من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. قصاصة حقيقة!
تاريخ النشر: 10th, January 2025 GMT
#قصاصة_حقيقة!
من أرشيف الكاتب #أحمد_حسن_الزعبي
نشر بتاريخ .. 18 / 3 / 2017
كانت تحضر مع انتهاء الفصل.. مع نهاية الشتاء مثلاً أو آخر زفرات الصيف، لكنها مثل الطيور المهاجرة تحافظ على هذين التوقيتين ولا تحيد بوصلتها عنهما، لا أذكر ملامح صاحبها، ولا أحد يعرف في أي ساعة كانت تدخل المدينة، كل ما أذكره أن الخبر كان ينتشر سريعاً بين أولاد الحي، ليقفز مثل الغيمة فوق الأحياء القريبة، وتبدأ النساء يحضّرن وجبات القماش.
هيكل حديدي ضخم نسبياً يرتكز على عجلين صغيرين.. لها فوهة مثل فوهة البركان يبتلع القطع الكبيرة ومزراب صغير ينزل منه فتات الملابس والخيطان وقد اختلطت ألوانها.. صاحب “مطحنة الشرايط” كان يحضرها في الساحة الترابية الممتدة بين مقبرتي المدينة، لم يغيّر يوماَ ذاك المكان البائس، ولم يحاول أن ينتقل إلى ساحات أكثر حيوية، ربما لأن الملابس العتيقة المنوي طحنها هي “موتى” الملابس، والمقبرة مكان ملائم لهذه النهايات، وربما أن الملابس نفسها تعود إلى بعض الموتى، فكان المكان ملائماً لإلقاء النظرة الأخيرة على ما كانوا يرتدون قبل أن يتقمّصوا البياض الأبدي، وربما أن ضوضاء الماكنة وصوت محركها المرتفع لا يحتمله إلا الميت، والميت لا يقوى على المنازعة أو الشكوى.. لذا اختيار هذا المكان ليكون مقرّاً مؤقتاً لطحن الذكرى والزمن الملتصق على أبدان الثياب كان له دلالات كثيرة..
كانت تحضر الأمهات أكياس الألبسة العتيقة على رؤوسهن من كل الأحياء، يضعنها قرب القبور الجديدة وينتظرن دورهن في “طحن القماش”.. قمصان انتهت موضتها وتسببت بتخمة زائفة للخزائن الضيقة، سراويل قديمة قضمت من الركبة ذات سقوط وكانت عصية على كل الرقع، معاطف اختزلت فصول الشتاء والعواصف والرعود والركض إلى المدرسة في طرق الطين، فخرج الصوف من قلب البطانة وبدأ يثلج كتلاً أثناء المسير، قبعات قضمها فأر الشتاء في عتمة الخزانة فأحدث ثقبها بيضوياً عند الجبهة، فنفر الأولاد من لبسها، وثوب تزاحمت الرقع على الشقوق فصار الثوب رقعة كبيرة..
كنت أسأل نفسي لم ما زلنا نحلم بالعائلة القديمة بتقاسيمهما وأصواتها وملابسها، لم ما زالت الأحلام طفلة رغم كهولتنا؟
الأمهات القديمات لم يكنّ يحببن التجديد والإتلاف.. دائماً يرغبن في إعادة التدوير والاستفادة من الممكن.. حتى القمصان والبناطيل البالية الذاهبة في طريقها إلى الطحن، كن يقطعن منها الأزرار، ويستخرجن السحّابات المعدنية، قبل أن يسلّمن إلى مقصلة الملابس.. تبتلع الماكنة الخصر والحجول والأكمام، تتناثر الخيطان فوق فوّهة الآلة كرذاذ الكلام من فم عجوز.. ثم بعد لحظات يخرج مزيجاً من الألوان يغلبه الرمادي من مزراب القماش المسحوق.. تملأ الأمهات أكياسهن بطحين الخيوط والملابس والقطع الصوفية، ثم يحملنها إلى البيوت ثانية ليصنعن منها وسائد للصغار، أو مساند للضيوف، أو لحفاً ثقيلة للشتاء القادم، فهذا المزيج من القطن والصوف والنايلون والجينز والكيتان.. يمكن أن يكون وسادة أو لحافاً أو فرشاً عالياً يجلس عليه أهل البيت ويغنيهم عن فراش جديد..
كنت أسأل نفسي لم ما زلنا نحلم بالعائلة القديمة بتقاسيمهما وأصواتها وملابسها، لم ما زالت الأحلام طفلة رغم كهولتنا؟ فاكتشفت أن السرّ في الوسادة واللحاف.. كيف لوسادة تحمل خليط ملابسهم ورائحتهم أن تنساهم؟ كيف لها ألا تنسج خيوط الحلم من معاطفهم الشتوية ورعشاتهم الطفولية وكنزات الصوف المعتقة بقصص أمي الليلية؟
كان يا مكان.. كان هناك “مطحنة شرايط” تأكل ملابسنا في النهار ثم تنسج أحلامنا من الوسائد في الليل، ترى ماذا لو كانت هناك “مطحنة جرايد” تأكل كل الأخبار اليومية والوعود الرسمية وحل الدولتين وحدود الرابع من حزيران، ورفض تقسيم العراق المقسم، والحفاظ على وحدة سوريا المشتتة؟ لو أن هناك مطحنة تلوك كل هذا الورق المجبول بالحبر، وتنبت لنا قصاصة حقيقة واحدة أو وسادة صدق تصحح أحلامنا!
ااحمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com
مضى #193يوما …
بقي #83يوما
#الحريه_لاحمد_حسن_الزعبي
#سجين_الوطن
#متضامن_مع_احمد_حسن_الزعبي
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: سجين الوطن حسن الزعبی
إقرأ أيضاً:
مصطفي بيومي .. الإنسان قبل الكاتب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
فى مساء الأحد، ٢ يناير، رحل عن عالمنا الكاتب الصحفى والأديب والناقد مصطفى بيومي، بعد صراع مع المرض، تاركًا وراءه إرثًا غنيًا من الكتابات التى أثرت الصحافة والأدب العربي. لم يكن مجرد كاتب يملأ الصفحات بالحروف، بل كان روحًا تحب الحياة، تتأملها، وتكتب عنها بصدق وحب وحنين.
تشرفتُ بالعمل معه لأكثر من عشر سنوات، عرفتُه فيها إنسانًا قبل أن يكون كاتبًا، كان حنونًا، حساسًا، ناصحًا، وصديقًا حقيقيًا لكل من عرفه. لم يبخل أبدًا بنصيحة أو كلمة طيبة، ولم يكن يومًا مجرد رئيس فى العمل، بل كان أبًا وأخًا قريبًا للقلب.
كان للشتاء مكانة خاصة فى قلب مصطفى بيومي، كان يرى فيه دفئًا خاصًا رغم برودته، ربما لأنه فصل التأمل والهدوء، حيث يمكن للكاتب أن يختلى بأفكاره ويبوح بها على الورق. أما الموسيقى، فكانت السيدة أم كلثوم هى صوته المفضل، صوت يحمل عبق الماضى ورقى الفن، صوت يعبر عن مشاعره كما لو كانت كلماته.
لم يكن يمر يوم دون أن يحتسى قهوته المفضلة، كانت رفيقته الدائمة، تمامًا كما كان القلم والورق رفيقيه فى كل لحظة. لم تكن الكتابة مجرد مهنة له، بل كانت حياة، وكان يجد فى كل صفحة بيضاء عالمًا جديدًا يسكنه بإبداعه وأفكاره.
كان يعشق أدب نجيب محفوظ، كتب عنه كثيرًا، ناقش أعماله، وتعمق فى شخصياته، وكأنه كان يبحث فيها عن نفسه، عن فلسفته الخاصة، عن حبه للحياة رغم قسوتها. لم يكن مجرد ناقد لأعمال محفوظ، بل كان محبًا لها بكل تفاصيلها.
حتى فى أصعب لحظات مرضه، لم يستسلم مصطفى بيومي، ظل ممسكًا بالقلم، يكتب رغم الألم، يواجه الحياة بالكلمات، كأن الكتابة كانت علاجه، أو ربما كانت طريقته فى مقاومة النهاية.
كان إنسانًا نادرًا، صديقًا حقيقيًا لم يبخل يومًا بالنصيحة، حتى فى أدق تفاصيل حياتي. لم يكن يسأل عنى من باب المجاملة، بل كان اهتمامه صادقًا، نابعًا من قلب رقيق، كان دائم السؤال عن أحوالي، حاضرًا فى كل لحظة، يشاركنى الأفراح ويدعمنى فى الأوقات الصعبة.
كان يملك قدرة نادرة على الاستماع، وعلى أن يمنح كلماته طاقة من الأمل والتفاؤل، حتى فى أشد اللحظات قسوة. لم يكن مجرد رئيس عمل، بل كان أخًا، سندًا، شخصًا تعرف أنه مهما أبعده الزمن سيظل هناك، يسأل، يهتم، يشاركك همومك وكأنه يحمل جزءًا منها عنك.
رحيله ليس مجرد غياب، بل هو فراغ لن يُملأ، هو فقدان لصوت اعتدت سماعه، ولروح كانت دائمًا قريبة، تطمئن وتسأل وتمنح دون انتظار مقابل.
كان دائمًا أول المهنئين لى بعيد ميلادي، لم ينسَ يومًا، كان صوته يأتى محمَّلًا بالدفء، وكلماته تسبقها مشاعر صادقة لا تزيفها المجاملات. لكنه هذا العام لم يستطع، كان المرض قد أنهكه، وعندما حاولت الاتصال به لتهنئته بعيد ميلاده يوم ١١ ديسمبر، لم يكن قادرًا على الرد.
ولكن ردت عليَّ ابنته "نهى"، بصوت هادئ يحمل بين طياته الكثير، قالت لي: "بابا صوته تعبان ومش قادر يتكلم"، شعرت حينها بوجع لا يمكن وصفه، لكنه لم يكن وجع الغياب بعد، بل وجع العجز، أن أكون معتادة على سماع صوته فى هذا اليوم ولا أسمعه، أن أقول له "كل سنة وأنت طيب" ولا يرد عليَّ بنفس الحماس المعتاد.
لكننى لم أشأ أن أثقل عليه، كل ما استطعت قوله: "أنا بس بسأل عليه وعلى صحته، وبهنيه بعيد ميلاده.. ربنا يخليه لينا ويمد فى عمره وصحته." كنت أتمسك بأى أمل، بأى فرصة لأن يتجاوز المرض، لكنه كان أقوى هذه المرة، أقوى من كلماته، أقوى من صوته الذى أحببناه جميعًا.
رحل مصطفى بيومي، لكن روحه الطيبة ستظل باقية، صوته سيبقى يتردد فى ذاكرتي، وذكراه ستظل تعيش معى فى كل لحظة كنت أنتظر فيها اتصاله.
رحمك الله يا أستاذ مصطفى، لن يكون عيد ميلادى كما كان بدونك، ولن يكون يوم ١١ ديسمبر مجرد تاريخ بعد الآن، بل يومٌ سيذكرنى دومًا بصديق كان يعنى لى الكثير، وستظل كلماتك وذكرياتك ونصائحك جزءًا لا يُمحى من حياتي.. رحمك الله يا أستاذ مصطفى، كنت كاتبًا عظيمًا، لكنك كنت إنسانًا أعظم.