نيلز وكتاب الدراسات الاجتماعية!
تاريخ النشر: 12th, January 2025 GMT
عندما طلبت ابنتي مساعدتي في شرح بعض ما استعصى عليها في كتاب الدراسات الاجتماعية، ارتعبتُ من كمية الحشو المركب، من اللغة المقعرة، التي تدفعُ إلى حالة من اليأس والقنوط. إذ لا يمكن لصفحة أن تمضي دون أن تُكلل بمعلومات شديدة التفرع والإسهاب، وكأنّ الغرض الوحيد من تعلم هذه المادة كامنٌ في ملء خزانات العقول الصافية بوابلٍ من التلقين المزعج والمضر والمحبط !
مضيتُ أنتقلُ معها من درس إلى آخر، فاقدة الشعور بالقيمة والمعنى، ثمّ سألتُ نفسي بشيء من الأسى العميق: كيف يمكن لهذا النصّ أن يُخاطب عقول أبنائنا الوثابة والمتطلعة في عالم متسارع التحولات؟
أخبرني ابني الذي يكبرها بأعوام، عندما استعنتُ برأيه: «المسألة تكمن ببساطة في حفظ كل هذه الوحدات عن ظهر قلب، ثمّ نسيانها بمجرد أن يُنجز الامتحان».
وآنذاك جلستُ بينهم وقررت أن أحكي لهم قصّة. ففي طفولتي شاهدتُ مسلسلًا كرتونيًا، لا يمكنني نسيانه أبدًا، «مغامرات نيلز»، مسلسل «إنمي» أنتج في اليابان عام ١٩٨٠. لم أكن أدركُ أكثر من عذوبة القصّة وطرافتها آنذاك. وعندما كبرتُ أكثر، اكتشفتُ بأنّ النصّ، كُتب قبل مائة عام من الآن، لكن ما أذهلني أكثر أنّه كُتب لأغراض تعليمية - كما تذكر العديد من المصادر- فعندما لاحظ الاتحاد الوطني للمدرسين في السويد الكراهية الشديدة التي يكنها الطلبة لمادة الجغرافيا، قاموا بتكليف الكاتبة السويدية سلمى لاجرلوف -الحاصلة على جائزة نوبل في الآداب ١٩٠٩- بتأليف كتاب يتمكن من لفت انتباه الطلبة إلى كل ما يتعلق بالسويد، المكان والحكايات الشعبية، المدن وتاريخها، مرورًا بالعادات والتقاليد والفنون. راقت الفكرة للكاتبة لاجروف، فذرعت السويد في رحلة امتدّت لثلاث سنوات. فتمكنت من لمس الجذور الأكثر عمقًا، ثمّ صيّرتها لشيء بالغ الفتنة، فاخترعت القصّة التي خلدت، وأصبحت جزءًا من تكويننا نحن أيضًا. نحن الذين نقبعُ في الجهة الأخرى من ذلك العالم، والذين نجهلُ حياتنا الثرية بسبب تسطيح العملية التعليمية، وأيضًا لأنّ أحدًا لم يقصّها كما ينبغي!
كُتب الكتاب في جزأين، وتُرجم إلى لغات عدّة، وتحول إلى مسلسل كرتوني تابعناه بدأب وفضول عارمين. وبذلك أحدثت عملية القصّ أثرًا فوق التصور. لقد نفخت لاجرلوف في القزم الصغير «نيلز» أعجوبة ألقت بكل التنظيرات الجافة والمجحفة جانبًا. آزر «نيلز» سربُ طيور مهاجر، كمحرك ديناميكي لنمو الحكاية التي تتنوع فيها صنوف المعرفة. وهكذا تمكنت لاجروف عبر قزم صغير من ربط الطلبة بقصّة حضارتهم ولغتهم، طعامهم وحقولهم وبحيراتهم، وكل تنوعهم اللهجي الحي، فتجاوز «النصّ» غرضه التعليمي الضيق إلى ما هو عالمي راسخ. فبدا الأمر كمن يصهر معادن البلاد، ليصنع قطعة فريدة من نوعها. قطعة تبرز سردية تشع من عمقها.
وعلى حد تعبير الكاتب إبراهيم العريس فإن النزعة التعليمية لم تسلب الكتاب نزعته الإنسانية. فقوة الكاتبة جاءت من استخدام لغة الحياة وليس لغة القواميس الجامدة والميتة.
أتذكر بقوة تعلق جيلي وانجذابه إلى «نيلز». كنا نُحلق مع القائد «آكسا» في سعادة لا محدودة، ومن مكاننا الشاهق كنا نتلقى شكلا من المعرفة دون أن نعي ذلك. كانت المعرفة تذوب في نسيجنا وتتركُ علاماتها حتى اللحظة.
التحول لم يكن يُصيب المكان وتفاصيله وحسب، بل كان يعبر كنهر حي في شخصية البطل «نيلز»، وكأنّ غرورنا الفارغ يتضاءل أمام تدفق المعرفة. فـ«نيلز» تحول إلى قزم عندما لم يُقدر قيمة الحياة من حوله، لكن الرحلة التي غرف من ينابيعها اللانهائية مُحلقًا فوق ظهر «مورتن» جعلته يتحرر من اللعنة مستعيدًا حجمه الطبيعي.
وإن كنتُ قد حدثتُ أبنائي عن استدراك لافت لكارثة تعليمية كادت أن تحصل في السويد قبل أكثر من مائة عام، فقد أخذوني بدورهم في رحلة مُماثلة إلى المعرفة المنسابة والسائلة في عالم التقنيات الحديثة والألعاب. فحتى الألعاب اليوم باتت حاملًا معرفيًا خصبًا، وسلاحًا ذا حدين، ولذا ليس علينا أن نتعجب من ذعرهم من حالة الانفصال الحادة التي يكابدونها. فبينما تهز العالم وتحركه مُحرضات معرفية جديدة، نحشي رؤوس الأبناء بالمعلومات كما نحشي الدمى الصماء بالقطن!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ة التی
إقرأ أيضاً:
التكريم وأثره بين التحفيز والإحباط
لا شك أن للتكريم أثرًا بالغًا في تحفيز الهمم، وبعث الحماسة في النفوس، وتجاوز العقبات التي قد تعترض طريق المتعلمين. فالطالب حين يُكرَّم أمام زملائه، يغمره شعور بالفخر والاعتزاز، مما ينعكس إيجابًا على دافعيته، ويدفعه لبذل مزيد من الجهد والمثابرة في سبيل تحقيق التميز والنجاح.
غير أن المشهد لا يكتمل دون الالتفات إلى الطرف الآخر: أولئك الطلبة الذين لم يحالفهم الحظ بالصعود إلى منصة التكريم، وهم في الغالب يشكلون النسبة الأكبر داخل البيئة التعليمية، فما الأثر الذي يتركه غياب أسمائهم عن قائمة المكرّمين؟ إن تحفيز المتعلم لا ينبغي أن يرتبط فقط بالتكريم العلني، بل يجب أن يُراعى فيه تنوع الأساليب بما يتناسب مع مرحلته العمرية، ويأتي في الوقت والمكان المناسبين. فبهذا النهج تتعزز ثقته بنفسه، ويشعر بالانتماء الحقيقي لمؤسسته التعليمية، مما يدفعه للاستمرار والسعي نحو التميز دون أن تضعف عزيمته.
لكن حين يُقتصر التكريم على نخبة محدودة من الطلبة، تتولد لدى غيرهم مشاعر من الإحباط وربما الغيرة، خاصة بين من يبذلون جهدًا حقيقيًا دون أن يلامس عطاؤهم معايير التكريم المعتمدة. ومع تكرار هذا الشعور، قد ينخفض مستوى دافعيتهم، ويبدأون بالتشكيك في قيمة ما يقدمونه، مما يُحدث فجوة نفسية وسلوكية تُضعف ارتباطهم بالعملية التعليمية.
ويبدو هذا الإشكال جليًا عند تكريم طلبة الحلقة الأولى في ساحات الطابور أو المحافل العامة، مما قد يؤدي إلى شعور الطفل -الذي لم يُكرَّم- بالخذلان دون أن يفهم الأسباب بوضوح، وهو ما قد يترك أثرًا نفسيًا يحتاج لاحقًا إلى تدخلات علاجية لاستعادة التوازن النفسي لديه.
وقد تتفاقم المشكلة إذا ما تم اختيار نوعية من الهدايا غير المناسبة، كالحلويات، التي تطرح تساؤلات حول مدى ملاءمتها لصحة الأطفال ونموهم بدنيًا وعقليًا.
وتبرز هنا ضرورة مراجعة أساليب وآليات التكريم في المؤسسات التعليمية.
فهل نحن بحاجة إلى تقنين عملية التكريم؟ ومتى يجب أن تتم، وبأي طريقة تحقق الغاية التربوية المنشودة؟ تشير العديد من الدراسات التربوية إلى أن سوء إدارة التكريم قد يؤدي إلى نتائج عكسية، أبرزها الشعور بالتفرقة وضعف الانتماء، أو خلق بيئة تنافسية غير صحية بين الطلبة.
وتُظهر «نظرية تأثير جولم» أن التوقعات السلبية من المعلمين تجاه بعض الطلاب قد تكرّس ضعف الأداء وقلة الثقة بالنفس لديهم.
كما بينت أبحاث أخرى أن التركيز على تكريم «الذكاء الفطري» فقط، دون الالتفات إلى الجهد المبذول أو التحسن الملحوظ، قد يُحبط الطلبة المجتهدين الذين لم يُمنحوا التقدير الكافي.
بل قد يتحول التحفيز إلى مصدر قلق وخجل للطلبة غير المكرّمين، مما يؤثر سلبًا على مشاركتهم ويضعف دافعيتهم الذاتية.
وفي ضوء ذلك، توصي الممارسات التربوية الحديثة بضرورة تنويع معايير التكريم، بحيث لا تقتصر على النتائج العالية، بل تشمل أيضًا التحسن المستمر، والمثابرة، والانضباط، والتعاون.
كما يُستحسن تكريم الطلبة الذين أحرزوا تقدمًا ملحوظًا، ومنحهم مساحة للشعور بالنجاح، ولو عبر إشادات بسيطة وصادقة، تزرع الأمل والثقة في نفوسهم.
ختامًا، التكريم سلاح ذو حدين، وإذا لم يُدار بحكمة وشمولية، فقد تكون آثاره السلبية أعمق من أن تُعالج لاحقًا بخطط علاجية متأخرة.
من هنا، تقع على المؤسسات التعليمية مسؤولية بناء ثقافة تقدير عادلة ومتوازنة، تُحفز الجميع ولا تستثني أحدًا.