فيلم حقيبة سفر.. الاختيار بين المقاومة والخيانة
تاريخ النشر: 9th, January 2025 GMT
في الفيلم السينمائي، يثبت الإبداع الأصيل وجوده فور بداية العرض، وبالتحديد في الدقائق الأولى، لكن إذا توقف المشاهد لثوانٍ متسائلا عما إذا كان قد شاهد هذا الفيلم من قبل، فإن هذا يعني أن ثمة ظلالا لفيلم آخر في العمل.
وفي فيلم" حقيبة سفر" (Carry-On)، الذي يحتل المرتبة الأولى في نسبة المشاهدات على شاشة نتفليكس، لا يلمح المشاهد مجرد ظلال لفيلم "موت قاس 2" 1990 (Die Hard 2)، ولكنه يجد ما يشبه الاستنساخ للقصة وعدد كبير من المشاهد.
تتضاعف الأزمة حين يجد المشاهد نفسه أمام فيلم حائر بين الدفع بالأجواء الاحتفالية لموسم أعياد الميلاد السينمائي في العمل، وبين الرغبة في صناعة فيلم حركة وإثارة، وقد توصل صناع العمل إلى فكرة صناعة فيلم يجمع بين الاثنين عبر عمل تحتل فيه العائلة مكانا رئيسيا، إلى جانب الإثارة والحركة.
وقد اعتاد صناع السينما تقديم أعمال "استهلاكية" في الأعياد والمواسم، وكما يقدم السينمائيون المصريون أفلاما للتسلية في مواسم عيدي الفطر والأضحى، فإن هوليود ونتفليكس وغيرهما يقدمون أفلاما تهدف بالأساس للترفيه والتسلية، وتقدم الملامح الثقافية للمناسبة، وتعد العائلة هي المحور الرئيسي لأفكار أفلام أعياد الميلاد في السينما الأميركية.
أحداث “حقيبة سفر" للمخرج الأميركي ذي الأصول الإسبانية جاومي كوليت سيرا، تدور في ليلة عيد الميلاد (آي إم دي بي) مفاجأة في المطارتدور أحداث “حقيبة سفر" للمخرج الأميركي ذي الأصول الإسبانية جاومي كوليت سيرا، في ليلة عيد الميلاد، حيث يتلقى ضابط أمن النقل الشاب إيثان كوبيك (تارون إدغيرتون) مكالمة من سماعة أذن لشخص يرغب في عدم تفتيش حقيبة تحتوي على قنبلة، ويؤكد له أن زوجته (صوفيا كارسون) في مرمى رصاصاته، فإذا لم ينفذ ما يطلب منه، ستموت مع جنينها الذي لم يولد بعد.
إعلانويقدم السيناريست تي. جي. فيكسمان حبكة قوية ولافتة، حيث يواجه "إيثان"، بطل العمل، تحديات شخصية، ومهنية، فقد فشل في الالتحاق بالشرطة، واضطر للقبول بالعمل كضابط أمن مدني، وهو يمارس عمله دون حماس أو طموح، لكن خبر حمل زوجته يدفع به للضغط على مديره لترقيته، وفي اليوم الأول لاستلام عمله الجديد بعد الترقية، يواجه حدثا، يضعه بين خيارين إما موت زوجته وطفله، أو السماح بنقل قنبلة قد تودي بحياة المئات من الأبرياء، خاصة مع أجواء الإجازات في عيد الميلاد.
ويقدم المخرج أجواء المطار، والأبطال الذين يواجهون أزمات أخلاقية، ويستخدم ليلة عيد الميلاد كخلفية للفيلم، وجميعها ملامح أساسية من فيلم "موت قاس 2" ويصور رحلة إيثان كبطل متردد بالطريقة نفسها التي صور بها المخرج ريني هارلين رحلة البطل جون ماكلين (بروس ويليس)، ولكن بدون كاريزما أو عمق. كما ينسخ المخرج، مشاهد المطاردة في مكان استلام الأمتعة والمحاولة اليائسة لتعطيل جهاز التفجير في منتصف الرحلة. ويبدو الإرهابي في "حقيبة سفر" خفيفا، سطحيا، ينفذ ما يطلب منه دون أي بعد يجعل منها شريرا مؤثرا، وهو ما يرشحه للنسيان فور نهاية الفيلم.
مشهد البدايةقدم فيكسمان للحدث الرئيسي بشكل لا يخلو من مداهنة وتملق للسلطة، إذ يختار الضابط أفرادا بشكل عشوائي للتفتيش في المطارات أو ما يشبه حقائبهم، وفي لقطات سريعة، يتكرر احتجاج هؤلاء الأفراد، كل طبقا لعرقه أو لونه أو دينه، فالأسود يتساءل محتجا: هل تم اختياري للتفتيش لأني أسود؟ ويتساءل شخص آخر: هل تفعل ذلك معي لأني مسلم؟ وحتى الأبيض يتساءل مستنكرا: هل تفتشني لأني أبيض؟
ويستمر التتابع السريع للقطات ليتوقف عند راكبة تدفع بسماعة أذن إلى الضابط إيثان قائلة: هذه السماعة لا تخصني.. فيتناولها الضابط، ويضعها في أذنه في محاولة لمعرفة أي شيء عنها، فيبدأ الشرير الذي لا يحمل اسما في إملاء شروطه، ليضعه بين اختيار المقاومة الذي يحتل فيه احتمال النصر نسبة بسيطة، والخيانة بالاستسلام وعدم المقاومة.
إعلانويأتي عدم تحديد اسم الشرير أو الإرهابي في العمل رغبة في عدم لفت نظر المشاهد إليه، ودفعا للمشاهد باتجاه التفكير في الموقف الصعب الذي وضع فيه "إيثان"، فقد يتسبب في قتل الآلاف من البشر إذا سمح بمرور الحقيبة المتفجرة، وقد يفقد زوجته وطفله إذا رفض، وبالتالي فإن صانع العمل أراد لرسالة التضحية والفداء والمواجهة، وقيم الأسرة أن تكون محور العمل.
ممثلو فيلم "حقيبة سفر" يقدمون أداء مقبولا، لكن ما يعوقهم هو افتقار السيناريو إلى الأصالة والعمق (آي إم دي بي) شبح بروس ويليسيقدم ممثلو فيلم "حقيبة سفر" أداء مقبولا، لكن ما يعوقهم هو افتقار السيناريو إلى الأصالة والعمق. ويقدم تارون إدغيرتون جهدا جديرا بالثناء في دور إيثان، حيث يضفي على الدور ضعفا إنسانيا يستحق التعاطف، لكنه لا يترك انطباعا دائما، ولم يكن أداء الممثلين المساعدين أفضل حالا، حيث لعب جيسون باتمان دور الشرير النمطي الذي يفتقر إلى الكاريزما أو التعقيد الذي يجعله مهددا حقا.
ونجح صناع العمل في تقديم بعض اللحظات المميزة بصريا. فمشاهد الحركة، رغم أنها مقتبسة، تم تصميمها بمهارة، مع مطاردة سير نقل الأمتعة والمواجهة في الطائرة.
وحاول الفيلم الإبحار في موضوعات التضحية والفداء والأسرة، لكنه لم يلتزم بالغوص عميقا فيها، فقد تم حل كل المشكلات لمجرد اختيار المقاومة والانتصار على الشرير، مما ترك مساحة صغيرة لتطوير الشخصية الحقيقية أو العمق الذي يتعلق بحدود الأمل والحماس واليأس حين يتعلق الأمر بالاختيارات المهنية والأسرية.
ورغم الاستنساخ الفاضح، والرقص على السلم بين فيلم حركة وفيلم احتفالي، فإن لغز تحقيق الفيلم لنجاح ملحوظ يظل مطروحا كسؤال إلى أن يكشف الفيلم عن إيقاعه المذهل، وهي المهمة التي أنجزها جاومي سيرا على أكمل وجه، إذ جاءت المطاردات في المطار محبوكة بشكل واضح، وكأن كل مشهد، وكل "كادر سينمائي" قد صنع خصيصا ووضع في مكانه ليقدم نوعا محددا من المشاعر.
إعلانوالأمر نفسه ينطبق على مشاهد القلق والإثارة التي دارت حول جهاز الكشف على الحقائب في المطار، وجاء القطع المتبادل بين "إيثان" وزملائه ورؤسائه من ضباط، وبين المجرم وأتباعه، ليغذي حالة القلق والتوتر لدى المشاهد، ويجعله مستغرقا بكامل مشاعره حرصا على الزوجة المسكينة وجنينها، وحرصا على آلاف الأبرياء الذين يمكن أن تحرمهم حقيبة المتفجرات من الحياة والاحتفال بالعيد، لكن الأكثر تأثيرا في دور المونتاج وضبط الإيقاع من خلاله هو قدرته على خلق حالة الاستغراق الكامل، رغم تكرار القصة ومواقع التصوير.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات سينما عید المیلاد حقیبة سفر فی المطار
إقرأ أيضاً:
موسم الحج إلى دمشق.. ما الذي يبحث عنه الموفدون؟
دشّن الثامن من ديسمبر/ كانون الأول، بدء موسم حج، عربي ودولي إلى دمشق: وفود من مختلف العواصم القريبة والبعيدة، وعلى مختلف المستويات، اتصالات هاتفية، زيارات أمنية معلنة وسرّية، دعوات للقيادة السورية الجديدة لزيارة هذه الدولة أو تلك، وسباق على من سيظفر بـ"قصب السبق"، ويقطف الزيارة الأولى، ومبالغات في تحميل الأمر، أكثر مما يحتمل من معانٍ ودلالات، وسيظل الحال على هذا المنوال، حتى إشعار آخر، كما تشي دلائل ومؤشرات عدة.
أوراق مختلفة، تتكدس في جَعبة الموفدين، تعكس أولوياتٍ مختلفة للدول والمعسكرات المختلفة، مع ضجيج هائل يغطي هذه الأولويات والمصالح، أو يسعى لتغطيتها.
ولعل حكاية "حقوق الإنسان والأقليات" و"الانتقال الشامل والجامع"، و"أمن سوريا واستقرارها"، تكاد تكون السمة الأبرز، للقنابل الدخانية التي تظلل أجواء الزيارات، وما يعقبها من بيانات ومؤتمرات صحفية، وتغريدات على منصة "X"، ومواقف وتقديرات، تنسب دائمًا لمسؤول رفيع، يفضّل عادةً عدم الكشف عن هُويته.
سوريا دولة محورية بلا شك، وهي تحتل موقع القلب في المشرق العربي و"هلاله الخصيب"، الذي كفّ عن أن يكون "هلالًا شيعيًا" منذ ذاك اليوم. استقرارها مهم للاستقرار الإقليمي، ومن يَفُز بنفوذ فيها، يؤسس لنفسه نفوذًا إقليميًا وازنًا، من يَبنِ منزلًا في سوريا، يبنِ لنفسه منازل كثيرة في جوارها، هكذا كان الحال في العقود الثمانية الماضية، بل وقبلها بكثير، وهذا يفسر بدرجة كبيرة، سرّ الحج إلى دمشق ودوافعه.
إعلانلكن الإقرار بهذه الحقيقة، لا يُغني عن البحث في الدوافع الخفيّة وراء هذا الزحف السياسي والدبلوماسي صوب دمشق، وتفكيك مصفوفة "الأفكار" و"الوصايا" و"النصائح"، حتى لا نقول "الضغوط" و"الشروط المسبقة" التي يحملها الزوار في حلّهم وترحالهم.
عن أي ضمانات وطمأنات يتحدثون؟يمكننا رصد خمسة ضمانات (أو طمأنات)، تبحث عنها الوفود الزائرة وتتصدر أجندة الحراك السياسي والدبلوماسي الكثيف في سوريا وما يحيط بها:
أولًا: نزع "الطابع الإسلامي" عن الحكم الجديد، أو "تخفيفه" إلى أدنى مستوى، بإذابته في بحر "البكائيات على صدر الأقليات" في سوريا، والدعوات "الإجماعية" لانتقال سياسي، جامع وشامل في سوريا.. إذ على الرغم من "كلام الحق" الذي يحيط بقضية المكونات السورية المختلفة، والحاجة لحمايتها وصون حقوقها وضمان مشاركتها المتناسبة، فإننا ننظر بعين الشك والريبة للأهداف المبطنة التي تخفيها الجهات الداعية والمتباكية، وسنبدأ بمواقف الغرب المحمّلة بأبشع صور النفاق والمعايير المزدوجة.لن نذهب بعيدًا في "التاريخ الحديث" للشرق الأوسط، ومسؤولية الغرب الاستعماري عن تفتيت خرائطه، وزرعها بالأفخاخ والألغام، ومنح من "لا يملك أرض شعب بأكمله لمن لا يستحق"، وسنكتفي بآخر فصل من فصول الإنكار لحقوق شعب فلسطين، والشراكة في حرب التطويق والتطهير والإبادة التي ما زال يتعرض لها للشهر الخامس عشر على التوالي، أقول: بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لم يعد أحد بحاجة لبذل جهد كبير للتعرف على حقيقة أن منظومة حقوق الانسان، بما تستبطن من حقوق للأقليات وقيم للحرية والعدالة، لم تكن في مضمونها سوى سلاح مضّاء، تستخدمه هذه الأطراف، ضد خصومها ومناوئيها، أما أعوانها وحلفاؤها وخدمها، فلكل واحدٍ منه، سبب يجعل "ذنبه مغفورًا".
السيدة الألمانية التي حرصت على استفزاز مضيفيها في دمشق، وبطريقة مبتذلة، وأشهرت في وجوههم سلاح حقوق الأقليات، هي ذاتها الوزيرة التي أباحت للإسرائيليين قتل المدنيين وتدمير البنى التحتية المدنية في غزة، بشكل وقح، ومن دون تورية أو مواربة، وبالصوت والصورة.
إعلانوتصبح حكاية "الأقليات وحقوقها ومشاركتها" في "عملية سياسية شاملة وجامعة"، "نكتة سوداء سمجة"، عندما تصدر عن بعض العواصم والمسؤولين العرب.. كثرة منهم لا تعرف دولهم عمليات سياسية، لا جامعة ولا مجتزأة، لا شاملة ولا منقوصة.
كثرة منهم، لا تحتفظ دولهم بسجل محترم في مراعاة حقوق الإنسان والأقليات، ويخشون "سوريا الديمقراطية"، قدر خشيتهم من "سوريا الإسلامية"، وربما أكثر، وموقفهم زمن "الربيع العربي" وثوراته، ما زال طازجًا في أذهان الشعوب التي انتفضت ذات يوم.
بعضهم على الأقل، بات منخرطًا منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأول، في ثورة مضادة إعلامية، ليس مستبعدًا أن تكون "أول غيث" انخراطاتٍ لاحقة فيما هو أبعد من ذلك وأخطر، في تكرار لسيناريو تجلت فصوله في "دول الربيع".
الخلاصة هنا، أن "نزع الطابع الإسلامي" عن الحكم الجديد، وتذويبه تدريجيًا على طريق محوه وإزالته، هي "المحطة الأولى" على خريطة طريق لسوريا، يتعين ألّا يكون خط نهايتها: سوريا ديمقراطية.. البدء باستهداف "إسلامية" الحكم، على طريق منع الانتقال الديمقراطي لسوريا، الذي قد يحمل في طياته، بذور انتقالات ديمقراطية، عملًا بمبدأ الدومينو، المجرّب في العالم العربي.
وأرجو ألا يفهم من هذا التوصيف للمواقف العربية والغربية، أن "الديمقراطية" تسير حكمًا في ركاب الحركات الإسلامية، وأن انتصار هذه الحركات، هي المقدمة الضرورية لنجاح الانتقال الديمقراطي، فالتجربة العربية والإسلامية، أشد تعقيدًا من ذلك بكثير، لكنها مسألة أولويات بالنسبة لهذه العواصم، ومراحل متعاقبة، على طريق سبق لهم أن قطعوه في دول عدّة.
ثانيًا: وتلكم أيضًا موضع إجماع، أو شبه إجماع، بين الأطراف المنخرطة في الحراك السياسي والدبلوماسي في سوريا وحولها، وهي ضمان منع إيران من العودة إلى سوريا، والحيلولة دون عودة الأخيرة، لممارسة دور "محطة الترانزيت" في توصيل السلاح إلى حزب الله في لبنان، والتأكد من ألّا تكون دمشق، حاضنة لفصائل العمل الفلسطيني المقاوم، كما حصل في مراحل سابقة. إعلانتلكم أولى الضمانات والطمأنات، التي يسعى الموفدون لانتزاعها من دمشق، أصالةً عن أنفسهم ومصالحهم، ونيابة عن مصلحة إسرائيلية عليا.. ذلكم شرط ومقدمة لانطلاقة جديدة للمسارات الأبراهامية، وهي في الوقت ذاته، متطلب إلزامي، في صراعات المحاور والمعسكرات المتقابلة، وأحسب أن الوفود الغربية، الأميركية بخاصة، هي الأكثر حماسة لانتزاع هذه التأكيدات من الحكم الجديد، مع أنه بحكم ماضيه وبنيته السياسية والفكرية، لا يحتاج لمن يذكّره، بضرورة إبقاء إيران خارج دوائر النفوذ والوجود، في سوريا.
ثالثًا: وهي ليست موضع إجماع، ولا تحظى بالقدر ذاته من الأهمية لدى الأطراف المختلفة، وأعني بها، مسألة الوجود الروسي في سوريا، هنا وهنا بالذات، نرى حماسة أوروبية ظاهرة، ألمانية، بريطانية وفرنسية، بشكل خاص، لـ"تنظيف" سوريا من أي أثر للوجود الروسي، حتى إن إغلاق قاعدتي حميميم وطرطوس، وضع كشرط مسبق، لعودة المياه إلى مجاريها بين دمشق، وكل من بروكسل ولندن وبقية عواصم دول الاتحاد، وإن بقدر من التفاوت من الاهتمام.ألمانيا التي كانت الأكثر صراحة (أو قل وقاحة) في رفضها توجيه الدعم لأي مؤسسة أو جهة سورية، تحمل صبغة إسلامية، كانت الأكثر حماسة لتصفية النفوذ والوجود الروسيين من الشام. أما العرب والأتراك، وهم وإن كانوا لا يبالون كثيرًا بمسألة الدور الروسي في سوريا، فإنهم لن يذرفوا دموعًا على انهيار نفوذ الكرملين، وإن كان بعضهم تعامل مع التدخل الروسي في سوريا 2015، بوصفه عامل استقرار مقابل النفوذ الإيراني "المزعزع للاستقرار" في حينه، إلا أن المشهد تغير اليوم، ولم يعد يُنظَر للعامل الروسي في الأزمة السورية، بذات المنظار.
رابعًا: الدور التركي، بعض العرب، يقول تصريحًا عبر منصّاته الإعلامية، وتلميحًا عبر بياناته الرسمية، إنه لا يريد لسوريا أن تنفك من قبضة "الهلال الشيعي" لتقع بين فكّي "هلال العثمانية الجديدة". إعلانلا يريدون لأنقرة أن تبني لنفسها "منازل عديدة" في سوريا، بعد أن فرغت منازل طهران من ساكنيها، ولا يشفع لأنقرة في هذا السياق، جملة الاستدارات التي استحدثتها خلال السنوات الماضية، صوب القاهرة وعواصم الخليج، بعد سنوات من "حروب الوكالة" على ساحات وميادين عربية عديدة.
معظم، إن لم نقل جميع، الدول العربية، تقيم علاقات "طبيعية" مع تركيا، بعضها يقيم علاقات "دافئة" معها، وبعضها الآخر "أقل من طبيعية".. لكن ثمة "نقزة" عند عدد من هذه الدول، من "البعد العثماني" في السياسة التركية، ومن "الرابط الإسلامي – الإخواني" في علاقات تركيا مع العالم العربي.
وثمة "نقزة" ثانية، ذات طبيعة جيو- سياسية، وجيو- اقتصادية، من مغبة تنامي الدور التركي في الإقليم، على حساب أدوار أخرى، أو "أوهام أدوار" لدول أخرى. مثل هذه "النقزات" لا شك، تُعدّ واحدة من محركات البحث عن دور في سوريا الجديدة.
هنا، ومن باب القراءة الموضوعية، يُسَجل للدبلوماسية العربية، أنها تعلمت من درس إدارة الظهر للعراق بعد سقوط بغداد وصدّامها في العام 2003، وترك بلاد الرافدين نهبًا لفراغ ملأته أطرافٌ ثلاثة: واشنطن وطهران وأنقرة (بدرجة أقل).
المسارعة العربية لتوحيد الموقف في اجتماعات العقبة، وما تلاها من حج عربي صوب دمشق، وعودة الروح للسفارات والبعثات الدبلوماسية العربية في دمشق، وسلسلة الدعوات للقيادة الجديدة لإنجاز زيارات رفيعة المستوى للعواصم العربية، وجسور الإغاثة الإنسانية، تشكل في مجملها، تعاملًا عربيًا مع دمشق، يختلف عن التعامل مع بغداد بعد حرب الخليج الثالثة.
لا يعني ذلك للحظة واحدة، أن العرب الرسميين، باتوا يلتقون اليوم على قلب رجل واحدٍ. تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى.. فبينهم، من هو في موقع الداعم والراعي للتحول الجديد في سوريا، وبينهم من يجهد – دون جدوى – في كبح مشاعر العداء للعهد الجديد، وثمة أطراف أخرى ما زالت تعيد النظر في مواقفها وحساباتها، قلقها يطغى على كياستها الدبلوماسية. لكن مع ذلك، يتعين الانتباه إلى اختلاف دور "العامل العربي" في سوريا 2024 عن العراق قبل عقدين من الزمان، بل وعن دول الأزمات المفتوحة الأخرى: اليمن، السودان، ليبيا ولبنان.
أطراف عديدة، أوسع عددًا ونطاقًا، تخشى عودة تنظيم الدولة والإرهاب الذي ضرب المنطقة بقسوة منقطعة النظير خلال العشرية الماضية. تركيا لديها حساب لم يغلق مع "البي كا كا" و"قسد" و"وحدات الحماية". حتى أوكرانيا لديها حساب مفتوح مع روسيا، وسوريا واحدة من ساحات تسوية هذا الحساب، قبل سقوط نظام الأسد، وبالأخص بعده.
كوريا الجنوبية – في أقصى الأرض- لديها حساب مع شقيقتها الشمالية، وآن أوان تسويته في سوريا كذلك، ولا ندري بعد، ما الذي ستسعى تايوان لتحقيقه، وربما يأتينا بالأخبار، من لم نزودِ.
إزاء كل هذه الطبقات المتراكمة والمتراكبة، من المصالح المتشابكة والمعقدة، الملتقية والمختلفة، في سوريا وحولها، تبدو شعارات من نوع: "حقوق الإنسان والنساء"، "حماية الأقليات ومشاركتها"، "الأمن والاستقرار"، "حياد سوريا"، كلامًا فيه الكثير من الحق، الذي يخفي كثيرًا من الباطل، ويخفي في طياته هذا التنوع والتلاقي والتضارب في الحسابات والمصالح، ويجعل الانتقال السياسي في سوريا، محفوفًا بأخطار تصارع المصالح والتدخلات الخارجية الضارة، بما يملي على القيادة الجديدة، إجادة فن السير على الحبال المشدودة فوق حقلٍ واسعٍ من الألغام، يكون فيه خطؤُها الأولُ، هو خطأَها الأخيرَ، كما يردد، خبراء المتفجرات في درسهم الأول لتلاميذهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية