محور نتساريم.. هنا خط الشهداء
تاريخ النشر: 9th, January 2025 GMT
غزة- مراسل «عُمان» - بهاء طباسي: بين ركام المنازل المدمرة ووسط هدير الطائرات الحربية، فقدت أم سارة ابنتها ذات الأعوام العشرة، التي كانت ذاهبة لإحضار الدواء لجارتهم المسنة. على محور نتساريم، الذي يشطر قطاع إلى نصفين، لقيت الصغيرة مصرعها برصاصة اخترقت صدرها.
قصة الطفلة سارة والتلميذ أحمد
تقول أم سارة: «لم يتركوا لنا حتى فرصة لوداعها، لقد أُخذت من أمام عيني دون رحمة».
أما أحمد ياسين، التلميذ ذو الأربعة عشر عامًا، فقد خرج بحثًا عن والده الذي تأخر في العودة من السوق.
يقول عمه: «كان يعتقد أن بإمكانه مساعدتنا، لكنه لم يعرف أن هذا الطريق هو «خط الموت» الصهيوني». يتابع عمه بحرقة عُثر على جثمان أحمد قرب حاجز ترابي في محور نتساريم، وعليه آثار تعذيب وإعدام ميداني.
مأساة موثقة: خط الجثث عند محور نتساريم
تُعد منطقة نتساريم في شمال قطاع غزة من أكثر المناطق التي شهدت فظائع الحرب الإسرائيلية الأخيرة. وصفها أحد ضباط الفرقة 252 الإسرائيلية لصحيفة «هآرتس» العبرية بأنها «منطقة قتل»، حيث يُطلق النار على أي فلسطيني يدخلها دون تمييز.
وتحدث الضابط ذاته، الذي لم تسمه الصحيفة العبرية، عن ترك الجثث لتأكلها الكلاب. بينما أشار ضابط آخر إلى سباق بين الوحدات العسكرية الإسرائيلية لقتل أكبر عدد من الفلسطينيين في تلك المنطقة.
ومحور نتساريم هو منطقة استراتيجية تقع شمال قطاع غزة، وكان يُعد سابقًا أحد الطرق الرئيسية التي تربط الشمال ومدينة غزة بجنوب القطاع. أُطلق على المنطقة هذا الاسم نسبة إلى مستوطنة نتساريم التي أُقيمت هناك في سبعينيات القرن الماضي، والتي أصبحت مركزًا للتوتر والاشتباكات المستمرة بين الفلسطينيين والمستوطنين.
يبدأ محور نتساريم من المنطقة المقابلة لكيبوتس «بئيري» شرقًا، ويمتد عبر قطاع غزة وصولًا إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط غربًا. وتبلغ المساحة الإجمالية للممر الذي يشق قطاع غزة عبر محور نتساريم حوالي 56 كيلومترًا مربعًا.
بعد انسحاب المستوطنين الإسرائيليين من غزة عام 2005، تحولت المنطقة إلى نقطة تماس عسكرية بين الجيش الإسرائيلي والفلسطينيين. وتدريجيًا أصبحت نتساريم منطقة عازلة ومغلقة، حيث يمنع على الفلسطينيين الاقتراب منها، مما حولها إلى «منطقة قتل». وإبان حرب السابع من أكتوبر 2023 تحولت إلى مسرحٍ كبير لجرائم جيش الاحتلال.
هذا التقرير يسلط الضوء على مأساة «خط الموت» عند محور نتساريم، من خلال شهادات ميدانية موثقة، بالإضافة إلى ما نشرته الصحافة الإسرائيلية عن هذه جرائم جيش الاحتلال في المنطقة.
تصنيف نتساريم: منطقة قتل محظورة
وفقًا لتصريحات نشرتها «هآرتس»، صرّح أحد الضباط الإسرائيليين في الفرقة 252 بأن نتساريم تُعتبر منطقة قتل: «نقتل أي شخص يقترب، سواء كان مسلحًا أو مدنيًا».
وأوضح: «لا نتحقق من هويات القتلى إلا بعد إطلاق النار. تُترك الجثث لتتعفن، ونرسل صورها كجزء من تقارير العمليات».
هذه الشهادات تعكس سياسة ممنهجة تتبعها القوات الإسرائيلية في التعامل مع المدنيين الفلسطينيين.
وتؤكد أن محور نتساريم قد تحول إلى «خط الجثث»، حيث تُرتكب أبشع الجرائم بحق الإنسانية.
إعدامات ميدانية وتصوير جثث
أفاد أحد الضباط الإسرائيليين لصحيفة «هآرتس»: «لدينا أوامر بإرسال صور الجثث إلى القيادة العسكرية، وقد أرسلنا أكثر من 200 صورة لقتلى. لكن بعد التحقيق، تبين أن 10 فقط من هؤلاء كانوا ينتمون لحركة حماس، والبقية مدنيون».
يقول الضابط: «الصور تُستخدم لتبرير العمليات العسكرية أمام القيادة، لكنها تكشف لنا الحقيقة المؤلمة. أغلب الضحايا كانوا من المدنيين الذين لم يشكلوا أي تهديد. كان بعضهم أطفالًا ونساءً في طريقهم لمنازلهم أو أثناء بحثهم عن لقمة عيش».
ويوضح الضابط: «هذه العمليات تعكس مدى تدهور الأخلاقيات في بعض الوحدات، حيث يتم تجاوز كل الخطوط الحمراء بحجة الأمن».
تُظهر التقارير العبرية أن هذا النهج المُمنهج في التعامل مع المدنيين الفلسطينيين يهدف إلى تعزيز قوة الردع الإسرائيلية، لكنه في الوقت نفسه يُفقد الجيش الإسرائيلي صورته أمام المجتمع الدولي ويبرز حجم الانتهاكات الإنسانية التي تحدث في قطاع غزة.
أسرة الطفل محمود
تروي والدة الطفل محمود العالول، البالغ من العمر 12 عامًا، كيف خرج ابنها لجمع الحطب قرب نتساريم ولم يعد: «كان الطقس باردًا ولم يكن لدينا أي وسيلة للتدفئة. فجأة، سمعنا صوت إطلاق نار، ثم صمت».
تتوقف الأم لالتقاط أنفاسها بينما تنهمر دموعها، ثم تضيف لـ«عُمان»: «كنا نعلم أن الوضع خطير، لكننا لم نتخيل أن يُقتل طفل صغير فقط لأنه يحاول مساعدتنا».
وتتابع: «بعد يومين من البحث، تمكن بعض الجيران من العثور على جثمان محمود. كان مشهد الجثة مؤلمًا للغاية. لقد شوهته الكلاب».
وتتابع بألم: «لم أستطع التعرف عليه في البداية. رأيت يده الصغيرة التي كانت تحمل الحطب، وتحولت إلى دليل على بشاعة ما حدث».
تختتم الأم شهادتها بحسرة: «تركوه ليكون عبرة لغيره، لكنهم قتلوا كل ما تبقى لنا من أمل. لم يكن محمود سوى طفل يبحث عن الدفء، لكنه انتهى ضحية لهذه الحرب الظالمة».
أسرة الصياد حسن
حسن خالد، شاب يبلغ من العمر 19 عامًا، كان يعمل صيادًا ليعيل أسرته بعد وفاة والده. تقول والدته لـ«عُمان»: «كان حسن يخرج كل صباح ليجلب لنا ما تيسر من رزق البحر. في ذلك اليوم المشؤوم، ذهب كعادته ولكنه لم يرجع».
رُصد حسن قرب منطقة نتساريم، حيث تعرض لإطلاق النار دون سابق إنذار. تقول شقيقته: «حاولنا الاتصال به مرارًا ولكن هاتفه كان مغلقًا. لم نعلم ما حدث حتى عثر أحد الصيادين على جثته ملقاة على الشاطئ».
تصف العائلة الجثمان قائلة: «كان مشوهًا بطريقة لا يمكن تصورها. رصاصة اخترقت رأسه، وآثار العنف واضحة على جسده. تركوه هناك حتى تحولت جثته إلى طعام للطيور».
«كيف يمكن أن يتحول شاب بريء إلى هدف عسكري؟»، تسأل والدته بصوت منكسر: «حسن لم يكن يحمل سلاحًا، بل كان يحمل شبكته ليطعمنا. لقد قتلوا مستقبلنا وأملنا في الحياة».
أسرة الطفلة ليلى
كانت زكية العيش تبلغ من العمر 8 سنوات فقط عندما قررت مرافقة والدتها إلى السوق لشراء بعض الخضروات.
يقول والدها: «كانت سعيدة بالخروج من المنزل بعد أيام من الحصار. لم نكن نعلم أن هذا سيكون آخر يوم لها بيننا». على طريق العودة، تعرضت ليلى ووالدتها لإطلاق نار عشوائي. أُصيبت زكية برصاصة قاتلة بينما كانت تمسك بيد والدتها.
تقول الأم وهي تكافح لكبح دموعها: «شعرت بيدها تفلت من يدي، حاولت أن أحملها وأهرب، لكنهم استمروا في إطلاق النار».
ويوضح الأب بحزن: «تركنا ليلى على الطريق بعدما أجبرونا على المغادرة. عندما عدنا بعد ساعات، وجدنا جثمانها وقد مزقته الكلاب. كيف يمكن أن يُقتل طفل بهذه الوحشية؟».
هآرتس توثق جرائم نتساريم
نشرت صحيفة «هآرتس» تقارير عدة توثق الجرائم في محور نتساريم، بما في ذلك تصريحات لضباط اعترفوا علنًا بوجود سباق بين الوحدات العسكرية لقتل أكبر عدد من الفلسطينيين. وجاء في أحد تقارير الصحيفة: «نتساريم ليست ساحة حرب فقط، بل أصبحت مكانًا لتصفية الحسابات وتأكيد التفوق العسكري بأي ثمن».
وأكدت الصحيفة أن الجنود في بعض الوحدات تلقوا تعليمات صريحة بإطلاق النار على كل من يقترب من المحور دون التأكد من هويته. كما أشارت إلى أن القيادة الإسرائيلية لم تتخذ أي خطوات لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، مما يعكس تساهلًا واضحًا مع هذه الانتهاكات.
الجانب الإنساني والجرح الغائر
المآسي التي شهدها محور نتساريم ليست مجرد أرقام في سجلات الضحايا؛ إنها قصص إنسانية تعكس وجعًا عميقًا. «لا نعرف كيف نستمر»، تقول أم الطفلة سارة. أما عائلة التلميذ أحمد، فتعبر عن أملها بأن تُحاسب الجهات المسؤولة عن هذه الجرائم.
منظمة العفو الدولية (أمنستي) أفادت أن معظم الضحايا الذين سقطوا في محور نتساريم كانوا من الفئات الأكثر ضعفًا، مثل الأطفال وكبار السن، مما يعكس استهدافًا مباشرًا للمدنيين دون مبرر عسكري واضح.
المنظمة الحقوقية الدولية وثقت العديد من حالات القتل والإعدام الميداني في منطقة نتساريم، مشيرة إلى أنها ترقى إلى جرائم حرب.
وأكدت تقاريرها أن الجيش الإسرائيلي استخدم القوة المفرطة ضد المدنيين العُزل. كما أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش (أكبر منظمة حقوقية في الولايات المتحدة الأمريكية) بيانات تُدين فيها الانتهاكات الإسرائيلية ضد المدنيين في قطاع غزة، مشددة على ضرورة محاسبة المتورطين.
عدالة غائبة وأمل بالمحاسبة
بينما تظل الجثث شاهدة على وحشية القتل في محور نتساريم، تبقى هذه الجرائم وصمة عار على جبين الإنسانية. المطلوب الآن ليس فقط توثيق هذه الانتهاكات، بل أيضًا محاسبة المسؤولين عنها أمام المحاكم الدولية، وضمان أن تصل أصوات الضحايا إلى العالم.
هذا التقرير لا ينقل فقط تفاصيل الألم والمعاناة، بل يوجه دعوة إلى الضمير الإنساني للتحرك من أجل وقف هذه المأساة وضمان أن لا تتكرر مرة أخرى.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی محور نتساریم منطقة قتل
إقرأ أيضاً:
خيبة أمل السلطة وأبواقها: انسحاب الاحتلال من محور نتساريم
تمر السلطة الفلسطينية ومن يدور في فلكها بمرحلة من الخيبة العميقة، بعد أن سقطت رهاناتهم على تبدد المقاومة في غزة، ليتبدى لهم واقع مغاير لما تمنوه. فبرغم المحن الجسيمة والآلام التي أنهكت القطاع، شهدت غزة تحولات كبرى قلبت الموازين. كان البعض ممن يؤمنون بالمفاوضات والتنسيق الأمني يعوِّلون على أن غزة لن تقوى على الصمود، وأن السلطة ستبسط نفوذها على القطاع مستندة إلى قوة الاحتلال. لكن مسار الأحداث كان له رأي آخر، إذ أثبتت غزة أنها ليست مجرد ساحة مقاومة، بل هي صاحبة قرار على أرضها، حتى اضطر الاحتلال إلى الانسحاب من محور نتساريم، إحدى النقاط الاستراتيجية المهمة.
في هذا السياق، يتضح أن ما سُمِّي بـ"إبادة القرن" لم يكن مجرد مواجهة عسكرية، بل صراعا طويل الأمد، خصوصا في شمال غزة، حيث تعثرت حسابات الاحتلال في تحقيق أهدافه المرسومة. وعلى الرغم من الحشد العسكري الضخم، أخفقت محاولاته في فرض واقع جديد يُعيد غزة إلى ما قبل عام 2005. لقد كان الثمن باهظا، لكن غزة استطاعت أن تقلب الطاولة، وأن تجعل وقف إطلاق النار اعترافا صريحا بكلفة العدوان، لا منّة من أحد.
إن ما جرى في شمال غزة لا ينبغي أن يمر مرور الكرام، فهو معركة حملت أبعادا وطنية وعربية ودولية. لم يكن الصراع مجرد دفاع عن غزة، بل كان دفاعا عن روح فلسطين بأكملها. فمحور نتساريم، الذي حاول الاحتلال جعله فاصلا جغرافيا بين شمال القطاع وجنوبه، تحول إلى شاهد على فشل المخططات الإسرائيلية. لقد دفع الاحتلال ثمنا فادحا، رغم محاولات الإعلام الإسرائيلي إظهار انسحابه من نتساريم على أنه مجرد خطوة تكتيكية. غير أن الواقع لا يكذب، فهذه النكسة العسكرية تعكس ضعف الاحتلال أمام الإرادة الفلسطينية الصلبةوما كانت الدعاية الصهيونية تروِّجه عن نتساريم كـ"مستوطنة رئيسية"، ما هو إلا مثال آخر على سراب المشاريع الاستعمارية التي لم تستطع الصمود أمام إرادة أصحاب الأرض.
لقد دفع الاحتلال ثمنا فادحا، رغم محاولات الإعلام الإسرائيلي إظهار انسحابه من نتساريم على أنه مجرد خطوة تكتيكية. غير أن الواقع لا يكذب، فهذه النكسة العسكرية تعكس ضعف الاحتلال أمام الإرادة الفلسطينية الصلبة.
اليوم، وبعد أن سقطت رهانات الاحتلال، يبرز دور كل الأحرار في العالم في الوقوف إلى جانب غزة وأهلها في هذه المرحلة المفصلية. فمساندة الفلسطينيين، سواء في الشمال أو الجنوب، ليست مجرد واجب وطني، بل هي مسؤولية إنسانية وأخلاقية تتجاوز الحدود. علينا أن نكثف الجهود، بكل الوسائل الممكنة، لمداواة الجراح وتخفيف المعاناة. فغزة لم تعد مجرد بقعة على الخارطة، بل باتت رمزا عالميا للصمود في وجه العدوان، وشهادة على قدرة الشعوب على فرض إرادتها رغم كل التحديات.
وفي المحصلة، فإن هذا الصمود الاستثنائي، رغم فداحة التضحيات، يشكل علامة فارقة في مسيرة النضال الفلسطيني. والتاريخ يُكتب اليوم، فليختر كلٌّ منا الموقع الذي يريد أن يُذكر فيه.