق في محاربة داعش فأمن سوريا من أمن العراق
  • المرأة العمانية في رمضان.. برامج خيرية متزايدة لدعم الأسر وترسيخ التكافل
  • أحد أبطال أكتوبر: الشعب المصري تحمل الكثير من اجل تحقيق نصر أكتوبر
  • الخارجية الروسية: موسكو وسعت قائمة عقوباتها ردا على حزمة العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي