الخروج الثاني: عواقب أجندة ترامب في مناهضة المناخ على إفريقيا
تاريخ النشر: 9th, January 2025 GMT
إن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تُرسل إشارات سلبية عبر مجتمع المناخ العالمي، وتُلقي بظلالها المثيرة على نتائج قمة “كوب 29” التي انعقدت في باكو عاصمة أذربيجان خلال الفترة من 11 إلى 22 نوفمبر 2024. وقد شهدت قمة المناخ في العاصمة الأذرية بالفعل خلافات عميقة بين الدول المتقدمة والدول النامية حول التمويل.
يأتي هذا التراجع في منعطف حرج حيث يكافح العالم بالفعل لتحقيق هدف اتفاقية باريس المتمثل في الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية. وعليه فإن تداعيات فوز ترامب تمتد إلى ما هو أبعد من حدود الولايات المتحدة، مع عواقب وخيمة بشكل خاص على الدول النامية والمجتمعات الضعيفة في الخطوط الأمامية لأزمة المناخ. كما أن التخفيضات المحتملة التي قد تفرضها إدارته على تمويل المناخ الدولي ومقاومة أهداف خفض الانبعاثات الطموحة تهدد بتفاقم التفاوتات القائمة وترك أولئك الأقل مسؤولية عن تغير المناخ يتحملون أعباءه الثقيلة.
يسعى هذا المقال إلى استشراف كيف يمكن لأجندة ترامب المناخية أن تؤدي إلى تفاقم التحديات القائمة، وبشكل خاص في إفريقيا، وما يعنيه ذلك لمستقبل القارة.
موقف ترامب المناخي:
كان دونالد ترامب –ولا يزال- مشككاً صريحاً في تغير المناخ، ووصفه بأنه “خدعة”، وأشار إلى أن المخاوف بشأن ارتفاع مستويات سطح البحر مبالغ فيها. وعليه كان انسحاب إدارته من اتفاقية باريس في عام 2017 مؤشراً واضحاً على رؤيته لسياسة المناخ، وإعطاء الأولوية للمكاسب الاقتصادية قصيرة الأجل على الاستدامة البيئية طويلة الأجل. وخلال فترة ولايته الأولى، تراجع ترامب عن العديد من اللوائح التي تهدف إلى الحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري العالمي، مفضلاً صناعة الوقود الأحفوري ومقوضاً الجهود العالمية لمكافحة تغير المناخ. فعلى سبيل المثال، في عام 2020، أحصت مؤسسة بروكينغز 74 إجراءً من إجراءات إدارة ترامب التي أضعفت حماية البيئة في الولايات المتحدة؛ مدفوعة إلى حد كبير بخطة الطاقة الأمريكية الأولى. وقد تمثلت هذه الخطة في حزمة لإنقاذ وتمكين سلسلة قيمة الوقود الأحفوري في الولايات المتحدة. وشملت التدابير إعادة فتح مناجم الفحم، وإزالة القيود المفروضة على التنقيب عن النفط والحفر، والحد من اللوائح المناخية والبيئية.
في تصريحاته الأخيرة أثناء السباق الرئاسي، كرر ترامب اعتقاده بأن تغير المناخ ليس قضية ملحة بالنسبة للولايات المتحدة، مدعياً أن “المحيط سوف ينخفض بمقدار مئة جزء من البوصة خلال الأربعمئة عام القادمة”. وتعكس مثل هذه التصريحات سوء فهم أساسي لإلحاح العمل المناخي وتداعياته العالمية. وبينما يستعد ترامب للانسحاب المحتمل من الاتفاقيات الدولية مرة أخرى؛ فإن العواقب على المناطق التي تكافح بالفعل تأثيرات المناخ -مثل إفريقيا- قد تكون وخيمة.
تغير السياسات:
إن عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة تحمل في طياتها تداعيات كبيرة على تغير المناخ، وخاصة فيما يتصل بدور الولايات المتحدة في مبادرات المناخ العالمية. فمن المتوقع أن تعطي إدارته الأولوية لإنتاج الوقود الأحفوري، كما هو موضح في مشروع 2025، الذي يؤكد “إطلاق العنان لإنتاج الطاقة الأمريكية لخفض أسعار الطاقة”. وتشمل هذه الأجندة خططاً لتفكيك أو تقليص حجم الوكالات الفدرالية الحاسمة مثل الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي والوكالة الفدرالية لإدارة الطوارئ، واللتان تؤدي كل منهما دوراً حيوياً في إدارة الكوارث والبحوث المتعلقة بالمناخ. وقد يؤدي نهج ترامب إلى عكس سياسات إزالة الكربون، وخفض الاستثمارات العامة في البحوث المناخية، والانسحاب المحتمل من الالتزامات الدولية الرامية إلى التخفيف من تغير المناخ. والواقع أن العواقب المترتبة على مثل هذه الإجراءات وخيمة، وخاصة بالنسبة للمناطق المعرضة للخطر مثل إفريقيا، التي تعاني بالفعل من التأثيرات الشديدة لتغير المناخ على الرغم من مساهمتها الضئيلة في الانبعاثات العالمية.
ولكن وفق تقديرات معهد الدراسات الأمنية في جنوب إفريقيا؛ فإن سياسات ترامب بشأن تغير المناخ تتشكل من خلال قوى متناقضة قد تخفف من حدة مواقفه المؤيدة للوقود الأحفوري؛ إذ على الصعيد المحلي، لا يمكن تجاهل المكاسب الاقتصادية من قانون خفض التضخم الذي يعمل على دفع استثمارات الطاقة النظيفة. وبحلول عام 2050، من المتوقع أن يحقق قانون خفض التضخم 5 تريليونات دولار من الفوائد الاقتصادية العالمية، والحد من التلوث، وتحسين النتائج الصحية، مع خفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري بنسبة 43% بحلول عام 2030. وهناك عامل رئيسي آخر يتمثل في التأثير المتزايد للكوارث المرتبطة بالمناخ، والتي كلفت الولايات المتحدة 2.785 تريليون دولار وأودت بحياة ما يقرب من 17 ألف شخص منذ عام 1980. وهذه الحقائق، إلى جانب الحتمية الجيوسياسية المتمثلة في التخلص من الكربون، تدفع القوى العالمية مثل أوروبا والصين إلى إعطاء الأولوية للنمو الأخضر كاستراتيجية للهيمنة الاقتصادية والاستراتيجية. ومن جهة أخرى قد يؤدي تأثير شخصيات مثل إيلون ماسك، المدافع الصريح عن الحلول منخفضة الكربون وحليف ترامب، إلى زيادة التأثير في موقف الإدارة. وفي حين قد يسعى ترامب في البداية إلى سياسات صديقة للوقود الأحفوري وربما ينسحب من اتفاقية باريس؛ فإن الحقائق الاقتصادية والجيوسياسية قد تدفع إلى التحول التدريجي باتجاه سياسات الطاقة النظيفة.
تهديدات المناخ الإفريقية:
تُعد إفريقيا واحدة من أكثر القارات عرضة لتغير المناخ، حيث تواجه تهديدات مثل الأحداث الجوية المتطرفة وارتفاع درجات الحرارة وانعدام الأمن الغذائي. وبالفعل حذرت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ من أنه من دون جهود عالمية كبيرة للحد من الانبعاثات، قد تشهد إفريقيا موجات جفاف شديدة وفيضانات وموجات حر تهدد سبل العيش وتفاقم الفقر. ولا يخفى أن اعتماد القارة على الزراعة يجعلها عرضة بشكل خاص لتقلبات المناخ.
إذ تعتمد العديد من الدول الإفريقية على الزراعة التي تعتمد على الأمطار، والتي أصبحت غير قابلة للتنبؤ بشكل متزايد بسبب أنماط الطقس المتغيرة. وبينما يتجاهل ترامب أهمية تغير المناخ؛ فإن المزارعين الأفارقة يشهدون بالفعل التأثيرات المدمرة لهطول الأمطار غير المنتظمة والجفاف الممتد. على سبيل المثال، واجهت دول مثل إثيوبيا والسودان حالات جفاف متكررة أدت إلى فشل المحاصيل ونقص الغذاء.
وإضافة إلى ذلك، فإن التراجع المحتمل من جانب ترامب عن تمويل الولايات المتحدة للمبادرات المناخية الدولية قد يعوق الدعم الحاسم للدول الإفريقية التي تعمل على التكيف مع هذه التحديات. لقد أسهمت الولايات المتحدة تاريخياً بدور مهم في تمويل مشروعات المرونة المناخية في جميع أنحاء القارة. وعليه فإن خفض المساعدات قد يترك العديد من البلدان من دون الموارد اللازمة لتنفيذ استراتيجيات التكيف أو الاستثمار في البنية التحتية المستدامة.
من جهة أخرى قد يكون لموقف ترامب المؤيد للوقود الأحفوري آثار اقتصادية أوسع على إفريقيا. فالقارة غنية بإمكانات الطاقة المتجددة -من الطاقة الشمسية في الصحراء الكبرى إلى طاقة الرياح على طول سواحلها- لكنها تتطلب الاستثمار ونقل التكنولوجيا من الدول المتقدمة لتسخير هذه الموارد بشكل فعال. بيد أن تركيز ترامب على توسيع إنتاج الوقود الأحفوري في الولايات المتحدة قد يعرقل التعاون الدولي في مبادرات الطاقة المتجددة. وإضافة إلى ذلك؛ إذا نفذ ترامب وعده بالانسحاب من الاتفاقيات الدولية مثل اتفاق باريس مرة أخرى، فقد يقوض الالتزامات العالمية بخفض الانبعاثات ودعم انتقالات الطاقة النظيفة. وسيكون ذلك ضاراً بشكل خاص للدول الإفريقية التي تسعى جاهدة لتحقيق أهدافها المناخية الخاصة مع موازنة احتياجات التنمية الاقتصادية.
مستقبل محفوف بالخطر:
إذا بدأ دونالد ترامب ولايته الثانية -كما وعد- بأجندة واضحة مناهضة للمناخ؛ فإن العواقب المترتبة على إفريقيا وغيرها من المناطق الأكثر تضرراً من تغير المناخ سوف تكون عميقة. إن رفضه لتغير المناخ باعتباره قضية ملحة لا يهدد السياسة الداخلية للولايات المتحدة فحسب؛ بل يهدد أيضاً الجهود العالمية لمكافحة أحد أهم التحديات التي تواجه البشرية. فبالنسبة لإفريقيا -التي تكافح بالفعل نقاط ضعف شديدة- فإن التراجع المحتمل للدعم الدولي قد يؤدي إلى تفاقم الأزمات القائمة المتعلقة بالأمن الغذائي وندرة المياه وعدم الاستقرار الاقتصادي. وفي حين أن خطاب ترامب قد يشير إلى مستقبل قاتم للعمل المناخي العالمي؛ فإنه يقدم أيضاً فرصة للدول الأخرى لإعادة تأكيد التزامها بالاستدامة والمرونة. ومن المؤكد أن مكافحة تغير المناخ تتطلب عملاً جماعياً يتجاوز التغيرات السياسية؛ ومن الضروري أن يعطي القادة في جميع أنحاء العالم الأولوية للتعاون على الميول الانعزالية. وفي نهاية المطاف، سيعتمد مستقبل إفريقيا على قدرتها على التكيف مع الظروف المتغيرة مع الدعوة إلى حلول عادلة على الساحة العالمية. وبينما نواجه جميعاً مستقبلاً غير واضح المعالم تشكله قرارات سياسية ضيقة، يجب أن نظل ملتزمين بحماية كوكبنا وسكانه الأكثر ضعفاً؛ لأنه عندما يتعلق الأمر بتغير المناخ؛ فإنه حقاً مشكلة الجميع سواء بسواء.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
ليس الخطأ في الجولاني بل في القوى التي دعمته
آخر تحديث: 8 يناير 2025 - 9:58 ص بقلم: فاروق يوسف هل كانت الولايات المتحدة جادة في حربها على الإرهاب؟ بدأ الأمر اضطرارا وبطريقة مربكة لكل الأجهزة الأمنية والاستخبارية الأميركية. فالتنظيمات والجماعات الإسلامية المتطرفة التي تم استحداثها أو بث الروح فيها من خلال التمويل والإعداد والتدريب والحماية والرعاية والإمداد من أجل محاربة السوفييت الذين احتلوا أفغانستان قلبت المعادلات الجاهزة وشقت سماء العالم بغزو نيويورك. كان ذلك الحدث الذي ينتمي إلى عالم الخيال وسينما الرعب عبارة عن جرح عميق انطوى على الكثير من الفشل والخيبة والمرارة والشعور بخسارة ثمار نهاية الحرب الباردة. لقد تمت إزاحة الاتحاد السوفييتي ومنظومة دول حلف وارسو غير أن ذلك الانتصار بدا عام 2001 كما لو أنه معبّأ بالألغام التي نسيت الولايات المتحدة أن تفككها وتتخلص من أخطارها. كان من الغباء السياسي أن تلجأ الولايات المتحدة إلى الثأر من خلال التعبئة لاستعادة دور المستعمر الجديد الذي لا هدف له سوى التدمير. فكان أن نتج عن خلط الأوراق احتلال أفغانستان ومن ثم العراق ليكون ذلك فاتحة لحرب مجانية على الإرهاب. حتى بعد هزيمتها في أفغانستان عام 2021 لم تراجع الولايات المتحدة سجل حساباتها وهي كقوة عظمى غير معنية بالنظر إلى الوراء. ذلك لأنها قادرة على أن تفعل ما تشاء ومتى تشاء من غير مساءلة. غير أن فلسفتها في التعامل مع الإرهاب كانت قد ضربت في العمق قبل أن تعود طالبان إلى الحكم من خلال تسليمها بوجود الميليشيات الإيرانية في العراق ولبنان وسوريا. كان هناك سلوك مجاني اتبعته الإدارة الأميركية في تصنيف المنظمات الإرهابية بحيث أن قواتها كانت تقاتل في الموصل جنبا إلى جنب مع ميليشيات إيرانية ضد تنظيم داعش. ذلك ما يعيدنا إلى نظرية الكيل بمكيالين. هناك إرهاب طيب يقابله إرهاب شرير. تلك هي النظرية الأميركية التي يستند إليها الميزان الذي يحدد درجة الإرهاب ومستوى ما ينطوي عليه من خطر. وما نسمع عنه بين حين وآخر من أن جماعة أو منظمة مسلحة قد تم إدراجها في قائمة الإرهاب أو على العكس تمت إزالة اسمها من تلك القائمة إنما هو تعبير عن مزاج أميركي في إدارة العالم لا تحكمه الأخلاق ولا القيم ولا المبادئ الثابتة. ومن هذا المنطلق يمكننا الحكم على الرؤية الأميركية في ما يتعلق بما شهدته سوريا من تحولات. كانت جبهة النصرة مدرجة في قائمة التنظيمات الإرهابية غير أن ذلك لم يمنع من دعمها وقد تحولت إلى هيئة تحرير الشام في دولتها في إدلب ولا في تدريب كوادرها لسنتين من أجل حكم سوريا. أما حين تمت بروزة زعيمها أبومحمد الجولاني باعتباره قائدا للمرحلة الانتقالية فلم يعد النظر إلى القائمة ضروريا. كان الجولاني مطلوبا لقاء مكافأة معلنة لمَن يدلي بمعلومات تساعد على القبض عليه. أما اليوم فإنه الزعيم الذي يقابله سياسيون رفيعو المستوى مجبرين من أجل إضفاء شرعية على النظام الذي يقوده. وهو ما يعني أن الإدارة الأميركية ليست مهتمة بوجود تناقض فاضح ما بين رؤيتها للإرهاب وبين ما تفعله على أرض الواقع والذي يعد دعما علنيا لشخص لا يزال اسمه مدرجا على قائمة الإرهاب. ألا يكفي ذلك السلوك لتعزيز الفكرة التي تقول إن الولايات المتحدة هي التي أشرفت بشكل مباشر على كل الصفقات المبيتة التي تمت من خلالها عملية إزاحة نظام بشار الأسد ووضع سوريا في قبضة تنظيم ظلامي متشدد، كل أعضائه إرهابيون؟ ولم يكلف الجولاني نفسه عناء إخفاء حقيقة تنظيمه وقد صار واجهة قانونية لسوريا. بالنسبة له المجاهدون أولا بغض النظر عن جنسياتهم وانتماءاتهم العرقية. ومثلما حكم التنظيم إدلب فإنه سيحكم سوريا بالطريقة نفسها وبالشريعة نفسها وبالأسلوب نفسه. أما الجمل التي يتداولها سوريون في مواقع الاتصال الاجتماعي والتي تدور حول سوريا التي عادت لشعبها وسوريا التعددية والديمقراطية والشعب الذي سيكون حرا في اختيار نوع وطبيعة النظام الذي سيحكمه فكلها جمل غير ملزمة للجولاني ولن تحرفه عن مشروعه.فالرجل الذي سُلمت له دمشق يعرف أنه مدعوم من قبل قوى عالمية وإقليمية تعرف من هو وكيف يفكر وما هي أهدافه وتعرف جيدا أن تمرده لا علاقة له بما يحلم به السوريون من إقامة دولة مدنية أساسها المواطنة التي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال العدالة الاجتماعية.