اقتصاديات الملكية الفكرية في الرسائل الجامعية
تاريخ النشر: 12th, January 2025 GMT
بقلم: المحامية والباحثة في الملكية الفكرية د. رباب أحمد المعبي
لا شك أن الأفكار العظيمة تراود أذهاننا جميعًا بين الحين والآخر، إلا أن قلة قليلة من هذه الأفكار تجد طريقها إلى التنفيذ. في المملكة العربية السعودية، حيث تشهد نهضة علمية واقتصادية غير مسبوقة في ظل رؤية 2030 الطموحة وتطبيق الاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية، بات من الضروري التفكير في وسائل مبتكرة لتحقيق الاستفادة القصوى من هذه الأفكار وتحويلها إلى مشاريع قابلة للتطبيق.
إن سياسات الملكية الفكرية في الجامعات توفر الحماية القانونية للأفكار والابتكارات الناتجة عن الأبحاث العلمية. ومن هنا يأتي المقترح الذي يهدف إلى استثمار الرسائل العلمية والنظرية بشكل يدعم الباحثين والمؤسسات التعليمية على حد سواء. هذه الرسائل تعد مصدرًا هامًا للاستدامة والعوائد الاقتصادية، إضافة إلى الفرص التجارية على المستويين الوطني والعالمي. من خلال استخدام آليات قانونية مثل الطباعة والنشر والتسويق، يمكن تحقيق توازن اقتصادي مستدام يعود بالفائدة على الطرفين. وهذا يتطلب دراسة جادة من الجهات المختصة لتطبيق هذا النموذج، بما يسهم في تحفيز الاستثمار في المعرفة الأكاديمية وتنميتها.
لفهم هذا المقترح بشكل أفضل، يجب توضيح المصطلحات ذات الصلة. الباحث هو الشخص الذي يقوم بإجراء البحوث العلمية ويبتكر حلولًا وأفكارًا جديدة، وتُعتبر الرسالة العلمية ملكًا له كحقوق ملكية فكرية، إلا في حال تم الاتفاق على نقل بعض الحقوق إلى المؤسسة التعليمية. أما المؤسسات التعليمية فهي الجهات الأكاديمية التي تشرف على الأبحاث وتضمن تحقيقها للمعايير الأكاديمية، وفي بعض الأحيان تقوم بتمويل الأبحاث، ما يمنحها حقوق الملكية الفكرية لهذه الأبحاث. أما الإيداع والنشر العلمي فهو إجراء تنظيمي يُلزم الباحث بإيداع نسخة من أطروحته في مكتبة الجامعة لأغراض الحفظ والأرشفة وفق سياسات المؤسسة.
الملكية الفكرية تمثل الحقوق التي تحمي الفكر والإبداع الإنساني وتشمل حقوق المؤلف وبراءات الاختراع والعلامات التجارية وغيرها. وإدارة الملكية الفكرية في الجامعات هي الجهة المسؤولة عن تنظيم هذه الحقوق وحمايتها واستثمارها بشكل متكامل يضمن تحقيق الفائدة لجميع الأطراف. أما الترخيص الإلزامي، فهو إذن يُمنح للغير لاستغلال المصنف دون موافقة المؤلف، مما يتيح للمؤسسات التعليمية الاستفادة من هذه الحقوق وفق ضوابط نظامية محددة.
في هذا السياق، تعد الاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية أحد أهم أدوات تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030. تهدف هذه الاستراتيجية إلى بناء منظومة متكاملة تدعم الاقتصاد الوطني القائم على الابتكار والإبداع، من خلال تعزيز تنافسية الابتكار وتوليد أصول ملكية فكرية ذات قيمة اقتصادية واجتماعية عالية. كما تسعى الاستراتيجية إلى تحفيز الاستثمار التجاري في المنتجات القائمة على الملكية الفكرية، بما يعزز من قدرة المملكة على جذب الاستثمارات وتوليد العوائد الاقتصادية.
تشهد الجامعات السعودية إنتاجًا غزيرًا من الرسائل العلمية، التي يمكن تحويلها إلى منتجات معرفية تُطبع وتُنشر وتُتاح للجمهور المحلي والعالمي. المقترح المقدم يدعو إلى إنشاء شراكة بين الجامعات والباحثين، يتم من خلالها تقديم خدمات نشر الرسائل في المجلات العلمية، وطباعة المصنفات، وتسويقها، وترجمتها، والترويج لها على المستوى العالمي. يتم ذلك مقابل تخصيص نسبة من العائدات للمؤسسة التعليمية، بما يحقق فائدة مشتركة للطرفين.
هذا التعاون يمكن أن يحقق نقلة نوعية في استثمار الرسائل العلمية من خلال تحويلها إلى موارد اقتصادية ومعرفية. النشر في المجلات العلمية المرموقة يسهم في رفع التصنيف الأكاديمي للمؤسسات التعليمية، كما أن الترجمة والترويج يعززان من سمعة الباحث ومكانته العلمية. انتشار الأبحاث على نطاق واسع يدعم النمو الاقتصادي القائم على المعرفة ويجذب الاستثمارات، مما يبرز دور الجامعات كمؤسسات منتجة للمعرفة تساهم في تنمية الاقتصاد الوطني وزيادة القيمة المضافة. بهذا، يمكن للجامعات السعودية أن تكون في طليعة المؤسسات التي تسهم في تحقيق أهداف رؤية المملكة الطموحة.
والله أعلم وأحكم.
المصدر: صحيفة البلاد
كلمات دلالية: الملکیة الفکریة الرسائل العلمیة الفکریة فی
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية: الحروب الفكرية معاركُ بلا جيوش وميادين بلا مدافع
أكد الدكتور نظير محمد عيَّاد مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، خلال كلمته في ندوة علمية بجامعة سوهاج تحت عنوان: «حرب الشائعات وأثرها على الفرد والمجتمع» أن انتشار الشائعات يمثل أحد أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات الحديثة، فهي تيار جارف من الأباطيل لا يسقط فيه إلا من تخلَّى عن مجداف العقل، ولا ينجو منه إلا مَن احتمى بحصن الوعي، موضحًا أن الإسلام حذَّر من نشر الأخبار دون تحقق؛ حيث قال سبحانه في محكم التنزيل«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» مشددًا على أن نشر الأكاذيب يزعزع استقرار المجتمعات ويفسد العلاقات بين الأفراد، مما يفرض على الجميع مسؤولية تَحرِّي الصدق والوعي بخطورة تداول المعلومات دون تثبُّت.
وأشار فضيلته إلى أن المؤسسات التعليمية تؤدي دورًا محوريًّا في تعزيز الوعي وحماية العقول، إذ إنها ليست مجرد أماكن لتلَقِّي العلوم، بل هي مشاعلُ للفكر ومناراتٌ للتنوير، تبني الأجيال وتصوغ مستقبل الأوطان، موضحًا أن الإسلام جعل طلب العلم فريضة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» (رواه ابن ماجه). وأضاف أن بناء منظومة تعليمية قوية يُسهم في مواجهة التحديات الفكرية، ويُحصِّن الشباب من التأثُّر بالدعايات المُغرِضة والأفكار الهدَّامة.
وتابع فضيلة المفتي، أن الحروب لم تعد تقتصر على المواجهات العسكرية فحسب، بل أصبحت المعارك الفكرية أشد خطرًا، إذ تدور في ميادين العقول بلا مدافع ولا جيوش، لكنها تزرع بذور الشك وتقطف ثمار التبعية والانقياد، وبيَّن أن الإسلام واجه هذه الظواهر بحزم، فحذَّر من التلاعب بالعقول، فقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (إبراهيم: 46)، وأوضح أن بناء وعي حقيقي هو السلاح الأقوى في مواجهة هذه التحديات، مما يستدعي دورًا تكامليًّا بين المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية لتوجيه الفكر المجتمعي نحو الحقائق بدلًا من التضليل؛ حيث إن هذه الحروب الفكرية تستهدف العقول مباشرة وتؤدي إلى زعزعة الاستقرار، مستشهدًا بقول الله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَعْقِلُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا}.
وفيما يتعلق بتأثير الشائعات على الشباب، أكد فضيلة المفتي أنهم الفئة الأكثر استهدافًا في هذه الحرب، فهم يقفون في مفترق الطرق بين حقائقَ تُنير الدَّرْب وأكاذيبَ تَجرُّهم إلى التِّيهِ والضياع، وأن الشباب هم أمل الأمة ومستقبلها، لذا فإن تحصينهم بالفكر السليم والمعرفة الرصينة ضرورة لا بد منها، مستشهدًا بقول الإمام علي رضي الله عنه: «إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما أُلقِي فيها من شيء قَبِلَتْه». وحذر من خطورة الانجراف وراء الدعايات المُضلِّلة التي تحاول زعزعة الثقة بالنفس والمجتمع، داعيًا إلى تعزيز روح النقد البنَّاء والتأكد من صحة المعلومات قبل تصديقها أو نشرها.
وتطرَّق فضيلة المفتي إلى قضية الانتحار باعتبارها نتيجةً للحظة انهيارٍ داخلي، حين يطغى سوادُ اليأس على نور الرجاء، وتتلاشى نوافذ الأمل أمام رياح القنوط العاتية، وأكد أن الإسلام شدد على قدسية الحياة، فقال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء: 29)، وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» مضيفًا أن اليأس ليس حلًّا، بل لا بد من مواجهة المشكلات بالإيمان والتفاؤل والسعي إلى الحلول، مؤكدًا أهمية الدعم النفسي والاجتماعي للشباب، وضرورة نشر ثقافة الأمل والصبر والتوكل على الله في مواجهة التحديات.
واختتم فضيلة المفتي كلمتَه بالدعوة إلى بناء وعي مجتمعي مستنير يقوم على الحقيقة والعلم، مؤكدًا أن المسؤولية في التصدِّي للشائعات وحروب الفكر لا تقع على جهة واحدة، بل هي مسؤولية مشتركة بين العلماء والمُرَبِّين والإعلاميين والمجتمع بأسره، من أجل تحصين العقول وحماية الأوطان من أي محاولات تستهدف زعزعة استقرارها وتشويه وعي أبنائها.
من جانبه، أشاد الدكتور حسَّان النعماني، رئيس جامعة سوهاج، بالدور التنويري الذي يقوم به فضيلة المفتي، موضحًا حرص الجامعة على التعاون مع علماء الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، لمواجهة القضايا الفكرية والمجتمعية مؤكدًا أن الشائعات ظاهرة قديمة قِدَم الإنسان، وقد تكون سياسية أو اقتصادية أو دينية.
وفي لَفتَةِ شُكرٍ وتقدير، قدَّم الدكتور حسان النعماني دِرعَ الجامعة لفضيلة المفتي؛ تقديرًا لجهود فضيلته، ثم قام فضيلته بتكريم حفَظَة القرآن الكريم من أبناء الجامعة
حضر اللقاءَ الدكتور خالد عمران، نائب رئيس الجامعة لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة، والأستاذ الدكتور عبد الناصر ياسين، نائب رئيس الجامعة لشئون التعليم والطلاب، بالإضافة إلى لفيف من أعضاء هيئة التدريس والطلاب بالجامعة.