الفاشر بعين أخري: مشاهد عن الحياة والموت في المدينة!
تاريخ النشر: 9th, January 2025 GMT
منتدي الاعلام السوداني : غرفة التحرير المشتركة
اعداد وتحرير: راديو دبنقا
الفاشر : 8 يناير 2025 – لم أتعرف إلى صورته.. كان عائما في بنطلونه الذي شده بحبل في وسطه حتى لا يسقط ، لقد كان قميصه مثل جلباب شد على سلك بين “عودين” لينشف.. كان خفيفا في خطوه … قال وهو يمد يده نحوي من بعيد ملوحا بالسلام وصدى التدوين المدفعي يدوي باتجاه سوق “ام دفسو” وجنوب الفاشر، فيما تظهر في المقابل أعمدة الدخان تتصاعد لعنان السماء باتجاه معسكر ابو شوك للنازحين الذي شهد تدميراً واسعاً، ووقوع قتلى وجرحى بالعشرات نتيجة التدوين المدفعي لأشهر من قبل الدعم السريع، وأخيراً بالقصف الجوي من قبل سلاح الطيران التابع للجيش السوداني.
رفعت يدي اليمني ملوحا له بالسلام، … قال وهو يتجه نحوي: أظنك لم تعرفني يا احمد أنا ابراهيم حامد!
صعقت من هول ما رأيت! لقد كانت آخر مرة رأيته فيها قبل (7) اشهر بالقرب من السوق الكبير بالفاشر في وسط المدينة، عند موقف المواصلات، حيث كان يعمل وقتها ( كمساريا) ينادي في الموقف للركاب لشحن الحافلات، وهو الموظف الكبير والحاصل على درجة الدكتوراه، ورئيس قسم بإحدى الوزارات الخدمية المتوقفة في المدينة كغيرها من مؤسسات الدولة بسبب الحرب، ويتقاضى في نهاية اليوم من سائق الحافلة التي يعمل بها مبلغ500 جنيها في اليوم ل (8) اشهر.
مشاهد مروعةوشهد السوق الكبير بمدينة الفاشر الذي خرج من الخدمة ومعه الجزارة وسوق الخضار وسوق “ام دفسو” منذ أشهر قصفاً مدفعياً وبالمسيرات من قبل قوات الدعم السريع، أدى لوقوع قتلى وجرحى لا توجد احصاءات دقيقة بأعدادهم. وتقول مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في هذا الشأن إنها وثقت مقتل 782 مدنيا وإصابة أكثر من 1143 منذ مايو حتى 20 ديسمبر، مشيرة إلى أدلة تستند جزئيا إلى مقابلات مع الفارين من المنطقة.
ونجا الدكتور إبراهيم ومعه احمد محمود وهو طبيب بيطري يعمل الآن حمالا في الأسواق المتنقلة بالمدينة من سقوط (دانه ) عندما كانا في ذات موقف المواصلات قبل أشهر، أدت حينها لمقتل اثنين وجرح (5) وتدمير سيارة، وتسببت في وقوع ضرر كبير في حافلة ركاب كانت متوقفة على الجوار.
هياكل عظمية تمشي بالشوارع(دعنا نبعد من هذا المكان يا دكتور قبل أن تأتنا دانة اخري لن نخرج منها احياءً هذه المرة ) قالها احمد.. وأضاف : لكن قل لي يا دكتور ما الذي حدث لك.. لا شيء قالها الدكتور إبراهيم وهو يضحك.. وزني كان 103 كيلو.. أصبح وزني الان كما ترى 61 كيلو.. صرت خفيفا ولم اشعر بالتعب وبالمرض، وأنا كذلك قالها احمد ، وزني صار مثلك بينما زوجتي صارت مثل (السلك) ونزل وزنها الى 59.. انها نعم الحرب.. وضحكنا وبكينا معا.
وجبة واحدة ومطابخ جماعيةوأدى الحصار الشديد والمضروب من قبل الدعم السريع على مدينة الفاشر، منذ مايو الماضي، لشح الإمدادات الغذائية، وخروج الأسواق الرئيسية عن العمل، وغلاء الأسعار، والشح الشديد في السيولة النقدية والمياه والأدوية، والتفشي واسع النطاق لأمراض سوء التغذية وفقر الدم بين جميع الفئات العمرية وفقاً لإفادات أطباء وعاملين في الحقل الصحي.
وأفاد مختصون في مجال التغذية والرعاية الصحية راديو دبنقا من الفاشر عبر شبكة “استارلينك”، الشبكة الوحيدة للتواصل حالياً مع سكان المدينة وكل ولايات دارفور، أن العديد من الأسر في الفاشر تتناول وجبة واحدة فقط في اليوم، فيما يعتمد الكثيرون على التكايا والمطابخ الجماعية والصدقات المقدمة محليًا،.
وتنتشر التكايا والمطابخ الجماعية، التي أنشئت بدعم وتمويل من الخيرين وأبناء تلك الأحياء في المهجر، في عدد من أحياء المدينة، ويهاجر اليها المئات للحصول على بعض الطعام بعد انتظار طويل وصفوفا اكثر طولا.
وتوقع التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي في تقرير الصادر في 24 ديسمبر الماضي حدوث مجاعة في الفاشر ومناطق أخرى حتى مايو المقبل . وزاد من حجم الكارثة الشح الحاد في السيولة النقدية (الكاش) ما اجبر المواطن اللجوء مكرها لحيل اخري للحصول على الطعام من بينها(الكسر) والمقابضة والمبادلة والعمولة بنسبة مأوية عبر تطبيق بنكك مقابل الحصول على (الكاش).
وفاقم من معاناة السكان بالمدينة توقف سوق زمزم، أهم سوق للحبوب في الفاشر والمناطق المحيطة بها، عن العمل منذ بدء قصف المعسكر، بدايات ديسمبر الماضي. كما ادى توقف تدفق الحبوب من جبل مرة ودار السلام وطويلة وغيرها من المصادر إلى زمزم وإلى الفاشر إلى تفاقم مشكلة توريد السلع إلى المدينة حسبما افاد تجار راديو دبنقا .
وتعاني مدينة الفاشر أيضا من زيادة في الأسر التي تعولها النساء، بسبب مقتل الرجال، أو انضمامهم إلى القوات المقاتلة لجماعة أو أخرى، أو مغادرتهم البلاد. بينما تعيش مجموعات أخري من النساء والأطفال النازحين في المباني العامة في الفاشر مثل المدارس والمساجد في وضع إنساني صعب للغاية .
ومع انهيار سوق العمل اليومي في الفاشر، أصبحت فرص كسب الدخل للفقراء والموظفين والمعلمين، الذين توقفت مرتباتهم منذ أغسطس من العام الماضي، محدودة بشدة، إن لم تكن معدومة. ويقول الدكتور ابراهيم الموظف بالخدمة المدنية لراديو دبنقا “اخر عهد لنا بالمرتبات كان قبل 16 شهرا اي منذ شهر اغسطس 2023، وحتى اللحظة لم نستلم شيئاً ، وما استلمناه هو الراتب الأساسي أي ثلث المرتب فقط لشهور ابريل ومايو ويونيو ويوليو واغسطس ، وهذا ينطبق على كل العاملين والموظفين بولايات دارفور الخمس”.
في طريق العودة لأولاد الريفوعلى الطريق المؤدي الى “أولاد الريف” أحد الأحياء العريقة بمدينة الفاشر حيث يقيم الدكتور إبراهيم، كان صدى القصف المدفعي للدعم السريع يدوي باتجاه مناطق جنوب الفاشر، وقذائف أخرى تتجه نحو معسكر ابوشوك للنازحين، وصوت طائرة حربية في المقابل تعبر فوق سماء المدينة مع سماع صوت دوي انفجار قوي ودحان يتصاعد شرق الفاشر.. كان المارة في الشوارع يمضون ويتبادلون التحايا والتعليقات ويقضون مهامهم كأن شيئا لم يحدث.. كانت آثار التدوين المدفعي تبدو واضحة على جدران وغرف المنازل خاصة في الأحياء الشرقية والغربية لأولاد الريف وحي مكركا أحد أحياء المتأثرة بالقصف في المدينة.
دانات الهاوزر و”بنكك”هذا صوت مدفع بنكك (40) دليل.. وذاك صوت مدفع هاوزر H4 قالها الدكتور ابراهيم وهو يتبادل التعليقات مع رفيقه الطبيب البيطري احمد حول اصوات دوي المدافع التي تتساقط داناتها على المنازل والأعيان المدنية يوميا لأشهر، وهما يعبران معا الشارع المتجه الى منزله بحي اولاد الريف.
“نعم صحيح لقد صرنا خبراء في اصوات الاسلحة واتجاهاتها” قالها الطبيب احمد وهما يقتربان من منزل الدكتور ابراهيم الذي يقيم فيه مع زوجته واطفاله الخمس وأثنين من اشقائه.
وأكد التقرير الصادر من مختبر العلوم الانسانية، عبر تحليل بيانات الاستشعار عن بعد والمصادر المفتوحة، إنه تمكن من تحديد موقع أربع قطع مدفعية ثقيلة تتوافق مع مدفع هاوتزر AH4 عيار 155 ملم وذلك عبر صور الأقمار الاصطناعية. وتقع كل من الفاشر وزمزم ضمن مدى 40 كم من الأسلحة المتوافقة مع سلاح “AH4s”.وتشير تقديرات المختبر أن هذه القطع المدفعية من المحتمل أن تكون مشاركة في القصف المستمر على زمزم، والتي أفادت التقارير أنها أدت إلى مقتل 73 شخصًا وإصابة 376 آخرين حتى 13 ديسمبر 2024.
جرحى أمام باب المنزلوعلى باب منزل الدكتور ابراهيم الذي كانت تبدو على جدرانه كسور وحفر ونقوش، قال ابراهيم وهو يشير بيده اليها: في هذا المكان اصيب شقيقاي عمر وعصام (برائش دانه) سقطت بالقرب من المنزل قبل 11 يوما، عانينا كثيرا في علاجهما لا أدوية لا مستشفيات، الحوادث اشبه بالزنزانة القذرة المكتظة بالبشر، عليك ان تتدبر حالك بحثا عن المحاليل الوريدية والأدوية.. الحرب دمرت كل شيء!
الموقف الدوائيوبحسب صيادلة في الفاشر تحدثوا لراديو دبنقا فإن إمدادات الأدوية لم تعد متوفرة بالمرافق الصحية في أبو شوك والفاشر، ولم تعد متوفرة كذلك لدي المنظمات غير الحكومية الدولية. ويقول الأطباء إن ما يتوفر في صيدليات المدينة باهظ الثمن، وبعيد عن متناول أغلب المرضى، وأكد احد الاطباء أن هذا الأمر أصبح يعيق علاج المصابين وذوي الاعاقة بسبب القصف والاخذة أعدادهم اذدياد يوما بعد يوم.
ولا يوجد بمدينة الفاشر اليوم سوى مستشفى واحد يواصل العمل، وهو مستشفى النساء والتوليد “السعودي”، الذي تحول بعد توقف بقية المستشفيات إلى مستشفى عام. وقال طبيب رفض الكشف عن اسمه لراديو دبنقا ” إن المستشفى يعمل اليوم بنحو 50% فقط من طاقته، ويتعرض للقصف بشكل متكرر، ولا يعتبر مكاناً آمناً لطلب العلاج.) وأضاف (اقوم يوميا بمعاينة نحو 100 مريض، ونعاني في ذات الوقت من نقص شديد في العاملين في المجال الصحي)
قصف المستشفى الوحيد بالداناتوشهد نهايات العام الماضي قصف قوات الدعم السريع المستشفى السعودي بثلاث دانات، حيث سقطت الدانة الأولى أمام المستشفى بعشر أمتار. وأدت لإصابة 16شخص اصابات خطيرة ومقتل اثنين من الكوادر العاملة بالمستشفى السعودي، بينما سقطت الدانة الثانية داخل المستشفى السعودي للمرة الثالثة في عنابر النساء التوليد ومكاتب الكوادر الطبية العاملة والمواقع الحيوية بالمستشفى.
وتسبب تجدد قصف المستشفى السعودي الأسبوع الماضي إلى مقتل شخص وإصابة اثنين من العاملين بالمستشفى.
ولجأ المواطنون إلى حفر خنادق داخل المستشفى وتحويلها إلى مرافق طبية مؤقتة لعلاج المرضى، وقاموا بتحصينها بالحاويات وأكياس الرمل لتحويلها إلى ملاذ آمن للمرضى والجرحى.
وعلى منتصف ساحة منزل الدكتور ابراهيم بحي أولاد الريف بالفاشر يظهر مدخلاً مفتوحاً على الأرض أشبه بالباب المفتوح … جاء اطفاله وشقيقاه وزوجته وهم يهرولون نحو المدخل المفتوح على الأرض بعد صوت انفجار قوي دوى في الشارع على مسافة قريبة من المنزل.. (أبو كباس) ( ابوكباس) .. انها دانه مدفع عيار 120 قالها إبراهيم.. هيا بسرعة الى الخندق (الملجأ) الذي بناه ويسع لعشرة اشخاص للحماية من (روائش) الدانات التي يسقطها الدعم السريع عشوائيا على المنازل.. وفي لمح البصر (انحشر ) الجميع في الخندق المحفور تحت الأرض.
قبري هو خندقي!وبحسب الدكتور إبراهيم يسمي المدفع عيار 120 وعيار 80 محليا ب “ابو كباس” لأنه يهبط فجاءة على ضحاياه دون أن يعطيك أي مهلة للهروب بصوت او صفير، بخلاف المدافع الأخرى مثلا المدفع المعروف محليا ببنكك (40) دليل والهاوزر الذي يصاحب مرور قذائفه صوت صفير.
إلى متى نظل على هذه الحال؟؟ قالها احمد وهو يوجه كلامه لإبراهيم وهما مختبئين داخل الخندق.. أما آن الأوان لتخرج انت وابنائك من هذه المدينة؟؟
“اتفق معك زوجتي واطفالي يمكن ان يخرجوا” قالها إبراهيم، وأضاف “لكنني لا أستطيع الخروج.. لا املك شيئاً كما تعلم وليس لي مكان آخر آمن يمكنني الذهاب اليه.. هذه مدينتي ولدت وسأموت فيها.. خندقي هذا هو قبري.. أحيا فيه وأموت”.
وبحسب الإحصاءات غير الرسمية يعيش بمدينة الفاشر أكثر من مليون شخص، أجبرت الهجمات التي يشنها الدعم السريع على المدينة، والمصحوبة بالتدوين المدفعي والمسيرات على الأحياء السكنية والأعيان المدنية، نصف سكانها على النزوح للقرى حول الفاشر والمحليات المجاورة والولايات الأخرى. وكشفت مصفوفة تتبع النزوح عن نزوح نحو 256 أسرة من الفاشر في الفترة بين الأربعاء إلى الجمعة . وأوضحت المصفوفة إن النزوح جاء على خلفية تصاعد المعارك على الأحياء الشرقية والجنوبية في الفاشر، بما في ذلك معسكر أبو شوك وزمزم للنازحين.
وتسبب قصف قوات الدعم السريع لمعسكر زمزم بالمدفعية منذ الأسبوع الأول من شهر ديسمبر في فرار العديد من المعسكر ، إلى الفاشر أو إلى ريف المدينة، بينما فر البعض الاخر إلى طويلة وشنقل طوباي ودار السلام. وبحسب متطوعون في العمل المدني فقد عاد بعض الذين فروا في الأصل من الفاشر إلى زمزم ، الى مدينة الفاشر مرة اخري فيما انتقل البعض الآخر إلى معسكر “أبو شوك”، لكنه المعسكر هو الاخر يتعرض حاليا للقصف.
دارفور.
ينشر هذا التقرير بالتزامن في منصات المؤسسات والمنظمات الإعلامية والصحفية الأعضاء بمنتدى الإعلام السوداني
#SilenceKills #الصمت_يقتل #NoTimeToWasteForSudan #الوضع_في_السودان_لا_يحتمل_التأجيل #StandWithSudan #ساندوا_السودان #SudanMediaForum
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: آثار الحرب في السودان القوات المشتركة حرب الجيش والدعم السريع مدينة الفاشر المستشفى السعودی الدکتور إبراهیم الدکتور ابراهیم بمدینة الفاشر الدعم السریع مدینة الفاشر من الفاشر فی الفاشر من قبل
إقرأ أيضاً:
قطع المساعدات الأمريكية سيولد الإرهاب والجوع والموت
ترجمة: بدر بن خميس الظفري -
إن زلزالا بقوة 7.0 درجات أو أكثر، والفيضانات الأخيرة في آسيا والجفاف في أفريقيا كانت مدمرة وكارثية، لكنها لم تلحق ضررا بقدر الانسحاب المفاجئ لمليارات الدولارات من المساعدات الأمريكية من أكثر بؤر التوتر في العالم، ومن الأشخاص الأكثر ضعفاً. وبالتزامن مع خطة الرئيس ترامب للسيطرة على غزة، فإن إصرار الإدارة الأمريكية على إغلاق وكالتها للمساعدات الدولية يبعث برسالة واضحة مفادها أن العصر الذي كان فيه الساسة الأمريكيون يقدرون قوتهم الناعمة قد شارف على نهايته.
لكن بينما لا تزال خطة غزة مجرد فكرة على الورق، فإن تخفيضات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، التي ستشهد خفض التمويل والإبقاء على 290 فقط من بين أكثر من 10,000 موظف في جميع أنحاء العالم، وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، قد بدأت بالفعل تؤتي ثمارها السلبية هذا الأسبوع. فقد شهدنا توقف أعمال إزالة الألغام في آسيا، ووقف دعم قدامى المحاربين ووسائل الإعلام المستقلة في أوكرانيا، وقطع المساعدات عن لاجئي الروهينجا على حدود بنغلاديش. كما توقفت هذا الأسبوع شحنات الأدوية لمكافحة تفشي جدري القرود وإيبولا في أفريقيا، بينما تتعفن الأغذية المنقذة للحياة في الموانئ الأفريقية. حتى المبادرات التي تستهدف مكافحة تهريب المخدرات مثل الفنتانيل تم تقليصها. وتقول منظمة (براك)، إحدى أكثر الجمعيات الخيرية احتراماً في العالم، إن الحظر الشامل لمدة 90 يوماً على تقديم المساعدة للفئات الضعيفة يحرم 3.5 مليون شخص من الخدمات الأساسية.
ومع ذلك، فقد حصل برنامج حيوي واحد على إعفاء محدود، وهو برنامج (بيبفار) الذي أنشأه الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش، والذي يوفر أدوية مضادة للفيروسات لـ 20 مليون شخص حول العالم لمكافحة فيروس نقص المناعة المكتسب والإيدز. لم يُستثنَ هذا البرنامج من الحظر إلا بعد تحذيرات من أن التوقف لمدة 90 يوماً قد يؤدي إلى إصابة 136,000 رضيع بالفيروس. لكن لا يزال البرنامج محظوراً من تنظيم فحوصات الكشف عن سرطان عنق الرحم، وعلاج الملاريا والسل وشلل الأطفال، وتقديم المساعدة لصحة الأمهات والأطفال، والتصدي لتفشي أمراض إيبولا وماربورغ وجدري القرود.
لا يعني هذا القرار فقط أن الولايات المتحدة دمرت في غضون أيام عمل عقود طويلة من بناء سمعتها الطيبة حول العالم، بل يكشف أيضاً أن ادعاء ترامب بأن أمريكا كانت "سخية بشكل مفرط" مجرد مبالغة أخرى. فتتصدر النرويج قائمة أكبر المانحين للمساعدات الإنمائية الرسمية كنسبة مئوية من الدخل القومي الإجمالي بنسبة 1.09%، بينما تقدم بريطانيا حوالي 0.5%، بانخفاض عن الهدف الذي حددته الأمم المتحدة والبالغ 0.7%. أما الولايات المتحدة فتقع في أسفل قائمة الاقتصادات المتقدمة بنسبة 0.24%، إلى جانب سلوفينيا وجمهورية التشيك. ولكن نظراً لضخامة الاقتصاد الأمريكي، الذي يمثل 26% من الإنتاج العالمي، فإن هذه النسبة تعني أن إجمالي المساعدات الأمريكية يفوق أي دولة أخرى، إذ قدمت الولايات المتحدة 66 مليار دولار في عام 2023، ما جعل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية رائدة في المساعدات الإنسانية العالمية، والتعليم، والصحة، خاصة في التصدي لفيروس نقص المناعة المكتسب والملاريا والسل.
قال ترامب للصحفيين إن الوكالة كانت "تدار من قبل مجموعة من المجانين الراديكاليين، ونحن نتخلص منهم". وأضاف المتحدث باسمه: "لا أريد أن تذهب أموالي لهذا الهراء". أما أحد كبار مستشاري ترامب، إيلون ماسك، فقد وصف الوكالة بأنها "عش من الماركسيين الراديكاليين اليساريين الذين يكرهون أمريكا". وقال: "عليكم التخلص من كل شيء. هذه منظمة لا يمكن إصلاحها. نحن بصدد إغلاقها".
وفي منشور على منصة (إكس) الأسبوع الماضي، نشر ماسك لقطة شاشة تحتوي على ادعاء زائف بأن "أقل من 10% من أموال المساعدات الأجنبية التي تمر عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تصل فعلياً إلى المجتمعات المستهدفة". وكان الإيحاء بأن الـ 90% المتبقية تحول أو تسرق أو تهدر. لكن في الواقع، فإن نسبة الـ 10% هي فقط الجزء الذي يذهب مباشرة إلى المنظمات غير الحكومية والجهات المحلية في العالم النامي. أما الـ 90% الأخرى، فهي ليست مهدرة، بل تشمل جميع السلع والخدمات التي تقدمها الوكالة والشركات الأمريكية والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات المتعددة الأطراف، بدءاً من أدوية علاج فيروس نقص المناعة إلى المساعدات الغذائية الطارئة، وشبكات مكافحة الملاريا، وعلاج سوء التغذية. وبالتالي، فإن الادعاء بأن 90% من المساعدات تهدر أو لا تصل إلى المستضعفين هو ببساطة غير صحيح.
في الواقع، كان الأمر التنفيذي الأولي للحظر شاملاً لدرجة أنهم اضطروا إلى تعديله لاحقاً، حيث شملت الاستثناءات الأولية فقط المساعدات الغذائية الطارئة والتمويل العسكري لإسرائيل ومصر. وبعد موجة من الانتقادات، أضيفت استثناءات لما وصفته الحكومة بـ "المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة"، لكنها لم تحدد ماهيتها. وجاء في بيان لوزارة الخارجية الأمريكية: "نحن نستأصل الفساد، ونمنع البرامج الموجهة من قبل الأيديولوجيات اليسارية، ونكشف عن الأنشطة التي تتعارض مع مصالحنا الوطنية". أما وزير الخارجية الجديد، ماركو روبيو، فيريد الآن أن تسيطر وزارته على الميزانية بالكامل، وإغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية نهائياً. وقال روبيو: "هل يجعل هذا القرار أمريكا أكثر أماناً؟ هل يجعلها أقوى؟ هل يجعلها أكثر ازدهاراً؟"، في إشارة إلى تحول أمريكا من العمل متعدد الأطراف في عصر الأحادية إلى العمل الأحادي في عالم متعدد الأقطاب.
إن هذا الموقف الجديد ليس فقط "أمريكا أولاً"، بل "أمريكا أولاً وفقط"، وهو هدية لحركة حماس، وتنظيم داعش، والحوثيين، وجميع من يريدون إظهار أن التعايش مع الولايات المتحدة أمر مستحيل. كما أن الإغلاق يعد خبراً ساراً للصين، التي ستعزز مبادرتها التنموية العالمية، مما يضعها في موقع يسمح لها بحلول محل الولايات المتحدة. وسيلجأ اليائسون إلى المتطرفين الذين سيزعمون أن أمريكا لا يمكن الوثوق بها مجدداً. وبدلاً من جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، فإن إلغاء المساعدات لن يؤدي إلا إلى إضعافها.
المأساة الكبرى أن خفض المساعدات الأمريكية يأتي في وقت تتراجع فيه ميزانيات المساعدات في أغنى اقتصادات العالم، من ألمانيا إلى بريطانيا. فالوكالات الدولية تعاني نقص التمويل لدرجة أن الأمم المتحدة تمكنت من تغطية أقل من نصف هدفها الإنساني البالغ 50 مليار دولار لعام 2024، وذلك للعام الثاني على التوالي، في وقت تستدعي فيه زيادة الصراعات والكوارث الطبيعية المزيد من المساعدات أكثر من أي وقت مضى.
قد نتجادل حول كيفية تحقيق توزيع أكثر عدلاً لعبء المساعدات، لكن المزيد من التخفيضات يهدد بالمزيد من الوفيات التي يمكن تجنبها، كما أن العالم إذا أصبح أفقر سيجعل أمريكا أفقر في النهاية. غالباً ما يُنظر إلى السخاء الأمريكي على أنه مجرد عمل خيري، لكنه في الواقع يصب في مصلحة الولايات المتحدة، لأن إيجاد عالم أكثر استقراراً يعود بالنفع على الجميع.
• غوردون براون هو المبعوث الخاص للأمم المتحدة للتعليم العالمي، وكان رئيس وزراء بريطانيا بين عامي 2007 و 2010.