فاز بجائزتي كتارا ونجيب محفوظ.. محمد طرزي: لا أعرف إبداعا أدبيا ارتبط بالفرح
تاريخ النشر: 11th, January 2025 GMT
محمد طرزي روائي لبناني فاز بجائزتين أدبيتين العام الماضي؛ الأولى جائزة كتارا، في أكتوبر/تشرين الأول 2024، وبعد أقل من شهرين فاز بجائزة نجيب محفوظ. اللافت أن الجائزتين كانتا عن العمل نفسه، وهو رواية "ميكروفون كاتم صوت"، مما يؤكد تميز هذه الرواية الاجتماعية الواقعية.
يعرض هذا العمل للمشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان ما بين عامي 2018-2022، فضلا عن اضطرابات وحراك اجتماعي لم ييأس ولم يهدأ.
تحدث طرزي في حواره مع الجزيرة نت عن الإلهام وراء كتابة روايته، وأن لبنان كان دافعه الأساسي، مثيرا تساؤلات حول العلاقة الضمنية بين الإبداع والمعاناة في عالمنا العربي، ومؤكدا على أن الجائزة لا تخلق مبدعا.
يُذكر أن رواية "ميكروفون كاتم صوت" قد لاقت إشادة واسعة من النقاد والقراء على حد سواء، وتُعتبر إضافة نوعية للأدب العربي المعاصر الذي يتناول قضايا الساعة بحساسية وعمق. إلى الحوار:
قلت إن واقع لبنان النازف هو سبب كتابتك للرواية الفائزة بجائزتي كتارا ونجيب محفوظ، قبل أيام، فما رؤيتك للعلاقة الضمنية بين الإبداع والمعاناة في عالمنا العربي؟ إعلانأهمّ الروايات العربية المعاصرة هي تلك التي تناول كُتّابها معاناة دولهم. لبنان واحد من تلك الدول، وهو يتلوّى في أتون الأزمات منذ عام 1975. أمّل الناس مع انتهاء الحرب الأهلية بناء دولة القانون والانفتاح والحريات، لكنّ أمراء الحرب الذين أمسكوا مفاصل الدولة ما لبثوا أن أجهضوا أحلام اللبنانيين، ولعلهم أساؤوا لنا في السلم أكثر مما فعلوا في الحرب. لم يعيدوا بناء المؤسسات، وهدروا المال العام بجشع لا نظير له، حتى وصلنا إلى الانهيار الشامل نهاية 2019. في رواية ميكروفون كاتم صوت، أتحدّث عن معاناة أهلي في تلك المرحلة. بهذا المعنى، المعاناة هي كنه روايتي، وهي لذلك استطاعت ملامسة شغاف القرّاء، لا سيما أولئك الذي يحبون لبنان، وهم كثر. الرابط بين الإبداع والمعاناة قوي، ولا أعرف إبداعًا أدبيًّا ارتبط بالفرح.
عبر كوميديا سوداء حارقة ورصد واقعي لما آل إليه حال اللبنانيين اليوم، يكتب محمد طرزي في روايته واقع الانهيار الشامل الذي يمر بوطنه على حاضر بطله "سلطان" ومستقبله (الجزيرة) الجائزة لا تخلق مبدعا لكنها في الوقت ذاته توسع دائرة الفرص.. بالعودة إلى بداياتك ما أبرز الصعوبات التي واجهتها؟ وكيف تذلل الجوائز مثل تلك الصعوبات؟تسلط الجائزة الضوء على العمل الأدبي. فاليوم، بسبب ضيق الوقت، وكثرة العناوين المنشورة، يفتّش القارئ عن كتاب حظي بتكريم معين لاعتقاده أن ذلك يجعله بمأمن من خيبة الأمل، فلا يضيع وقته في قراءة ما لا ينفعه. بهذا الإطار، تختصر الجائزة طريقًا طويلًا كان على الكاتب أن يسلكه للوصول إلى القرّاء. فإقناع القارئ باقتناء عمل أدبي من أبرز الصعوبات التي يواجهها الكاتب، خاصة في بداياته.
المقبرة ساحة لمحاكمة الواقع.. لماذا وصل الحال إلى هذا المأزق؟شبّهتُ الواقع اللبناني بالمقبرة قبل العدوان القائم، فكيف يبدو المشهد اليوم! يا لها من مأساة ألّا يعرف وطني السلام على مدى نصف قرن من الزمن. أمور كثيرة أوصلتنا إلى هذا المأزق، من بينها وجود النظام العنصري على حدودنا، الطائفية التي تتيح للفاسدين من أمرائها تضليل الناس وتخويف بعضهم من بعض، فضلًا عن تدخل الدول الغريبة لفرض أجندتها الإقليمية، من دون مراعاة لتركيبة البلد وثقافاته المتعددة.
لم يحظ المحرر الأدبي بمكانته المعهودة مقارنة بالغرب.. هل أنت مع تدخل المحرر في النص؟ ما حدود ذلك؟أرحب دائمًا بالتدخّل الفنيّ للمحرّر. إذ إن العمل الأدبي عمل جماعي، يساهم في إخراجه النهائي عدة أطراف: الكاتب، المحرر، المدقق، وصولًا إلى مصمم الغلاف. إن احترام ذائقة القارئ ووقته يستوجب التعاون الجاد مع محرر محترف، وأخذ ملاحظاته بعين الاعتبار.
إعلان عطفا على السؤال السابق.. في الآونة الأخيرة انتشرت كتابات ركيكة اللغة والأسلوب بدعوى التماهي مع الواقع.. ما رأيك في ذلك؟أؤيّد التجريب والتماهي مع الواقع. فإن الكاتب، في النهاية، ابن زمانه، لكن ذلك لا يعني التعبير عن الواقع بلغة ضعيفة. إذ لا علاقة بين الأمرين. التماهي مع أدوات العصر الجمالية لا تمت إلى الركاكة بصلة.
استدعاء التراث لا يقصد به اجترار الماضي، إنما يوظف لخدمة الواقع.. كيف تتعامل مع التراث العربي والإنساني لتقديم عالمك الروائي الخاص؟استدعيتُ التراث في رواية "رسالة النور"، والغاية من وراء ذلك قراءة واقع مضطرب تمثّل في اندلاع احتجاجات ما عُرف بالربيع العربي. بناء عليه، عرضتُ آراء عبد الحميد الكاتب وابن المقفع خلال الثورة العباسية على الحُكم الأموي، في محاولة لفهم الحاضر، واتخاذ موقف منه.
من خلال ثلاثية أفريقيا نلاحظ أن الاتكاء على المخطوطات وعالَمَي التاريخ والجغرافيا يستنزف الكاتب ويتطلب استعدادا ذهنيا عاليا.. كيف يمكن للمبدع أن يمسك بتلابيب هذه المسارات ويوظفها بتناغم سلس في ظل واقع مربك ومتشابك؟فيما عنى ثلاثية أفريقيا، فإن ما دفعني إلى كتابتها إقامتي في شرق أفريقيا، وتعرّفي بحكم الإقامة إلى الإرث العربي في تلك المنطقة. في عام 2011، انتبهتُ أن أحدًا لم يكتب نصًّا روائيًّا عن تاريخ العرب في شرق أفريقيا، فعمدت إلى توسيع اطلاعي عبر بعض القراءات. بما أن أغلب ما كُتب عن تلك المرحلة عبارة عن خطوط عريضة، فكان لا بدّ من ملء المساحات الفارغة بالخيال، هكذا ولدت ثلاثية أفريقيا. ما أودّ قوله هنا، أنني لم أُستنزَف بحثيًّا لكتابتها، بل استفدتُ من وجودي في تلك المنطقة. إذ لا أميل إلى الكتابة الأدبية المستندة إلى الأبحاث والدراسات فقط. الكتابة الفنية تتطلب أن يكون الكاتب على تماسّ مع الأمكنة والناس.
إعلان في "رسالة النور" لجأت إلى ثنائية الاشتباك مع السلطة والتماهي معها… ما دلالات توظيف ابن المقفع وعبد الحميد الكاتب لهذه المهمة؟ وما انعكاس ذلك في حاضر المنطقة العربية؟كان عبد الحميد الكاتب وابن المقفع صديقين بالرغم من مقاربتهما المختلفة لعلاقة المثقف بالسلطة ورؤيتهما المغايرة لثورات الشعوب. لم أنحز لأي منهما، بل اكتفيت بعرض أفكارهما، في سياق حوار أدبي هادئ. كما أسلفتُ، هذه الرواية محاولة لفهم حاضر ذاك الوقت (2015) عبر إعادة قراءة الماضي.
لو جنح بنا الخيال إلى تولي ابن المقفع المنصب الشاغر في لبنان منذ أكثر من سنتين.. برأيك هل ينجح في تطبيق المبادئ التي نادى بها في "رسالة الصحابة"؟بالرغم من مرور أكثر من 12 قرنا على "رسالة الصحابة"، غير أن كنهها القائم على مبدأ الفصل بين السلطات لا يزال مطلبًا أساسيًا لبناء دولة معاصرة. هذا ما نفتقده في لبنان، فالسلطة التشريعية تتعدى على التنفيذية، فيما تتدخل الحكومة في عمل القضاء، لكنّ ذلك جزء من المشكلة، ففي لبنان، لدينا أزمة نظام وأعراف معقدة، تحول دون حل مشاكله والخروج من مأزقه.
تنوعت أعمالك الروائية لتجسيد هموم الإنسان العربي عامة.. ما أبرز ملامح مشروعك الروائي من وجهة نظرك؟تبدّلت ملامح مشروعي الأدبي بحسب كل مرحلة. في البدء أردتُ الكتابة عن عرب شرق أفريقيا، عبر محطات تاريخية مختلفة. ثم مع اندلاع احتجاجات الربيع العربي، وجدتُني أعود إلى التراث في سَعي لفهم واقع عربي مستجد معقد. بعد الانهيار الشامل لوطني، انكببتُ على نقل معاناة شعبي عبر نصّ اجتماعي. إن كان هناك ملمح مشترك بين تلك الأنواع الأدبية فهو الاهتمام بمعاناة شعوب منطقتنا، على اختلاف توجهاتها الثقافية، وإيماني بقدرتها على بناء مشروع موحّد في إطار من التماهي مع التراث واحترام حقوق الإنسان.
إعلان تراجع دور النقد سمة ملحوظة تؤرق المبدع العربي.. كيف يسهم المبدع في تعويض هذا التراجع؟يتراءى لي اليوم أن النقد عبارة عن محاباة من جهة، ومناكفات شخصية أو عقائدية من جهة أخرى. وهذا بالفعل من سمات تراجع النقد. لا يستطيع المبدع أن يعوّض هذا التراجع، وإنما على النقاد أن يمارسوا دورهم لتقويم المشهد الأدبي والمساهمة في خلق الإبداع.
تأسيسا على رحلتك في دنيا الكتابة الإبداعية.. ما الوسائل التي يتعين على محبي الكتابة إتقانها ليدخلوا عالم الإبداع والتميز؟لا نصائح لي في هذا المجال. أرى أن الوسائل التي يتوخاها الكاتب لصناعة نصّه تختلف من شخص للآخر. فضلًا عن أن نمط حياة المرء يلعب دورًا أساسيًّا في هذا الإطار. بالنسبة إلي، كثيرا ما كانت القراءة مفتاح الكتابة. كذلك الانفتاح على النقد وآراء القراء.
محمد طرزي خلال تسلمه جائزة كتارا للرواية العربية في أكتوبر/تشرين الأول 2024 (الجزيرة) يحدث أن يأخذ الجمهور عملا ما للأديب فيجعله أسيرا له.. يقارن باقي أعماله بذلك العمل.. هل حدث معك شيء من ذلك؟ كيف تتعامل مع تنميط المبدع (الكاتب) وتصنيفه في سياق بعينه؟أحبّ القرّاء رواية "جزر القرنفل"، وهي الرواية الأولى في ثلاثية أفريقيا، وظلوا يقارنونها بما لحقها من روايات، معبرّين عن انحيازهم الدائم لها.
يُربك الكاتب تنميطُه في إطار نوع أدبي معين، بحيث يصبح أسير هذا النوع. على المستوى الشخصي، لا أجدني معنيًّا بهذا التنميط، إذ إن معظم رواياتي في التخيّل التاريخي، وحين انتقلت مع "ميكروفون كاتم صوت" إلى الرواية الاجتماعية حققت انتشارًا أوسع.
هل تؤمن بطقوس الكتابة؟ ولماذا؟طقوس الكتابة تعبير مجازي شائع وسط الكُتّاب، يقصد به الأجواء التي يوفرها الكاتب لنفسه بغية الكتابة بأريحية. وهي أمر نسبي يختلف من كاتب لآخر، فهناك من يكتب ليلًا في حديقته، وآخر يجلس فجرًا إلى مكتبه مع كوب من الشاي، وهذا ما أفعله.
إعلان ما أبرز التحديات التي تواجهك عند بداية كتابة عمل جديد؟ وكيف تتغلب على ضيق الوقت وقفلة الكاتب؟لدي دائمًا أفكار لروايات جديدة، والتحدي يكمن في الاختيار من بينها. غالبًا ما تلعب الأحداث الجارية الدور الأبرز في هذا الاختيار. ضيق الوقت مشكلة، خاصة عندما أنتقل إلى بلد جديد في سياق عمل تجاري جديد لكنني أجد الوقت دائمًا لمواصلة مشروعي الأدبي. بالنسبة إلى قفلة الكاتب، فأنا لا أقاومها ولا أكتب حين لا تتملكني الرغبة للقيام بذلك.
عادة ما يواجه الأدباء مواقف طريفة مع الجمهور سواء في اللقاءات المباشرة أو عبر المنصات.. حدثنا عن بعض تلك المواقف؟أجريتُ خلال معرض أبوظبي للكتاب 2016 ندوة عن رواية جزر القرنفل. بعدها توجهت إلى الصالة التي يُكرّم فيها واحد من الروائيين الكبار بوصفه شخصية العام الثقافية. اقتربت من ذلك الروائي، وهو من المفضلين لدي، في سعي لاتخاذ صورة معه، وإذ بشاب يتقدّم بلهفة منّا، طالبًا أخذ صورة، فابتعدت عن الكاتب الكبير، كي أتيح للشاب اتخاذ صورة معه، لكنه ما لبث أن أشار إلى رغبته في أخذ الصورة معي، وليس معه. علمًا أنني كنت في بداية مشواري الأدبي. فهمت لاحقًا أن الشاب الذي حضر ندوتي، كان يفتش عني طيلة الوقت، وقد فاته أن يتعرّف إلى الكاتب الذي يتوق الجميع لاتخاذ صورة معه.
ما السؤال الذي تود أن يطرح عليك؟ ولماذا؟طرحتَ جميع ما قد يطرأ على بالي. أشكرك على الأسئلة الغنية التي تنمّ عن اطلاع واسع على سيرتي ومجمل ما كتبت.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات ثلاثیة أفریقیا محمد طرزی فی لبنان التی ی
إقرأ أيضاً:
العملاق مصطفى بيومي.. أديب عشق الكتابة وموسوعي أدمن القراءة وناقد يزن حروفه بميزان الذهب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
فقيرة تلك اللغة التى لا تٌنبت صبارًا أو ريحانًا على قلوب تآلفت، تحابت، انصهرت واندمجت حتى صارت قلبًا واحدًا ثم تفتتت على صخرة يسمونها سنة الحياة، مزقها جبروت الذى يطلقون عليه "الحقيقة الوحيدة" فى هذه الدنيا! أحببت الأستاذ مصطفى بيومى كما لم أحب أحدًا بعد والدي، واستمعت إليه بشغف، تتلمذت على يديه دون أن يقصد هو ذلك أبدًا. أستمع إليه عبر الهاتف فأدون ما يقول بالحرف، اجتمع معه فى صحبة دون ثالث، يشاطرنا المحبة والأنس والسمر، فتتحول ذاكرتى الهشة إلى حافظة واعية لكل كلمة نبس بها أستاذي، فأعود إلى بيتى ناثرًا كل ما رٌزقت به من اللآلئ والنفائس على صفحات أجندتى الأثيرة فلا تضيع هذه الكنوز أبدًا.
الأستاذ مصطفى بيومى هو الإنسان البسيط؛ "إنسان" بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان عظيمة وسمو جعل الله الملائكة تسجد له! إنسان لا حد لوضوحه، لا نهاية لعطائه، أديب عشق الكتابة، موسوعى أدمن القراءة، ناقد يزن حروفه بميزان الذهب، جاد حد الصرامة، متواضع دون ابتذال، اعتاد السكينة، يعشق الجمال، معطاء، ربما يجور على نفسه وحقه كثيرًا!
يقرأ ويكتب فى خلوته المقدسة، ناسكًا متعبدًا، لا يروم إلا الصفاء والهدوء، لا يرجو من دنياه إلا أن يظل ممسكًا بقلمه، ليكتب حتى يلقى ربه! الكتابة شغفه، عشقه الأول والأخير، لا يسعى إلى مجد أو شهرة، يحترف الصمت، ينصت باهتمام، ينصح بإخلاص، لا يريد جزاءً ولا شكورًا.
لا أستطيع أن أضع "كان" فى جملة على شرفها يتربع الأستاذ هادئًا مطمئنًا. فليس إنصافًا أن نتجاوز فى حق مَن أعطى كل سنوات عمره للفكر والإبداع والثقافة والوطن دون انتظار لمردود أو مكاسب أبدًا فنعده من "الأموات" وننكر خلوده!
"ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون".. وأنا "على حسن" أشهد الله على أن هذا الإنسان العظيم جاهد فى سبيل الكلمة، بذل جٌل ماله من أجل الكتاب والثقافة، عمل بكل طاقته من أجل أمة يؤمن إيمانًا راسخًا بأنها "الأمة المصرية" تستحق كل ما هو أفضل وأعظم مما هى فيه.
لم يكتف العملاق مصطفى بيومى بطاقاته الجبارة فى المثابرة والمداومة المذهلة على القراءة والكتابة فى صومعته، فإذا به يتجاوز طاقته هذه إلى الحد الذى لم يحتمل بنيانه الضعيف وجسده الضئيل وعزوفه عن الطعام لساعات طويله، واكتفائه بالتدخين والكافايين من شاى وقهوة فانهار هذا الجسد ولم يصمد طويلًا أمام أحلام جبارة ورغبات مهولة يريدهما صاحبه الجبار، ويطوق إلى تحقيقهما!
إنه الأستاذ مصطفى بيومي؛ الذى كتب الله لى أن أصبح أحد تلاميذه المخلصين، وهو ينكر أن له تلاميذ!
ليس لأنه لم يكن أستاذًا لكل الذين اقتربوا منه، ينهلون من علمه وأدبه وثقافته الموسوعية، وإنما لتواضعه، حد إنكاره أنه أستاذ، له حواريون!
ينكر أستاذيته فيقول: (.... ليس لى تلاميذ أبدًا. لم أفكر يومًا فى هذا، بل ليست مطروحة فى مخيلتى نهائيًا، بل العكس صحيح، لو أن هناك علاقة تجمع بينى وبين شخص، يصغرنى بثلاثين عامًا فى المجال الثقافي، فإنى أتعلم منه، التعليم المتبادل هو الأصح والأهم. إذا تفوقت على هؤلاء الشباب بالقراءة والثقافة بحكم السن، فإن هؤلاء الصغار على وعى عظيم بإيقاع الحياة، لأنهم الأصغر سنًا، والأقدر على التكيف، وهى ميزة مهمة، ربما لا نستفيد منها. إن فكرة الأستاذية فى المجال الأدبى أو النقدي، غير جيدة؛ ربما تكون مقبولة فى المجال الأكاديمي، حين تناقش رسالة الماجستير أو الدكتوراة مع أستاذك، فتتأثر به وبفكره، مثل شكرى عياد، لويس عوض، عز الدين إسماعيل، عبد المحسن طه بدر، كل هذه الأسماء العظيمة، تستطيع بحكم وظيفتها الأكاديمية، أن تمارس الأستاذية على طلابها داخل الجامعة، لكن نجيب محفوظ مثلًا، وهو مَن هو فى الأدب والرواية، هل له تلاميذ؟ الحقيقة أن نجيب محفوظ أب كبير، والحقيقة أيضًا أنه يُخَرِّج لنا أبناء كثر، لكنهم مختلفون عنه، وهذا أعظم ما فيه. الخراب العظيم حين يحب الابن والده فيقلده؛ الأستاذ يعلم تلاميذه منهجًا، أساسه هو أنك لابد أن تكون مختلفًا عني. هذه هى تجربتى مع الأستاذ نجيب محفوظ، الذى أحبه جدًا، ولكن لم أفكر لحظة واحدة فى تقليده.).
هذا هو فكر الأستاذ؛ الملتزم دائمًا بالإنسان، والمهموم بقيمته وإعلاء شأنه، لم يكن يومًا ملتزمًا بنظرية سياسية، أو قضية دينية، أو مذهب أخلاقي، أو شعارات، إن التزامه الوحيد ككاتب هو التزامه بالإنسان، ويؤمن أشد الإيمان بأن الإنسان مخلوق عظيم، فى قوته وضعفه، جدير بالتعاطف أيًا كان وضعه.
تكمن عظمة الإنسان فى هذا المزيج الفذ، خليط القوة والضعف، فلا يوجد بشر معقمون، ماكينة ألمانية تمشى على قدمين دون خطأ أو عيب، فإذا أردت هذه النوعية من البشر، فأنت تسطح الشخصية الإنسانية!
هذا الأديب العاشق للكتابة، هو فى الحقيقة عاشق للتطهر؛ يرى الأزمات التى يحياها تفجر مجالًا للكتابة الجيدة، هذه الكتابات "الجيدة" تُعد نوعًا من العلاجات زهيدة الثمن. اندماج الكاتب فى عمل أدبى جديد، هو نوع من التطهر، يحدث بالاندماج والكتابة. ربما هذه الكتابة لن تأتى بالمال والشهرة، لكنها تحدث إشباعًا لا مثيل له، يجعل الكاتب متوافقًا مع الحياة، قادرًا على المواصلة. التطهر الحادث بالكتابة، هو حائط صد ضد الأمراض النفسية، ونعمة عظيمة منحها الله لعدد قليل جدًا من الناس، هم الكتاب الحقيقيون، أما هؤلاء الذين لا يكتبون ولا يقرأون، هم مشغولون دائمًا بما يتعرضون له من أزمات، وشعور بالضعف وعدم القدرة على الصمود، على التأثير، على الاستيعاب والتحقق والاستمتاع بالحياة.
كيف سيقضى راهب الفكر والأدب حياته السرمدية دون أن يمارس الشيء الوحيد الذى عشقه فى حياته؟ كيف سيصبر مصطفى بيومى على فراق كتابه وقلمه؟ كيف ستمر عليه الساعات والأيام دون أن يعيد قراءة "المسيح يصلب من جديد" و"الإخوة الأعداء"؟.. أنا على يقين أن اللحظة الأولى للأستاذ مصطفى بيومى فى عالمه الجديد الرحب السماوي، سوف يفتش عن أحبابه وأصدقائه، سوف ينادى على كازانتزاكيس، نجيب محفوظ، تشيخوف، يحيى حقي، النفري، يوسف إدريس، البحتري، صلاح جاهين. سوف يعيش معهم فى صومعتهم، جنتهم، عالمهم السحري، سوف يقدمون إليه نخب الترحيب وسلامة الوصول، والانعتاق من عالم دنيوى أنوى مشوه!
أكاد أجزم بأن هؤلاء الأنبياء الأفذاذ يقودهم "أبو العلاء المعري" سوف يرقصون رقصة "زوربا" ترحيبًا بصديق لهم طال انتظارهم له. إنه حفل استقبال أسطورى لهذا الإنسان الوديع الفذ "مصطفى بيومي"، فى أجواء شتوية يعشقها الأستاذ، وكم تمنى أن يكون العام كله "ديسمبر".
أرى الآن بعينى الدامعتين "الأستاذ" بين أيديهم مرحبين به، يسألونه: "ماذا تحب أيها الصديق الذى طال انتظارنا له وتمنينا قدومه؟".
وها أنا أسمع "الأستاذ" يجيبهم فى خجله المعتاد قائلًا: لنبدأ بسورة "الجن" بصوت صديقى الأثير الشيخ "محمد رفعت" ثم نستمع إلى طقطوقة "يمامة بيضا" التى وضع فيها صديقى المصرى اليهودى "داوود حسني" كل عصير الشجن الممكن تخيله، أسمعها بصوته إن أمكن، أو بصوت الست "منيرة المهدية" أو لصاحب الصوت الأجش الصادق الشيخ "زكريا أحمد".. فأنا أحب "يمامة بيضا" لأنها تعبر عن الفقد الجميل، وأنا تركت فى الدنيا أناس أحببتهم وأحبوني، أعتقد أنهم مثلكم يا رفاق، يشتاقون إليً كما كنتم تشتاقون إليً وزيادة!.