تشخيص الذهنية السياسية السودانية والحلول الممكنة
تاريخ النشر: 9th, January 2025 GMT
لقد كشفت حقبة ما بعد الاستقلال في السودان، بدءًا من عام 1956، عن إشكالية التأسيس السياسي للأحزاب في البلاد. هذه الإشكالية تجسدت في أن الصراع كان يتمحور حول الشعارات الكبرى مثل الاستقلال أو الاتحاد، دون وجود مشروع سياسي واضح أو برامج عملية تعالج قضايا الحكم والتنمية وبناء الدولة. هذه الظاهرة ظلت تتكرر عبر الفترات المختلفة من تاريخ السودان السياسي.
إن الأهداف الوطنية الكلية، في شكلها المجرد، يمكن أن تكون قاعدة لتكوين جبهات وائتلافات سياسية. لكن الأحزاب تحتاج إلى تفصيل برامجي وفكري ذي محتوى اجتماعي يميزها عن بعضها البعض ويخدم مصالح قواعدها بشكل مباشر. بدون ذلك، تصبح الممارسة السياسية مجرد لعبة فوقية خاضعة للمزايدات، منفصلة عن الواقع الاجتماعي وتفاعلاته.
منذ تأسيس السياسة في السودان بعد وأد تجربة جمعية اللواء الأبيض في ثلاثينيات القرن الماضي، انحصر الصراع حول من يدير جهاز الدولة: المستعمر الأجنبي أم الأفندي الوطني. وأصبح الهدف السياسي الأساسي هو من يحكم، دون اهتمام كبير بسؤال: ماذا نصنع بجهاز الدولة؟ وكيف يمكننا إعادة هيكلته لخدمة المصالح الاجتماعية والتنموية؟ هذا النهج استمر حتى بعد الاستقلال، ما أدى إلى فشل متكرر في تأسيس نظام سياسي مستدام.
خلال فترات الديمقراطية الثلاث في السودان (1956–1958، 1964–1969، و1986–1989)، استُهلك الوقت في نقاشات حول قضايا فوقية مثل الدستور الإسلامي أو العلماني، ونظام الحكم البرلماني أو الرئاسي، بدلاً من التركيز على بناء مؤسسات تخدم تطلعات الشعب. مثل هذه النقاشات لم تثمر سوى عن إضعاف النظام الديمقراطي، وتهيئة المسرح لانقلابات عسكرية أطاحت بتلك الديمقراطيات.
في الديمقراطية الثانية، على سبيل المثال، جاء حل الحزب الشيوعي السوداني في عام 1965 كمحطة مفصلية. برغم الادعاءات بأن الحزب الشيوعي كان يروج للإلحاد، إلا أن الحقيقة كانت أن الأحزاب الكبرى تخوفت من تنامي نفوذ اليسار السياسي في البلاد بعد ثورة أكتوبر 1964. هذا القرار، الذي اتُّخذ خارج الإطار القانوني والدستوري، مثّل طعنة قاتلة للنظام الديمقراطي. وأدى ذلك لاحقًا إلى استقالة رئيس القضاء احتجاجًا على عدم تنفيذ قرارات المحكمة ببطلان حل الحزب.
هذا الحدث وغيره من الأخطاء السياسية، التي تجاهلت العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة، أسست لجذور الانقسامات العميقة التي يعيشها السودان اليوم. لم يُعالج إرث الاستعمار المتمثل في سياسات "فرق تسد"، التي عزلت مناطق واسعة من السودان وركزت التنمية في مناطق محددة. هذا الإرث ساهم في ظهور خطاب إثني وسياسي حاد أدى إلى نشوب النزاعات المسلحة.
واليوم، في ظل حرب أبريل 2023 الكارثية التي تُعد أكبر أزمة وجودية تمر بها البلاد منذ الاستقلال، لا يزال التفكير السياسي محصورًا في سباق على السلطة، دون رؤية واضحة لإعادة بناء الدولة.
إن معالجة هذه الأزمة تتطلب تغييرًا جذريًا في الذهنية السياسية، والانتقال من التركيز على الصراع حول السلطة إلى بناء مشروع وطني متكامل. الحلول الممكنة تشمل
إعادة هيكلة جهاز الدولة بما يخدم المصالح الوطنية بعيدًا عن النزاعات الإثنية أو الإقليمية.
إطلاق مبادرات للمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية لمعالجة آثار النزاعات السابقة.
التركيز على التنمية المتوازنة لتوفير الخدمات والفرص لكافة السودانيين.
على السياسيين السودانيين أن يدركوا أن السلطة ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق العدالة والتنمية والاستقرار. بدون هذا الفهم، سيظل السودان يدور في دائرة من الأزمات المتكررة.
zuhair.osman@aol.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
رمضان يخفف من قساوة التحديات التي يواجهها رواد الأعمال السودانيون
لم يجد رجل الأعمال مشعل محمود محمد مناصا من مغادرة الخرطوم بحري بعد اندلاع الحرب في السودان منتصف أبريل/نيسان 2023، متوجها إلى إثيوبيا.
كان مشعل يعمل في الخرطوم بالاتجار بقطع غيار آليات الورش، ونجح في تحقيق أرباح جيدة، وظل يعمل في هذا المجال حتى اندلاع الحرب، حيث خسر معارضه التجارية ومنزله وسياراته.
يقول مشعل لـ"الجزيرة نت" إنه خسر كل شيء، حيث سُرقت جميع محلاته ومعرضه في مدينة بحري (شمالي العاصمة)، مما دفعه إلى المغادرة في مايو/أيار 2023.
وبعد وصوله إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا برفقة أسرته، فكر على الفور في العودة إلى مجاله السابق، لكنه واجه واقعا تجاريا مختلفا تماما عن السودان من حيث رأس المال والإجراءات.
وبعد تفكير، يقول مشعل إنه اتخذ قرار افتتاح مطعم لإعداد الوجبات السودانية، خاصة أن الفترة تلك شهدت وصول أعداد كبيرة من السودانيين إلى إثيوبيا لاستكمال إجراءات السفر إلى دول أخرى.
وخلال شهر رمضان من العام الماضي، كان مطعم مشعل يلبي طلبات مواطني بلاده على الإفطار والعشاء بأطباق سودانية ذائعة الصيت، لاقت رواجا كبيرا، خاصة مع تقديم المشروبات الرمضانية السودانية المعروفة، ومنها "الحلومر".
إعلانويوضح مشعل لـ"الجزيرة نت" أن طبيعة العمل كانت في البداية صعبة للغاية في ظل الحاجة إلى تحضيرات متواصلة من دون توقف أو إجازات، حيث كان لزوجته الدور الأكبر في إدارة العمل وتحريكه بشكل رئيسي، ولذلك قرر تسمية المطعم بـ"البيت السوداني"، لأن زوجته تعدّ الطعام كما تفعل في المنزل.
وبالعودة إلى بداية العمل، يرى مشعل أنه كان مزدهرا، حيث كان عدد السودانيين كبيرا، لكنه تراجع حاليا مع تناقص الأعداد وتراجع أرقام العابرين إلى دول أخرى. ومع ذلك، يقول رجل الأعمال الشاب إن الأمور لا تزال تسير على ما يرام، إذ يستعد خلال شهر رمضان الحالي بتحضيرات نوعية، كما يسعى إلى جذب الإثيوبيين وغيرهم لتجربة الطعام السوداني.
ويقول رجل الأعمال خالد بيرم، الذي يشغل أيضا منصب أمين مكتب الشؤون الخارجية للغرفة التجارية بمحلية عطبرة بولاية نهر النيل شمال السودان، إن رمضان هو شهر الخير والبركة، وينعكس كرمه على الجميع.
ويؤكد لـ"الجزيرة نت" أن الحركة التجارية في الشهر الفضيل تُعرف بـ"الموسم"، حيث تزدهر بشكل ملحوظ ويتعاظم الطلب على سلع ومنتجات مختلفة.
ويضيف: "الأعمال والتجارة بشكل عام في السودان خلال الشهر الفضيل تكون في حالة انتعاش ونمو، وتبدأ دائما قبل حلول شهر رمضان بـ10 أيام تقريبا، أو حتى اليوم الذي يسبق بدايته، حيث تشهد الأسواق حركة مكثفة ونشطة".
ويوضح أنه عندما يتعلق الأمر بالمواد الغذائية، فإن الناس يكونون على استعداد لشرائها، وغالبا ما ترتفع أسعارها.
أما فيما يتعلق بالغرفة التجارية في عطبرة، فيشير بيرم إلى أن التجار يقومون بتجهيز سلال للصائمين، تحتوي على المواد الغذائية الأساسية للصائم، كما يقوم بعض التجار بإخراج سلال إضافية لرمضان من أموالهم الخاصة.
إعلانويؤكد بيرم أن هناك حركة واسعة للأموال والتجارة والبضائع، وهذا يزيد الأرباح والدخل، مشيرا إلى أنه كلما زاد الدخل، زاد الإنفاق على الفئات الضعيفة من خلال الصدقات والإكراميات والسلال الغذائية وزكاة الفطر والتبرعات.
ويستطرد قائلا: "اسم رمضان كريم لم يأتِ من العدم، الله يوفّر احتياجات الناس، وهناك حالة من السعادة بين الجميع، بما في ذلك التجار ورجال الأعمال".
صعوبات جمةلمجموعة "أبو الفاضل بلازا" في السودان صيت خاص، خصوصا عند حلول شهر رمضان المبارك، إذ يُعتبر الموسم الذي ينتظره آلاف السودانيين للاستفادة من التخفيضات وشراء المستلزمات المنزلية، حيث تتميز المجموعة بالاستيراد الراقي والأسعار المناسبة.
لكن الحرب ألقت بظلالها القاتمة على المجموعة في كل فروعها المنتشرة في مدن الخرطوم الثلاث (الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري)، كما يقول هاشم أبو الفاضل لـ"الجزيرة نت"، حيث خسرت الشركة بضائعها بالكامل إما بالاحتراق أو السرقة أو النهب والتخريب، ولم يتمكنوا من إنقاذ أي شيء باستثناء البضائع التي كانت تحت التخليص الجمركي بالميناء.
ويروي هاشم لـ"الجزيرة نت" سلسلة معاناة صعبة عاشها رواد الأعمال في القطاع الخاص السوداني، بسبب الحرب التي اندلعت فجأة من دون أن يتمكن أصحاب الشركات، خاصة وسط العاصمة الخرطوم، من تدارك الأمر وإنقاذ ما يمكن من رأس المال.
ويشير إلى أن 90% من أصحاب الأعمال عادوا إلى نقطة الصفر، وفقدوا كل شيء تقريبا، ليصبح القطاع الخاص أكبر المتضررين من الحرب المستمرة منذ نحو عامين.
ومع ذلك، يقول هاشم إنهم حاولوا النهوض مجددا والعودة إلى العمل، ورفضوا الخروج بما تبقى من رأس المال إلى خارج البلاد، فقرروا افتتاح فروع جديدة للمجموعة في بورتسودان والعودة للعمل في أم درمان بعد تحسن الأوضاع الأمنية جزئيا.
إعلانلكنه يشكو من تعامل السلطات الحكومية، مشيرا إلى أنها تفرض رسوم جمارك وغيرها من الجبايات بأرقام فلكية، لا تراعي الخسائر الفادحة التي تكبدها القطاع الخاص، ولا تضع في اعتبارها حرص رجال الأعمال على المساهمة في إعادة الإعمار.
ويشبه هاشم أوضاعهم الحالية بمن يمشي على النار، لكنه رغم ذلك يؤكد أنهم حريصون على مواصلة العمل وتجاوز الصعاب الحالية.
خسائر كبيرةوإزاء الأوضاع الاقتصادية في السودان، يقول الخبير في الشؤون الاقتصادية عبد العظيم المهل للجزيرة نت إن القطاع الخاص السوداني خسر الكثير في هذه الحرب قدرت في القطاعين الصناعي والخدمي في الخرطوم بـ90%، وفي ولاية الجزيرة تصل نسبة الخسائر إلى 88% ، أما في ولايات دارفور عدا الفاشر فتقدر الخسائر بـ80% في القطاعين.
ويشير إلى أن تقديرات جملة خسائر القطاع الخاص في كل القطاعات بحوالي 130 مليار دولار 90% منها لا تخضع للتأمين.
ويرى أن القطاع الخاص بحاجة لوقت كي يعود للعمل لكنه يتوقع عودته بنحو أسرع من القطاع العام.
ويأسف المهل لخروج بعض رواد الأعمال في القطاع الخاص من السودان والهجرة للخارج بينما نزح آخرون داخليا وهو ما قد يؤدي إلى تشتت الصناعة والخدمات بعيدا عن العاصمة.
ويرى المهل أن الفجوات تطال كل القطاعات التي ستبدأ من نقطة الصفر ويردف إذا تم ذلك فسوف ينهض الاقتصاد السوداني خلال نحو 3 أعوام، مؤكدا إمكانية التعافي والنهضة في حال وجدت السياسات المستقرة والإدارة الواعية والتكنولوجيا الحديثة في كل المجالات متبوعة بالقبضة الأمنية القوية والاستقرار السياسي.