في مدرسة الحياة ثمة دروس لا تنسى، ومع ذلك هناك أيضا أشياء تدفن في مقبرة الذاكرة إلى الأبد، تبلى العظام، وتنصهر الأحداث في محرقة الذاكرة، كل هذا وذاك ينبع من منطلق «أن لا شيء يمكن أن يبقى على حاله حتى وإن طال الزمن»، فالأحوال تتغير والأحداث تتجدد لحظة بأخرى، هكذا تعلمنا في الدرس الأول لنا في مرحلة الوعي بمدرسة الحياة.

نتحدث كثيرا عما تعج به صفحات السابقين لنا في هذه الدنيا، أحيانا نراها أكثر إشراقا من الحاضر رغم صعوبتها، لكن ما أن ننعم النظر جيدًا حتى نكتشف بأن الماضي هو الذي أسس لنا الحاضر، ولذا تفتخر الأمم بأنها تبدأ مما انتهى به الآخرون.

جلنا يردد المقولات الرائعة والحكم المنمقة، في كثير من الأحيان نستفيد من تجربة الماضي؛ لأنها تعلمنا الدرس الجديد لنا في الحياة، فخبرات السنين تكشف لنا الصورة الكاملة في بعض الأشياء التي يمكن أن تكون منعطفًا مهمًا لنا سواء في مرحلة القوة أو الضعف، لذا نحن لا نستهين أبدا بعصارة الفكر القديم وبتجارب السابقين.

علميا وعمليا، محاولة إحصاء الدروس الماضية أمر بالغ الصعوبة وربما من المستحيلات؛ لأن مجالات الحياة متشعبة، لكن الشيء الراسخ أمامنا هو ما قاله المفكرون والفلاسفة والنوابغ من البشر في شأن الحياة وما فيها من بحر واسع يعطينا نظرة شمولية لوضع الإنسان وقيمته سواء في مجتمعه أو المجال الذي يعمل فيه.

والإنسان أينما وجد فهو ابن بيئته «حقيقة لا جدال فيها»، أما نتاج فكره وإنجازاته فهي للعالم ويستفيد منها البعيد والقريب، ومن أدق التفاصيل والدروس التي تعلمنا الحياة إياها أننا مهما وصلنا من المكانة والرفعة نظل بحاجة إلى استكشاف العالم واستخراج الدروس المستفادة من كل تجربة حياة نخوضها كل يوم.

علينا أن نقرأ لكي نفهم ما يدور في هذا العالم، وما فيه من أسرار يصعب علينا معرفتها بسهولة، وإذا كان لدينا بعض المعرفة فإننا نؤكد على المعلومة التي وصلتنا بشكل دقيق، أما إذا كنا نجهل المعلومة فعلينا أن نكشف عن وجهها اللثام فنتعلم شيئًا جديدًا، لذا يظل الفكر الإنساني يعج بالكثير من الحقائق التي تقدمها له التجارب الخالدة عبر الزمن، وما نتعلمه اليوم لا شك بأننا سنحتاج إليه غدا.

في بعض الحوارات الثقافية وحتى السياسية والاقتصادية، يتعمد المحاورون والضيوف ذكر بعض المقولات القديمة التي توصف الحالة التي يذهب هو وغيره للحديث عنها في ذلك اللقاء، ومن هنا أرى أن التمعن في لملمة هذه التجارب على هيئة مقولات عظيمة، هو أمر بالغ الأهمية؛ لأن مثل هذه المقولات تقدم خلاصة الفكر والتجربة.

قرأت ذات يوم مقولة أعجبتني؛ لأنها عبارة عن نصيحة تمنيت لو أستطيع أن أتمسك بها وأعمل قدر المستطاع بتطبيقها فهي تقول: «أربعة أشياء لا تتركها في حياتك وهي أولا: لا تترك الشكر فتحرم الزيادة وذلك مصداقا لقوله تعالى: «ولئن شكرتم لأزيدنكم»، أما النصيحة الثانية فهي: لا تترك ذكر الله فتحرم ذِكر الله لكَ، «فاذكروني أذكركم».

أما النصيحة الثالثة فهي: لا تترك الدعاء فتحرم الاستجابة، «ادعوني أستجب لكم»، والأخيرة: لا تترك الاستغفار فتُحرم النجاة «وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون».

ربما النصائح السابقة جميعنا بحاجة ماسة إليها، فمثل هذه المقولات لا تخرج إلا من أفواه الحكماء والعارفين بمقدار الإنسان في الحياة، ومع أننا نقرأ الكثير منها إلا أن مرحلة الإعجاب بها تزول سريعا، ربما لأننا لسنا بحاجة لها في تلك اللحظة، أو لأننا نريد أن نبحث عن الجديد الذي لا نعرفه، لكن ما أن تأتي أوقات صعبة علينا سرعان ما نعود بذاكرتنا إلى الوراء، هذه العودة المباغتة هي محاولة استدراك وتذكر لما قرأناه ذات يوم ولم نتمسك به، قد ننجح بنسب متفاوتة في تذكر ما نسيناه لحظيا، وأحيانا لا نستطيع استرجاع ما فقدناه من أقوال أثبت الزمن لنا أنها صحيحة مائة في المائة لكن لم نستفد بما أخبرنا عنه السابقون.

من المقولات التي أعجبتني أيضا ولم أتمكن من معرفة صاحبها لكثرة تداولها بين المغردين في منصات التواصل الاجتماعي، ولكن لعذوبتها وجمالها وجدت من المناسب ذكرها، حيث يقول كاتبها: «وضعت السكر في الشاي، ونسيت أن أحركه... وشربت منه فكان طعمه مرًا، ولكن مرارة الشاي لا تعني عدم وجود السكر فيه؛ لأنك بمجرد تحريك الشاي ستظهر حلاوته.. فالسكر موجود لكن يحتاج من يحركه.. كذلك الخير والحب موجود في نفوس أغلب الناس.. ولكنه يحتاج من يحركه.

حركوا الخير والحب في نفوسكم ونفوس من تحبون فستشعرون بحلاوة طعم حياتكم.. وتكتشفون الخير في شخصياتكم.. ما أنبل قطعة السكر!.. أعطت الشاي ما لديها ثم اختفت... هكذا المعروف... كن كقطعة السكر حتى وإن اختفت تركت أثرًا جميلًا.. فالبصمة الجميلة تبقى حتى وإن غاب صاحبها».

ما أود التركيز عليه هو أننا بحاجة ماسة دائمًا لرؤية الأشياء بعيون الآخرين، ليس لأننا نفتقد للبصيرة جميعا، ولكن من أجل فتح آفاق جديدة وطرقات أوسع للحياة، فما تراه أنت قد لا أراه أنا؛ ولذا نحن نختلف في نظرتنا للأشياء دون أن ندرك أن القرارات التي نصدرها أحيانًا لا يجانبها الصواب ولكن نتمسك بها عن جهل وقوة، لذا وجب علينا أن نفتح عيوننا وقلوبنا والاستفادة من الدروس والعبر السابقة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لا تترک

إقرأ أيضاً:

نجم النسر الواقع

لطالما كان للنجوم حضور قوي في الثقافة العربية، ولا تزال الكثير منها تحمل أسماء عربية حتى اليوم، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى في سورة الأنعام: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»، وارتبط العرب بالنجوم بشكل وثيق، فأطلقوا عليها أسماء ووصفوها بدقة، ولم يقتصر تأثيرها على علم الفلك وحسب، بل امتد أيضًا إلى الشعر والأدب، حيث تغنّى بها الشعراء وحيكت حولها الأساطير، مستخدمين إياها لرسم صور خيالية تربط بين النجوم وتوضح مواقعها في السماء ضمن حكايات وقصص مشوقة.

والنجم الذي نتحدث عنه اليوم هو نجم النسر الواقع، ويقع هذا النجم في كوكبة القيثارة، وقد اعتمد عليه العرب في الزراعة وتحديد المواسم، وهو جزء من «مثلث الصيف» الشهير في السماء الذي تمثله ثلاثة نجوم وهي النسر الواقع، والنسر الطائر الذي يقع في كوكبة العقاب، وذنب الدجاجة، ويحتل النسر الطائر المرتبة الخامسة من حيث لمعانه في السماء، وأما من حيث التسمية فكلمة الواقع تعني الهابط، أو الساقط، فجاء هذا الاسم لأن النجم يُرى وكأنه نسر يهبط أو ينقض على فريسته، وهذه التسمية تعكس طريقة العرب في ربط النجوم بالصور التي يتخيلونها في السماء، وهو جزء من إرثهم الفلكي العريق.

ويبدأ هذا النجم بالظهور في فصل الربيع قبل الفجر في نصف الكرة الشمالي، ويصبح واضحًا في الصيف، حيث يكون في أعلى السماء بعد غروب الشمس، ويظهر في نصف الكرة الجنوبي، لكن يكون منخفضًا على الأفق، وأما عن المعلومات الفلكية لهذا النجم فإن قطر النسر الواقع حوالي 2.7 ضعف قطر الشمس، ما يجعله أكبر بكثير من شمسنا، كما أن درجة حرارة سطحه تبلغ حوالي 9,600 كلفن، وهو أكثر حرارة من الشمس التي تبلغ حرارتها حوالي 5,778 كلفن، وبسبب هذه الحرارة العالية، يشع النجم بلون أبيض مزرق، ويبعد عن الأرض حوالي 25 سنة ضوئية ولذلك يعد أحد أقرب النجوم اللامعة إلينا، ولأن الثقافة العربية تحتفي بالكائنات الحية التي تعيش في بيئتها فإنها لم تغفل ذكر هذا الطائر الذي يعد من الطيور الجارحة في أشعارها وأمثالها، ولم تكتف بذلك بل قرنت بين النسر الذي يحلق في السماء وبين نجم النسر، وذكره الشعراء في قصائدهم، فنجد مثلا الشاعر المخضرم الذي عاش في الجاهلية والإسلام الشَّمَّاخ بن ضِرار الذُّبْياني يذكر نجم النسر الطائر والواقع ويجمع بينهما بلفظ «النسران»، فيقول:

قد بيَّن الليل وبُعْدُ الغَيْطان

بيْن المُزَجَّى والنَّجِيب المِعْوَان

مثل المثاقِيل بشِقِّ المِيزَان

كأنَّها وقد تدلَّى النِّسران

وكذلك الشاعر العباسي أبو العلاء المعري يقرن نجم النسر مع نجم السها ويجعلهما شاهدين على الزمان فقال:

سوف ألقى مِن الزمان كما لا

قوا بعُنف لا يستقال ودسر

ولو إني السها أو النسر قد شا

هَدتُ عصرينِ من يغوث ونسر

كما نجد الشاعر ابن الرومي يمدح أحدهم ويقرن نجم النسر بالفرقدين فـيقول:

أنت الذي أنزلتهُ همتُهُ

منزلة الفَرقدين والنسرِ

وأنت فـي عِفَّة السريرة وال

علم شبيه بجدك الحَبرِ

أما في المنظمات الفلكية فنجد الشاعر أبو الحسين الصوفي الذي عاش في العصر العباسي يقول:

لأن تلك النجوم المضيئة

تدفع عنها جهدها الأذية

والنسر أيضًا عاطف عليه

والذئب غير واصل إليه

وقال الشاعر الحافظ ابن حجر العسقلاني، الذي عاش في الزمن المملوكي وهو يمدح رجلين ويثني عليهما ويقول إن النسرين وهما نسر السماء وهو النجم، ونسر الأرض الذي يطير فقال:

لَهفـي عَلى مَن حَديثي عَن كمالهما

يحيي الرَميم ويلهي الحيّ عن سمرِ

اِثنان لم يَرتَق النسران ما اِرتقيا

نسرُ السما إِن يلُح وَالأَرضِ إِن يَطِرِ

وأما الشاعر ابن نباتة المصري الذي عاش فـي العصر المملوكي أيضًا فـيقول فـي مدح أحدهم:

إذا شمت منه طلعةً علويةً

فغالِ الثنا وأرفض سنا الأنجم الزهر

إذا ما علاءُ الدّين حام فخاره

فسل ثم عن نسرِ الكواكب لا النسر

وفي العصر الحديث فقد ذكر هذا النجم الشاعر عبدالباقي العمري الموصلي وقد قرنه بنجم العيوق فقال:

وحضيض القدر لم يرتفع

كعمود الصبح من حيث ارتفع

سقط العيوق والنسر وقع

كما رأينا البدر لما أن سطع

مقالات مشابهة

  • عملية نوعية بالعبر.. أخطر عصابات التهريب تقع في قبضة القوات المسلحة
  • الشرطة الأمريكية تترك لص وتطارد أحد العابرين بالخطأ ..فيديو
  • استشاري تغذية: تناول التمر على الإفطار لا يرفع السكر في الدم.. ولكن
  • نجم النسر الواقع
  • نصر عبده: غزة لأهلها ومصر دائمًا لها مواقف ثابتة تجاه القضية الفلسطينية
  • حظر الملاحة الإسرائيلية يعكس الدور المحوري لليمن في دعم فلسطين
  • وحدة الموقف العراقي من التطورات السورية
  • أسعار العملات العربية والأجنبية أمام الجنيه اليوم.. الأربعاء 12-3-2025
  • هل يقلل شرب الشاي بعد السحور من الشعور بالعطش؟.. فقدان السوائل
  • عز بـ 39000 جنيه.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأربعاء 12 - 3 - 2025