د. عبدالله الأشعل **

يُقصد بالثنائيات التي يضيع الصراع فيها العالم العربي والإسلامي هي الصراع بين القوميين والإسلاميين، وبين القُطرية والقومية، وبين الناصريين والإخوان المُسلمين، وبين العلمانية والإسلام، وبين الشيعة والسنة، وبين العروبة والأقليات الإثنية غير العربية، وبين الأقليات الدينية مقارنة بالإسلام كما يفهمه عامة النَّاس.

1- الصراع بين القوميين والإسلاميين. هناك صراع حقيقي بين الطرفين وظهر ذلك في قمته عام 1967 عندما وقعت المأساة في مصر والعالم العربي والإسلامي وتغول المشروع الصهيوني وتسبب فيما تلى ذلك من تطورات مؤسفة انتهت إلى رهن إرادة العالم العربي والإسلامي، وكشفت ذلك ملحمة غزة التي لم يهب العرب والمسلمون لنجدتها وإنقاذها من الإبادة التي تمارسها إسرائيل بأسلحة أمريكية وتحييد أمريكي للعرب والمسلمين، وكأن إسرائيل انفردت بغزة. وما دام المحيط العربي والإسلامي مقيدًا إرادته فإن العالم كله من ورائه لن يفعل شيئاً والنتيجة هي حرية إسرائيل في إبادة الشعب الفلسطيني أمام مرأى ومسمع المسلمين والعرب أمام العالم كله مادامت الولايات المتحدة ضمنت لإسرائيل حرية العمل بخمسة ضمانات.

الأول هو تحييد المحيط العربي والإسلامي. والثاني حماية جرائم إسرائيل في الأمم المتحدة رغم تقارير الأمم المتحدة وهيئاتها العاملة في فلسطين وفي خارجها التي تحث الأمم المتحدة على اتخاذ موقف حازم يوقف الإبادة في غزة. والثالث تقديم الأسلحة الفتاكة المحرمة دوليًا واللازمة لعملية الإبادة؛ فالولايات المتحدة شريكً كامل لإسرائيل في الإبادة. وقد أوضحنا في مقال سابق أن الولايات المتحدة تمارس هذا العمل حنينًا تاريخيًا إلى الإبادة الواسعة التي مارسها الأنجلوسكسون في أمريكا الشمالية بعد اكتشافها عن طريق كريستوفر كولمبس. والرابع يتمثل في إمداد إسرائيل بالأموال اللازمة لدعم اقتصادها الذي تهاوى بسبب طول مدة حرب الإبادة. والخامس إعاقة أي تسوية أو أي وقف لإطلاق النار؛ سواء من خلال المحادثات أو في مجلس الأمن، مع إيهام العالم بأنَّ أمريكا حريصة على المدنيين الذين تقتلهم بيد إسرائيل بأسلحتها.

ولذلك طالبنا- في مقال سابق- بأن تصدر الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا باعتبار أمريكا وإسرائيل عدوًا للبشرية؛ وهي مرتبة قصوى بعد وصف إسرائيل بأنها تمارس التطهير العرقي والتمييز بين سكانها من الصهاينة والفلسطينيين؛ حيث أصبحت هذه الأوصاف محتملة، وتدعو إلى تجاوزها إلى المرتبة التي أشرنا إليها. وفي مقال سابق أيضًا، قدمنا عريضة اتهام ضد الولايات المتحدة بتدمير القانون الدولي والاستخفاف بالأمم المتحدة في فلسطين والعالم العربي، وقدمنا أيضًا أدلة الاتهام في هذا الصدد، والمطلوب أن تُترجم هذه الوثيقة وتقدم إلى المحكمة الجنائية الدولية- التي تحاربها الولايات المتحدة- كي تصدر أمرًا بالقبض على الرئيس الأمريكي جو بايدن، حيثما حلَّ؛ باعتباره رأس الإدارة الأمريكية الفيدرالية، على غرار ما أصدرته المحكمة الجنائية الدولية من أمر بالقبض على بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت، وكان يجب أن تصدر المحكمة أمرين في وقت واحد باعتبارهم الثلاثة- أي نتنياهو وجالانت وبايدن- شركاء في حرب الإبادة، وكل منهم له دور أساسي في المشروع الإجرامي.

لقد اعتبر التيار الإسلامي هزيمة مصر في عام 1967 هزيمة للتيار القومي وعقابًا من الله للقوميين العلمانيين، والصحيح أنَّ مأساة 1967 كان لها أسباب أخرى لا تدخل في الصراع بين الطرفين؛ فمصر هي التي هُزمت، والقوميون والإسلاميون أعضاء في المجتمع المصري يلحقهم جميعًا عار المأساة وهم جميعًا انتظموا عام 1973 لتصحيح الموقف مع إسرائيل. صحيحٌ أن الطرفين يكرهان إسرائيل ولكن الكُره والحقد الذي يُكنه كل طرف للطرف الآخر عبث، وأكبر من الحقد على إسرائيل. ولا بُد من التركيز على مصر باعتبارها قلب العالم العربي والإسلامي وأن الصراع بين الطرفين يبدد الجهود الواجب تركيزها لسلامة مصر.

2- الصراع بين الناصريين والإخوان المسلمين. هذا الصراع لايزال قائمًا لمجرد أن عبدالناصر رأس التيار القومي تصادم مع الإخوان المسلمين. والواقع أنه صراع على السلطة بين عبد الناصر والإخوان، وقد مات عبد الناصر وتبعثر الإخوان، فما لزوم امتداد الصراع بين ما يسمون بالناصريين ويرفعون قميص عبدالناصر وبين من ينتمون إلى الإخوان المسلمين؟ فقد تجاوزهم الزمن ومصر أصبحت في وضع لا يسمح باستمرار هذا الصراع.

3- الصراع بين الشيعة والسُنَّة. هذا الصراع تسلطه أمريكا والغرب وإسرائيل على العقول الضعيفة من المسلمين؛ فالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهما المصدران الوحيدان للتشريع الإسلامي ليس فيهما إسلام شيعي وإسلام سُنِّي.

وبالتطبيق كان شاه إيران شيعيًا، ومع ذلك كان خادمًا للولايات المتحدة، وكانت هناك شراكة بين الشاه والسعودية لحفظ أمن الخليج، وهو مصطلح مخترع من جانب الغرب للجباية ونهب أموال الخليج، وكان الشاه متزوجًا من الأميرة فوزية أخت الملك فاروق (ملك مصر) وكانت سُنِّية.

وعندما قامت الثورة الإسلامية في إيران لم تقم ضد العرب والمسلمين السنة، وإنما الشيعة والسنة مصطلح تآمري، وكلاهما حدائق تثري الفكر الإسلامي، والذين تصدوا للفرق بين الشيعة والسنة كانوا متطرفين وبلا عقل. وهذا هو الفصيل الذي تريده إسرائيل والغرب، وعندي أن الذي هو ضد إسرائيل والغرب حليف لي، بقطع النظر عن اتجاهه الديني؛ فالمسألة كلها سياسية وليست دينية.

فالثورة الإسلامية في إيران بدأت منذ اليوم الأول ضد أمريكا وإسرائيل؛ وهما أعداء المسلمين والعرب؛ بل أعداء البشرية جمعاء، واستجابة بعض السذج لهذه الفتنة تُضيِّع المسلمين والإسلام. صحيح أن مذاهب السنة تختلف فكريًا عن مذاهب الشيعة، لكن القواسم المشتركة الأساسية واحدة؛ فالله واحد والرسول صلى الله عليه وسلم واحد، والقرآن واحد، وأركان الإسلام واحدة، وما وراء ذلك تفاصيل واختلافات فقهية.

4- الصراع بين القُطرية والقومية. اشتد الصراع بين الطرفين في ظل القومية الجامحة، علمًا بأن هذه القومية تفتقر إلى الأساس العلمي والعقلي وتنساق وراء العاطفة والشعارات النارية التي أطلقها زعماء التيار القومي؛ فالقطرية كانت في نظر القوميين تعني الانفصال والغنم الشاردة والخارجين عن الجماعة يوم سادت شعارات هابطة كوحدة الصف بديلاً عن وحدة الهدف والأصل وكان ينظر إلى القوميين من جانب القطريين على أنه اغتصاب للسلطة في بلدهم ولهذا فرح الانقلابيون في سوريا عندما انحلت الوحدة المصرية السورية عام 1961، ويتردد أن تورُّط مصر في اليمن تم بسبب شعور عبدالناصر أنه جُرح وظل اسم الجمهورية العربية المتحدة حتى بعد انفصال سوريا لغاية عام 1971، عندما ضاق أنور السادات بما فعله عبدالناصر وأصدر دستور 71 علمًا بأنَّ مصر شهدت دستورًا لكل رئيس.

والصحيح أن الصراع بين القومية والقُطرية وَهْمٌ كبيرٌ وعبثٌ لا طائل من ورائه، وأن القومية يجب أن تسعد بالقُطرية؛ لأن كل الدول العربية ورودٌ في حديقة العروبة، وكلما اختلفت ألوان هذه الورود ورائحتها، كانت حديقة العروبة غناء، ولذلك ليس هناك تناقض بين القومية العاقلة التي لا تطمس هويات الأقطار وبين هذه القُطرية.

5- الصراع بين القومية والإثنيات المختلفة. كلما كانت القومية جامحة ويديرها نظام مُستبد، أعلت شأن العروبة بحيث لا تعترف بالإثنيات الأخرى، وهذا ما حدث بالنسبة للأقليات الإثنية في العالم العربي، والحل أن تكون الدولة ديمقراطية يتساوى فيها كافة المواطنين، بقطع النظر عن أصلهم العرقي أو الثقافي؛ فالعروبة ثقافة وليست عرقًا، ولهذا السبب اصطدمت العروبة بالإثنيات، مثل أكراد العراق وسوريا، والمطلوب أن يتغير الفكر القومي بحيث يشمل ويحتضن كل الإثنيات داخل الدولة الواحدة وأن يكون مبدأ المواطنة مطبقًا بالفعل في جميع الدول العربية.

6- الصراع بين العلمانية والإسلام. يرجع هذا الصراع إلى عدم فهم الإسلام والعلمانية؛ فالإسلام نفسه يعرف العلمانية كما إن العلمانية لها تطبيقات متعددة تصطدم بالإسلام عندما تُنكر العلمانية الدين، كما حدث فى مذهب كمال أتاتورك المأخوذ من العلمانية الأوروبية، خاصة في سويسرا. العلمانية الأوروبية نشأت في تربة وفي ظروف ومناخ مختلف تمامًا، ونحن أخذنا البذرة الأوروبية الخاصة وزرعناها في أرضنا ولم نلتفت إلى الفوارق بين الأصول والفروع. العلمانية في أصلها تعتد بالعلم وبالعقل وحرية العبادة، والإسلام يحث على التفكير العقلي؛ فهو دين العقل. وبهذه المناسبة فإن الشيعة يغلبون العقل على النقل أما السُنَّة فيغلبون النقل على العقل. ولكن في كل الأحوال لا بُد أن تكون أصول المسألة محكومة بالكتاب والسنة؛ فالمسلمون اليوم مطالبون بفهم دينهم وإدراك أن قيم دينهم تستوعب كل الثنائيات.

7- التناقض بين الإسلاميين والأقليات الدينية في العالم العربي والإسلامي. وسبب هذا الصراع يرجع إلى عدم فهم الطرفين للإسلام؛ فالإسلام جامع لجميع الشرائع السماوية من اليهودية إلى الشريعة الإسلامية، أما القرآن الكريم فهو آخر تجليات السماء إلى أهل الأرض، وهو الكتاب الجامع، ولا يمكن المقارنة بين الكتب المقدسة؛ لأن هذه سذاجة وجهل بالحقائق؛ حيث إن القرآن الكريم حافل بالإشارة إلى الرسالات السابقة والشرائع السابقة، ولذلك يجب أن نتأمل الآية الكريمة التي تقول "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" (المائدة: 3)، والآية الأخرى: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ" (آل عمران: 19)، وآية "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (آل عمران: 85)، ويترتب على ذلك أن الإسلام مكون من مجموعة من الشرائع المتكاملة وأساسها التوحيد من آدم إلى رسولنا الكريم؛ ولذلك ليس هناك أديان، ولا يجوز القول بمقارنة الاديان. أما الشرائع الأرضية وما يسمى بالفلسفات البشرية كالبوذية والكونفوشية والهندوسية وغيرها التي تحض على مكارم الأخلاق، يتسامح الإسلام بشأنها، لكن الفارق بين الإسلام والرسالات السماوية، أي أهل الكتاب، وبين الشرائع الأرضية، هو الشهادة لله ولرسوله، أما القول بالقطيعة بين المسلمين وهذه الشرائع، فإنه ضد الدين وضد شريعة الإسلام.

** أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية المصري سابقًا

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

زيلينسكي يريد ضمانات أمريكية وإنهاء الصراع في عام 2025

قال الرئيس الأوكراني المنتهية ولايته فلاديمير زيلينسكي إن بلاده ترغب في الحصول على ضمانات أمنية من الولايات المتحدة وإنهاء الصراع مع روسيا في عام 2025.

جاء ذلك وفقا لتصريحات زيلينسكي لقناة Rainews24 الإيطالية، حيث تابع: "هدفنا هو الحصول على ضمانات أمنية جدية لأوكرانيا وأوروبا"، مشيرا إلى أنه يتعين على الولايات المتحدة أن "تمارس الضغط على روسيا وتمنح أوكرانيا وأوروبا ضمانات أمنية".

وكانت نائبة المتحدث باسم البنتاغون سابرينا سينغ قد قالت في وقت سابق إن الولايات المتحدة لن تملي على أوكرانيا شروط إنهاء الصراع، وتترك الأمر لزيلينسكي لاتخاذ القرار بشأن محادثات السلام. وكما ذكر كيث كيلوغ المبعوث الأمريكي الخاص للرئيس المنتخب دونالد ترامب فإن الرئيس سيكون قادرا على التوصل إلى حل للصراع الأوكراني في المستقبل القريب كجزء من المفاوضات المقبلة مع الزعيمين الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فلاديمير زيلينسكي.

وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد صرح في وقت سابق أن موسكو على استعداد لوقف إطلاق النار على الفور وإعلان المفاوضات بعد انسحاب القوات الأوكرانية من الأراضي المنضمة حديثا إلى روسيا، وأضاف أن كييف يجب أن تعلن تخليها عن نواياها الانضمام إلى حلف "الناتو" وتنزع سلاحها وتجتث النازية، وتقبل بوضع الحياد وعدم الانحياز وعدم امتلاك الأسلحة النووية، إضافة إلى رفع العقوبات المفروضة على روسيا.

وبعد الهجوم الإرهابي على مقاطعة كورسك قال بوتين إنه من المستحيل التفاوض مع الذين "يضربون المدنيين والبنى التحتية المدنية على نحو عشوائي، ويحاولون خلق تهديدات لمنشآت الطاقة النووية

مقالات مشابهة

  • الأمن والتنمية في العالم العربي
  • السودان.. هل تنجح الجهود الدولية في وقف الحرب بالبلاد؟
  • زيلينسكي يريد ضمانات أمريكية وإنهاء الصراع في عام 2025
  • ماسك: ترامب سينهي الحرب الروسية الأوكرانية بسرعة كبيرة
  • العربي للدراسات: التحركات الإسرائيلية داخل سوريا أقصتها من الصراع الإقليمي لسنوات
  • جيروزاليم بوست: الصراع بين كاتس وهاليفي يضعف أمن إسرائيل
  • الفلسطيني فتحي عبد الرحمن في يوم المسرح العربي بمسقط
  • الإمارات تدرج 19 فرداً وكياناً مرتبطين بالإخوان المسلمين الإرهابي على قائمة الإرهاب المحلية
  • «الشراكة».. الهُوية التي نذهب بها نحو العالم