#تأملات_قرآنية
د. #هاشم_غرايبه
يقول تعالى في الآية 22 من سورة الحجر: “وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ”.
هذه الآية هي من الأيات التي تخاطب العقل البشري بقصد اقناعه بوجود الخالق، لذلك جاءت بجملة إعجازات منها ما ينال اهتمامات أهل زمن التنزيل، وهو الإعجاز اللغوي والبياني، في الإتيان بجملة فيها فعل وفاعل ومفعول به في لفظة واحدة (فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ)، ويتجلى جمال البيان في تتالي الصور التي تفصلها فاء التتابع القريب، وتبين آلية نزول الأمطار المبتدئة بالأمر الإلهي “أَرْسَلْنَا”.
ومنها الإعجاز العلمي وهو يستهدف عقول الأزمنة اللاحقة التي ستفهمه عندما يتوصلون الى فهم آلية نزول المطر، وآلية دورة الماء في الطبيعة، أما الإعجاز المعرفي الأكبر والذي سأبينه لاحقا، فهو الكامن في تفسير “وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ”.
لم يتمكن البشر قبل القرن العشرين من اكتشاف أن الغيوم هي عبارة عن قطرات من بخار الماء المتجمد المحصور في طبقة الغلاف الجوي، وكان بإمكان الباحثين أن يختصروا ثلاثة عشر قرنا لو كانوا يصدقون بكتاب الله الذي ذكر هذه الحقيقة: “وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ” [النور:43]، فظلوا يعتقدون أن الغيوم هي كالضباب، وبعد جهد طويل توصلوا الى أن آلية نزول الأمطار هي ذاتها التي بينتها هذه الآية وأخرى غيرها، وهي أن هذه الذرات الدقيقة من الجليد تبقى عالقة على ارتفاع معين بفضل التوازن بين الكثافة التي ترفعها للأعلى والجاذبية الأرضية، فلا تسقط على الأرض، ولا ترتفع خارج الغلاف الجوي وتتبدد في الفضاء، بل تبقى كذلك الى أن تأتي رياح فيها أنوية التلاقح فتتجمع هذه القطرات الدقيقة وتتكاثف وتسقط.
اعتقد بعض البسطاء أن معرفة العلماء بهذه الآلية ستتيح لهم التحكم في سقوط الأمطار، لكنهم لم يعرفوا أن ذلك يحتاج الى رياح ذات مواصفات محددة، وعندما توصلوا الى فهم آلية تكون الرياح أدركوا استحالة القدرات البشرية مهما تقدمت على أن تصنع جبهة هوائية واحدة منها.
عوّل البعض على الإستمطار الصناعي بنشر أنوبة تلاقح مصنعة، مثل يوديد الفضة أو اطلاق البروبان السائل في السحابة، لكن العملية لم تكن اقتصادية، كما أنها تلوث الجو وتخرب التوازنات البيئية.
ومن الإعتقادات الخاطئة التي ظل البشر يعتقدون بها طويلا أن هنالك سنوات ممطرة وأخر قاحلة، لكنهم لم ينتبهوا الى خطئهم إلا بعد أن تمكن العلماء من رصد الهطولات المطرية، فوجدوا أنه لا يمر يوم من غير مطر، وأن كمية الهطولات على الكرة الأرضية ثابتة سنوياً، وإنما تتباين بين منطقة وأخرى، وكان هذا أيضا من الإعجازات العلمية، وذلك في قوله تعالى: “وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا” [الفرقان:50]، و”وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ” [المؤمنون:18]، كما جاء في الحديث الشريف: “ما من عامٍ بأكثرَ مطرًا من عامٍ ، لكنَّ اللهَ يُصَرِّفُه بين خلْقِه” [صحيح].
أما الإعجاز المبهر للعقول الكليلة التي تعتقد أن الإنسان هو موجد العلم وليس الله عز وجل، فتأتي في عبارة: (مَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ)، وتعني أنه ليس في قدرة البشر حجزه ومنعه من دورته الطبيعية، فهذه العبارة صادمة قاهرة تثبت أن العلم مصدره الله، وما العقل إلا أداة بحث واستكشاف، وليس مُنشئاً لعلم، فكل ابتكار هو استعمال وتطبيق للقوانين الكونية الصارمة التي وجدها الإنسان تحكم كل شيء، وليس بمقدوره تغيير أية خاصية أو وظيفة لأي منها.
فقد ثبت للعلماء مؤخرا أن الماء هو المادة الوحيدة التي لا يمكن ضغطها، كما أنه الوحيد الذي ينتقل بين الحالات الثلاث: الصلبة والسائلة والغازية بلا تدخل بشري، وكميته لا تنقص ولا يستنفد كباقي المواد التي مخزونها محدود ينقص بالإستعمال، لذلك لم يجعل الله مخزنه مقتصرا على الأرض، بل جعله في دوران دائم: في المحيطات والمياه الجوفية والغلاف الجوي، لذلك جعل تبخر الماء في كل درجات الحرارة، وسقوط الأمطار بمقدار، ولولاها لما عاشت الأشجار في الجبال.
ولأن الماء سر الحياة فلا يوجد أي كائن حي يخلو منه، والإنسان يطغى، لذلك لم يستأمنه الله على تخزينه بل أبقاه بيده..فهو ينزل المطر بمشيئته، ويصرفه بحكمته حيث يشاء. مقالات ذات صلة العالم الجديد وإنكار الذات في الزنزانة 54 2025/01/09
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: تأملات قرآنية هاشم غرايبه
إقرأ أيضاً:
الماء شكّل مكونا رئيسيا لنشأة المجرات الأولى
في اكتشاف علمي رائد، وجد علماء الفلك أدلة على أن الماء كان موجودا في الكون بعد 100 إلى 200 مليون سنة فقط من الانفجار العظيم.
وتكشف دراسة جديدة نشرت يوم 3 مارس/آذار في مجلة "نيتشر أسترونومي" أن النجوم الأولى، المعروفة باسم نجوم الجيل الثالث، لعبت دورا رئيسيا في تكوين الماء من خلال انفجاراتها العنيفة.
يقول المؤلف الرئيسي للدراسة "دانيال والهان" -محاضر أول في علم الكونيات في معهد علم الكونيات والجاذبية في جامعة بورتسموث البريطانية- في تصريحات لـ"الجزيرة.نت": "لطالما اعتقد العلماء أن الماء، وهو عنصر أساسي للحياة، تشكل في وقت متأخر من تاريخ الكون".
ويضيف: "لكن هذه الدراسة الجديدة تتحدى هذا الافتراض، إذ تظهر أن جزيئات الماء يمكن أن تتكون في نوى سحابية جزيئية كثيفة، والتي تم إثراؤها ببقايا أولى السوبرنوفا. واحتوت هذه السحب على كميات عالية من الأكسجين والهيدروجين، ما أوجد ظروفا مناسبة لتشكل الماء حتى في البيئات القاسية للكون المبكر".
وقد نشأ الكون قبل نحو 13.8 مليار سنة واحدة من نقطة واحدة، بحسب نظرية الانفجار العظيم، تلا ذلك وخلال عدة مئات من الملايين من السنوات نشوء النجوم الأولى، والتي سميت نجوم الجيل الأول، وقد احتوت هذه النجوم على نسبة من المعادن تكاد تكون صفرا، لكن حينما انفجرت هذه النجوم أطلقت كمية من المعادن التي دخلت في تركيب الجيل التالي من النجوم.
باستخدام عمليات محاكاة رقمية متقدمة، قام الباحثون بنمذجة انفجارات نوعين من المستعرات العظمى للجيل الثالث، أحدهما من نجم يعادل 13 ضعف كتلة الشمس، والآخر من نجم ضخم يعادل 200 ضعف كتلة الشمس.
إعلانووجدت الدراسة أن هذه السوبرنوفا أثرت في السحب الغازية المحيطة بها بعناصر ثقيلة، بما في ذلك الأكسجين، الذي تفاعل مع الهيدروجين لتكوين الماء.
يوضح "والهان" في تصريحات لـ"الجزيرة.نت" أنه مع تمدد بقايا هذه النجوم الأولى وتبريدها، حدثت تفاعلات كيميائية أدت إلى تكوين بخار الماء. وعلى الرغم من أن الكميات الأولية من الماء كانت صغيرة نسبيا، فإن النوى الكثيفة لهذه السحب استمرت في إنتاج كميات كبيرة من الماء على مدى ملايين السنين.
ويقدر فريق البحث أن نسب كتلة الماء في هذه السحب القديمة وصلت إلى مستويات مماثلة لتلك الموجودة في درب التبانة اليوم، مما يجعل من المحتمل أن الماء كان عنصرًا أساسيًّا في المجرات الأولى.
"هذا الاكتشاف يعيد تشكيل فهمنا لكيفية تشكل الجزيئات الأساسية في الكون. فلطالما اعتقد أن الماء نشأ بشكل أساسي في أجيال لاحقة من النجوم، لكن هذه النتائج الجديدة تشير إلى أن الجيل الأول من السوبرنوفا أسهم بالفعل في توفير بيئات مناسبة لوجود الماء"، بحسب ما قال الباحث.
تداعيات مهمة على فهمنا للأرضوفقا للدراسة، يشير وجود الماء في أقدم المجرات إلى أن ظروف الحياة ربما ظهرت في وقت أبكر مما كان يعتقد سابقا. ومع استمرار العلماء في استكشاف الكواكب التي تدور حول نجوم غير الشمس والمجرات البعيدة بحثا عن دلائل على القابلية للحياة، يوفر هذا الاكتشاف منظورا جديدا حول كيفية وزمن ظهور الماء -وربما البيئات الداعمة للحياة- لأول مرة في الكون.
ويقول والهان: "قد تتمكن التلسكوبات المستقبلية، من رصد إشارات لهذا الماء البدائي، مما يساعد علماء الفلك في تتبع التطور الكيميائي للكون من نشأته وحتى اليوم".
ويضيف الباحث أن هذا الاكتشاف يفتح الباب أمام فرضية مثيرة: هل يمكن أن يكون بعض الماء الموجود في نظامنا الشمسي اليوم قد تشكل خلال الانفجارات الأولى للنجوم في الكون؟ فإذا كان الماء قد تكون مبكرا بهذا الشكل، فمن الممكن أن يكون قد انتقل عبر السحب الغازية والمذنبات التي أسهمت لاحقًا في تشكيل الكواكب، بما في ذلك الأرض.
إعلانبالإضافة إلى ذلك، تشير الدراسة إلى أن الكواكب الأولى التي تشكلت في الكون ربما احتوت على الماء في وقت أبكر مما كان يعتقد سابقا. وهذا يعني أن الظروف التي تسمح بالحياة قد تكون موجودة في أماكن غير متوقعة في الكون، حتى في الكواكب التي نشأت في مراحل مبكرة من تطور المجرات.
إلى جانب الماء، تؤدي السوبرنوفا دورا محوريا في تشكيل العناصر الكيميائية التي تعد ضرورية للحياة، مثل الكربون والنيتروجين والحديد. هذه العناصر تتوزع عبر الفضاء عندما تنفجر النجوم العملاقة، مما يخلق بيئات غنية بالعناصر التي يمكن أن تؤدي إلى نشوء الحياة في أنظمة نجمية جديدة.
وبذلك، يمكن القول إن الحياة، كما نعرفها، تعتمد بشكل كبير على عمليات فيزيائية وكيميائية حدثت في أعماق الفضاء منذ مليارات السنين.