تحظى الدعوة إلى الله بأهمية كبيرة في الشريعة الإسلامية؛ فهي رسالة جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد خاطب الله تعالى نبيه الكريم ﷺ فقال (ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) وخطاب الرسول موجه إلى الأمة كلها (لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة)، والخطاب الدعوي محدد بأسلوب ومنهج محدد من الله تعالى، متضمن للموعظة والحكمة الحسنة وحسن القول، مصاحب للعمل الصالح؛ لتتمثل فيه القدوة والإسوة الحسنة (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين).
وخير الإسوة والقدوة في الدعوة إلى الله هو سيد المرسلين الذي وصفه ووصف نجاح دعوته (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ).
وأسلوب الدعوة توفيقي وليس توقيفي. متعدد الأوجه والطرق والأساليب، التي تمكن الداعية من الوصول إلى قلوب الناس من خلال اتباع عدة طرق ووسائل نسبية، بحسب ما يقتضيه الحال للمدعوين، وحسب ما يحيط بهم من ظروف، وبحسب خلفياتهم الثقافية والفكرية والسياسية والاعتقادية. وهذا يحتاج إلى علم بمنهج الدعوة وعلم الداعية وذكائه وفطنته؛ من خلال استخدام منهج النسبية في الدعوة إلى الله تعالى، الذي يتمثل في الآتي:
إقالة ذوي الهيئات عثراتهم
للستر على ذوي المروءات هناتهم أثر كبير في النفوس لفتح باب التوبة للناس كافة ولأصحاب المكانة الاجتماعية المرموقة؛ فهذا المنهج يساهم في ترقيق القلوب وفتح مجال التوبة لمن زلّت به قدمه على الرجوع إلى الله خاصة ممن كانت له مروءة واستزله الشيطان فقال صلى الله عليه وسلم: {أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود}، رواه أحمد. في هذا الحديث إرشاد وتوجيه نبوي بإقالة ذوي الهيئات عثراتهم إلا في حد من حدود الله كما في الحديث، والنَّاس في ذلك على ضربين: أحدهما ..من كان مستورًا لا يُعرف بشيءٍ مِنَ المعاصي، فإذا وقعت منه هفوةٌ، أو زلَّةٌ، فإنَّه لا يجوزُ كشفها، ولا هتكُها، ولا التَّحدُّث بها، لأنَّ ذلك غيبةٌ محرَّمة.
وكان الستر أسلوب من أساليب رسول الله ﷺ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الداعية أن يسلك منهج الرسول في التعامل مع هنات أصحاب المروءات.
التمييز بين الممدوح والمذموم من القول أو العمل
على الداعية أن يميز بين الأقوال والأفعال بحسب المكان والزمان ومقتضى الحال قبل أن يصدر الأحكام ويدعو الناس وفق منهج المعرفة بحال المدعو، ولا ينهي عن أشياء قد تكون حسنة في موضعها كما حدث في إحدى غزوات الرسول قبل بداية المعركة قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى يرفع همة الرجال فقال: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟)، فقام كثير من الصحابة، وأبى النبي صلى الله عليه وسلم إعطاءهم، ثم قام أبو دجانة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعنيه، فهو يعرف طبيعة الرجال فقال: (من يأخذه بحقه؟ قال: وما حقه يا رسول الله؟! قال: يضرب به هامات الكفار حتى ينحني، قال: أنا آخذه يا رسول الله فهو إذا ربط العصابة الحمراء على رأسه فإنه يقاتل حتى الموت، فربط العصابة، وأخذ يتبختر بين الصفوف متمايلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن هذه مشية يكرهها الله ورسوله إلا في هذا الموطن}
مراعاة الظروف والمساحة المسموحة للدعوة
تمر الدعوة بعدة مراحل أو مستويات في حالتها من حين الظهور في العلن أو تضطر بسبب الظروف للعمل وفق ما هو مسموح به إذا كانت في بيئة قمعية أو محاربة للدعوة كما حدث مع بداية نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الخاصة الخاصة ثم للعشيرة الأقربين، ثم حين سمحت الظروف ودخل الإسلام من يدافع عنه ويحمي الدعوة كعمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب جاء الأمر من الله بإعلان الدعوة والمجاهرة بها، وكذلك تمر الدعوة بحالة من القمع من بعض الأنظمة الدكتاتورية الشمولية المعادية للدين والتدين فيضطر الدعاة إلى الدعوة بما يتناسب مع الواقع، وبما لا يعرضهم ويعرّض الدعوة للتنكيل أو الإبادة. بينما في الأماكن التي لا تتعرض فيها الدعوة للقمع والتضييق ينطلق الدعاة بحسب ما يُسمح لهم بالدعوة واستخدام كل الوسائل والمساحات المسموح بها لتحقيق الدعوة إلى الله ووصولها كما أمر.
أولويات التربية بحسب المكان والزمان.
للتربية أولوية في العمل الدعوي ومن أهم مقومات تأهيل الداعية إلى الله تعالى ومن يتصدر للدعوة يجب أن يتحلى بتربية إسلامية، من خلال المحاضن التربوية في المدارس والجامعات والمساجد والخلوات والمراكز الفكرية والجماعات الدعوية التي تعمل في حقل الدعوة ولديها باع ورصيد كبير من الخبرة والتجربة والمعرفة التراكمية المكتسبة من كتاب الله وسيرة رسوله، والرعيل الأول ممن حمل راية الدعوة الكرام من الصحابة والتابعين، ومن السائرين في طريقهم وعلى منهجهم الذي فُتحت أمامه جميع الأبواب لنشر دعوة الله من المحيط الأطلسي غربا إلى المحيط الهندي غربا ومن أوروبا شمالا إلى رأس الرجاء الصالح جنوبا..
تنوع أساليب الدعوة بحسب ظروف كل مرحلة:
وعى رسول الله ما يجب أن تكون عليه الدعوة من التأنّي، وعدم الاستعجال في الوصول إلى المطلوب، وهي قاعدةٌ ينبغي على الدُعاة جميعهم اتِّباعها في دعوتهم؛ حيث يبدأ التدرُّج بأن تكون الدعوة سرّيةً، ثمّ يتمّ الإعلان عنها فيما بعد، أمّا فيما يتعلّق بطول مدّة سرّيتها؛ فيختلف بحسب الظروف الواقعة فيها، ومع أنّ الرسول كانت دعوته في بدايتها سرّيةً، إلا أنّ هذا المبدأ غير مشروطٍ في كلّ دعوةٍ، وإنّما يُقرَّر وجوده بحسب الواقع؛ من حيث الزمان، والمكان. كما سار المسلمون في مكّة على نهج اعتبار الدعوة مبدأ ثابتاً ينبغي السير عليه، ومع ارتباط فكرة سرّية الدعوة بالتدرُّج فيها، إلّا أنّ التخلّي عن مبدأ السرّية لا يعني ترك التدرُّج في الدعوة؛ فالتدرُّج قاعدةٌ من قواعد الشريعة الإسلاميّة بمجالاتها جميعها. ومن أمثلة ذلك ما أوصى به رسولُ الله معاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن، حيث قال له: (إنَّكَ تَأْتي قَوْمًا مِن أهْلِ الكِتابِ، فادْعُهُمْ إلى شَهادَةِ أنَّ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَنِّي رَسولُ اللهِ، فإنْ هُمْ أطاعُوا لذلكَ، فأعْلِمْهُمْ أنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَواتٍ في كُلِّ يَومٍ ولَيْلَةٍ، فإنْ هُمْ أطاعُوا لذلكَ، فأعْلِمْهُمْ أنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عليهم صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِن أغْنِيائِهِمْ فَتُرَدُّ في فُقَرائِهِمْ، فإنْ هُمْ أطاعُوا لذلكَ، فإيَّاكَ وكَرائِمَ أمْوالِهِمْ، واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنَّه ليسَ بيْنَها وبيْنَ اللهِ حِجابٌ).
التدرج في الإصلاح
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل من البعض كل مالهم مثل أبي بكر، ومن آخر النصف مثل عمر ومن غيرهم أقل، فكل هذه نسبيات لا إطلاق فيها؛ بل هي نسبية بينية متغيرة بحسب حال وقدرة وإمكانية كل فرد.
ولا بد أن ندرك أن عملية التغيير الشامل في بناء الأفراد والأمم ليس بالأمر اليسير، ولا سيما وأنت تتعامل مع رواسب قرون وأعوام خلت كان لها أثرها البالغ في تكوين الأفراد والأمم أي أننا نعالج أمورا كبر عليها الصغير وفني فيها الكبير حتى أصبحت ثوابت، وبالتالي حتى تُصلح وتُغير سواءً في الأفكار أو القيم أو الأخلاق والنظم، فلا بد من جهد جهيد وصبر ومصابرة، وعقل وعاطفة، فسنة الله في خلقه التدرج في النمو، والمرحلية في التغيير، والأولوية في التنفيذ، وهذا مقتضي النسبية في الدعوة إلى الله تعالى يجب على الداعية الوعي بها والعمل وفق قانونها السنني.
والتعجل في مثل هذه الأمورة العظيمة عواقبه وخيمة، ولا يصل بنا إلى الهدف المنشود.
ويمكن أن نستمد من سيرة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز خامس الراشدين ما يعلمنا كيف نأخذ بقانون النسبية ودليل نجاح للداعية وأسلم طريق لتحقيق هدف الدعوة، فقد أراد عمر رحمه الله أن يعود بالناس إلى هدي الخلفاء الأربعة، وذلك بعد على مُكث وتدرج، ولكن ابنه الشاب أنكر على أبيه عدم إسراعه في إزالة كل بقايا الانحراف والمظالم التي كانت سائدة، ورد الأمور إلى سنن الراشدين، فقال له يومًا: ما لك يا أبتي لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق!
فكان جواب الأب الفقيه المؤمن: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة
ومما يجب أن يتمتع به المتصدر للدعوة:
معرفة أسرار النفس فيمنحه الدقة في خطابه ويتحاشى توليد الضرر المعنوي وأنواع الإحباط والانغلاق والتشاؤم؛ بل يجعل من النفس مركزا للدعوة والأمل الانفتاح؛ فيجعل أصل الدعوة لبناء النفس السوية الوسطية قاعدة وأصل ويجعل ما سواها استثناء. على الداعية أن يديم إجالة بصره في الخلائق من خلال علم حركة الحياة (البيولوجي) فيمنحه تركيزه بنظرة عميقة لمعنى التوازن لتحقيق التوازن والتكامل في حياة الناس كما يتحقق التكامل في هذا الكون المتناسق المتكامل. إحاطة الداعية بعلوم الإدارة يضعه في موقف المتمكن في دعوته مميزا في تقديره بين المنازل المتدرجة بين الحزم والتسيب والمركزية واللامركزية والحذر والمغامرة والتخطيط والارتجال وأثر كل ذلك في أدائه الدعوي. إحاطة الداعية بالنظريات المعمارية والهندسية مع طول تأمل في الجماليات الطبيعية والهندسية التي تؤثر في روحه وتوسع مداركه وخياله فتنمي فيه معدلا النسبية والتناسب في خطابه الدعوي مع تنمية إحساس التناسق وآثار التدرج والتناظر فتأتي دعوته هينة لينة بعيدة عن الشدة والشذوذ بعيدة عن التكلف سائرة مع فطرة السجية الطبيعية في كل إنسان. كما يجب على الداعية ألا يغفل فقه المقاصد الشرعية التي تمكنه من استنباط أحكام نازلة جديدة في قضايا معاصرة لم تكن معروفة لدى السابقين ولم تكون محل نظر سابق. ولا يغفل الداعية الاطلاع على الأدب بكافة تنوعه وتشعبه وفصوله وأبوابه وصوره وأشكاله، الذي لا يخلو من جماليات القصص والملاحم والعبر وحكم الشعر ومأثر السلف وفوائد النثر من جوامع الكلم والأمثال والعبر وهو إحدى أدوات الدعوة التي لا يمكن إغفالها من الداعية. ومما يجب أن يتحلى به الداعية أن يتبع منهج النسبية في تعليم الناس الحلال والحرام والنواهي والأوامر؛ بمواعظ واستدلالات عقلية وبتذكير بالفطرة السوية واطراد السنن الكونية والظواهر الحيوية بشيء من الاتزان والاعتدال والتجانس، دون خلل وعدم الإغراب مع معرفة للنفس البشرية بكل خلجاتها ورغباتها وميلها وفطرتها التي فطرها الله عليها ومراعاتها.وبهذا يتحقق نجاح الداعية إلى الله بدعوته وفق منهج النسبية من خلال عمل منظم ومعد ومخطط له تخطيط بعيد المدى عميق الأثر منطلق من كتاب الله وسنة رسوله، مهتدٍ بطريقة الدعاة والمصلحين وبالتجارب الدعوية الناجحة في تاريخ الأمة الإسلامية عبر عصور ازدهارها ونجاح تجاربها الدعوية والإصلاحية.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: النبی صلى الله علیه وسلم الدعوة إلى الله على الداعیة الله تعالى النسبیة فی الداعیة أن رسول الله فی الدعوة من خلال ما یجب یجب أن
إقرأ أيضاً:
خصوصية جبل الطور حتى يتجلى الله تعالى عليه
اجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونه:"لماذا تجلى الله على جبل الطور وكلَّم عليه سيدنا موسى عليه السلام دون بقية البقاع المباركة الأخرى؟"
لترد دار الإفتاء موضحة: انه اختصاص الله تعالى لأيِّ مخلوق من مخلوقاته بفضيلة أو ميزة، هو محضُ فضلٍ وتكرُّمٍ من الله تعالى، فهو سبحانه يفضل ما يشاء ويختار، واختصاص جبل الطور بالتجلي دون بقية البقاع الطاهرة من باب هذا التَّفضُّل والتكرم والتذكير بما وقع فيها من الآيات كما جعل له فضائل متعددة؛ فإن جبل الطور من جبال الجنة، وهو حرز يحترز به عباد الله المؤمنين من فتنة يأجوج ومأجوج، وهو كذلك من البقاع التي حرَّمها الله على الدجال، وقد تواضع جبل الطور لله فرفعه واصطفاه، وهو الجبل الوحيد الذي وقع عليه تكليم الله لنبيه موسى عليه السلام.
بيان سنة الله الجارية في الخلق بأن يفاضل بين خلقه بما يشاء وكيفما شاء
جرت حكمة الله تعالى وإرادته أن يفاضل في خلقه بما يشاء وكيفما شاء، فمن البشر: فضَّلَ الأنبياءَ والرسل والأولياء على سائر خلقه، ومن البلاد: فضَّل مكةَ المكرمة والمدينة المنورة على سائر البلدان -على ما ورد فيه التفاضلُ بينهما-، ومِن الشهور: فضَّل شهرَ رمضان على ما عداه من الأشهر، وكذا الأشهر الحرم، ومِن الليالي فضَّلَ ليلةَ القدر على سائر الليالي، ومِن الأيام فضَّلَ يومَ عرفات على سائر الأيام، ومن الجبال: فضَّلَ جبلَ الطور بتجليه عليه، والكلُّ خلقُ الله سبحانه وتعالى، يفعل فيه ما يشاء ويحكم فيه بما يريد.
وفي بيان وجه تفضيل بعض الأوقات والبقاع يقول العلامة الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (10/ 184، ط. الدار التونسية) عند الكلام عن تحريم الأشهر الأربعة في سورة التوبة: [واعلم أن تفضيل الأوقات والبقاع يشبه تفضيل الناس، فتفضيل الناس بما يصدر عنهم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكريمة، وتفضيل غيرهم مما لا إرادة له بما يقارنه من الفضائل الواقعة فيه، أو المقارنة له... والله العليم بالحكمة التي لأجلها فضَّلَ زمنًا على زمن، وفضَّلَ مكانًا على مكان، والأمور المجعولة من الله تعالى هي شؤون وأحوال أرادها الله، فقدَّرَها، فأشبهت الأمورَ الكونية، فلا يبطلها إلا إبطال من الله تعالى، كما أبطل تقديسَ السبت بالجمعة] اهـ.
ولمّا كان القصد من إرسال الرسل لأقوامهم هو الإيمان بالله تعالى، اقتضى ذلك تأييدهم بالمعجزات التي يظهرها الله على أيديهم -تكرمًا منه وإحسانًا، تصديقًا لهم في دعواهم النبوة والرسالة، وفيما يبلغونه عن الله تعالي، فمعجزات الأنبياء دليلٌ على صدق وصحة ما جاءوا به، فإذا أتى بالمعجزة فقد ثبت صدقه؛ لأنها الدليل الذي يفصل بين الصادق والكاذب في ادعاء الرسالة، وهي قائمةٌ مقام قول الله تعالى: صَدَقَ عَبْدِي في كُلِّ ما يُبلِّغ عنِّي.
وإذا ثَبَتَ صدقه فقد وجب اتباعه، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25].
قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (29/ 469، ط. دار إحياء التراث العربي): [هي -يعني: البينات- المعجزات الظاهرة والدلائل القاهرة] اهـ.
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ» متفق عليه.
ثم خصَّهُم الله سبحانه بمزيد فضلٍ وإحسان؛ ليزداد الناس يقينًا في صدقهم، وإيمانًا بما جاءوا به، وتسليمًا لأحكامهم، واتباعًا لشرائعهم، فمع ما أعطاهم من المعجزات الباهرات منحهم من الخصائص والتكريم والتفضيل ما يتيسر معه أمر الدعوة إلى الله تعالى.
وقد فضَّل الله بعض النبيين على بعض، فقال جل شأنه: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ [البقرة: 253].
قال الإمام ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (1/ 670، ط. دار طيبة): [يخبر تعالى أنه فضَّل بعضَ الرسل على بعض كما قال: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [الإسراء: 55] وقال هاهنا: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ يعني: موسى ومحمدًا صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك آدم، كما ورد به الحديث المروي في "صحيح ابن حبان" عن أبي ذر رضي الله عنه ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل] اهـ.
وقد خصَّ الله نبيه موسى عليه السلام بأنه كلمه تكليمًا، قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (7/ 280، ط. دار الكتب المصرية): [قوله تعالى: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾ [الأعراف: 144] الاصطفاء: الاجتباء، أي فضَّلتُك، ولم يقل على الخَلْق؛ لأنَّ من هذا الاصطفاء أنه كلَّمه، وقد كلَّم الملائكة وأرسله وأرسل غيره، فالمراد ﴿عَلَى ٱلنَّاسِ﴾ المرسل إليهم] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (9/ 6، ط. دار المعرفة): [قوله: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ»: هذا دالّ على أنَّ النبي لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه، ولا يضره من أصرّ على المعاندة، قوله: «مِنَ الآيَاتِ» أي: المعجزات الخوارق والمعنى أنَّ كُلّ نبيٍّ أعطي آية أو أكثر من شأن من يشاهدها من البشر أن يؤمن به لأجلها] اهـ.
وقال الإمام القشيري في "لطائف الإشارات" (1/ 391، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب) في تفسير قول الله عز وجل: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164]: [إخبار عن تخصيصه إياه باستماع كلامه بلا واسطة] اهـ. وهذا من تشريف الله تعالى لموسى عليه السلام؛ ولهذا سُمِّي بكليم الله.
وذكر الإمام عبد القاهر الجرجاني في "درج الدرر في تفسير الآي والسور" (2/ 422، ط. دار الفكر): [عن الضحّاك بن مزاحم، عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾ [القصص: 46] قال: لمّا أخذ موسى الألواح ونظر فيها قال: إلهي لقد أكرمتني بكرامٍ لم تكرم بها أحدًا من قبلي، فأوحى الله: يا موسى، إنّي اطّلعت على قلوب عبادي فلم أجد أشدّ تواضعا من قلبك ﴿اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 144] بجدٍّ ومحافظة، وكن من الشاكرين] اهـ.
بيان سرِّ اختصاص جبل الطور بتجلي الله تبارك وتعالى عليه من بين سائر جبال الأرض
أما عن تخصيص الله سبحانه وتعالى جبل الطور بالتجلي عنده دون بقية البقاع المباركة، فكان تشريفًا لهذه البقعة وتكريمًا وتذكيرًا لما وقع فيها من الآيات.
قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (17/ 58): [قوله تعالى: ﴿وَٱلطُّورِ﴾ [الطور: 1] الطور اسم الجبل الذي كلَّمَ الله عليه موسى، أقسم الله به تشريفًا له وتكريمًا وتذكيرًا لما فيه من الآيات، وهو أحد جبال الجنة] اهـ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَرْبَعَةُ أَجْبَالٍ مِنْ أَجْبَالِ الْجَنَّةِ، وَأَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَأَمَّا الْأَجْبَالُ: فَالطُّورُ، ولُبْنَانُ، وطورُ سَيْنَاءَ، وطورُ زَيْتًا، وَالْأَنْهَارُ مِنَ الْجَنَّةِ: الْفُرَاتُ، وَالنِّيلُ، وَسَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ» أخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط"، وابن شبة في "تاريخ المدينة"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق".
قال العلامة نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 71، ط. مكتبة القدسي) مُعلِّقًا على هذه الرواية: [قلت: حديثه في الأنهار في "الصحيح". رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه من لم أعرفهم] اهـ.
ويشهد له ما جاء من حديث عمرو بن عوفٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَرْبَعَةُ أَجْبَالٍ مِنْ أَجْبَالِ الْجَنَّةِ وَأَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ وَأَرْبَعَةُ مَلَاحِمَ مِنْ مَلَاحِمِ الْجَنَّةِ» قِيلَ: فَمَا الْأَجْبَالُ؟ قَالَ: «أُحُدٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْجَنَّةِ، وَالطُّورُ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْجَنَّةِ، وَلُبْنَانُ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْجَنَّةِ، وَالْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ: النِّيلُ، وَالْفُرَاتُ، وَسَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ، وَالْمَلَاحِمُ: بَدْرٌ، وَأُحُدٌ، وَالْخَنْدَقُ، وَحُنَيْنٌ» أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" من طريق كَثِيرٍ بن عبد الله، وهو ضعيفٌ، كما قال العلامة نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 14).
وكثير بن عبد الله رحمه الله روى له الترمذي وابن خزيمة والدارمي والطحاوي والحاكم، كما ذكر الإمام السيوطي في "اللآلىء المصنوعة" (1/ 86، ط. دار الكتب العلمية)، وقال: [والأشبه أنَّ كثيرًا في درجة الضعفاء الذين لا ينحط حديثهم إلى درجة الوضع، وأنَّ الحديث الذي أورده المؤلف في درجة الضعيف الذي لم ينحط إلى درجة الموضوع، وقد ثبت أنَّ الأنهار الأربعة المذكورة من أنهار الجنة في عدة أحاديث منها حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة». وحديث سهل بن سعد السابق في أُحُدٍ شاهد لقصة الأجبل، فاتضح أنه ليس في الحديث ما يستنكر. وقد أخرجه ابن مردويه في "التفسير"، وله شاهد من حديث أبي هريرة] اهـ.
وذكر الإمام ابن عرَّاق في "تنزيه الشريعة" (1/ 195، ط. دار الكتب العلمية) نحوَ هذا الكلام، وقال: [فبان أنه ليس في الحديث ما ينكر وله شاهدٌ من حديث أبي هريرة أخرجه الطبراني في "الأوسط"] اهـ.
فتحصَّل مما سبق أنَّ هذا الحديث وإنْ كان فيه ضعفٌ إلا أنه يُقبل، وليس فيه ما يُنكر.
ومما يُبيِّن فضل جبل الطور ما جاء في حديث الدجال الطويل، أنَّ هذا الجبل سيكون حرزًا لعباد الله المؤمنين من فتنة يأجوج ومأجوج، وذلك في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فَبيْنَما هو كَذلكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إلى عِيسَى: إنِّي قدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لا يَدَانِ لأَحَدٍ بقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إلى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» رواه مسلم في "صحيحه".
وكما سيُمنع يأجوج ومأجوج من دخول الطور، كذلك ورد في الحديث الشريف أن الله تعالى حرمه على الدجال، فقد جاء في "المسند" للإمام أحمد، و"المصنف" للإمام ابن أبي شيبة، ونعيم بن حماد في "الفتن"، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال عن الدجال: «لَا يَقْرَبُ أَرْبَعَةَ مَسَاجِدَ: مَسْجِدَ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدَ الرَّسُولِ، وَمَسْجِدَ الْمَقْدِسِ وَالطُّورِ».
وقال العلامة نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 343) عن هذا الحديث: [رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح] اهـ.
جاء في بعض الآثار أنَّ الجبل تواضع لله تعالى، واستسلم لقدرته، ورضِيَ بقضائه ومشيئته، فلما تواضع الجبل لله تعالى ناسب أن يتجلى الله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام عليه، ويكلمه عنده دون بقية الجبال، فقد أخرج الإمام أحمد في "الزهد"، وأبو نُعيم في "الِحلية"، وعبد الرزاق الصنعاني في "التفسير"، وأبو الشيخ الأصفهاني في "العظمة" بإسنادٍ حسنٍ عن نوفٍ البكالي، قال: "أوحى الله إلى الجبال إني نازل على جبل منكم فشمخت الجبال كلها إلا جبل الطور فإنه تواضع وقال: أرضى بما قسم الله لي، قال: فكان الأمر عليه".
ونقل الإمام الثعلبي في "تفسيره" (4/ 275، ط. دار إحياء التراث العربي) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: [قال الله تعالى: ولكن انظر إلى الجبل فهو أعظم جبل بمدين يقال له: زبير، فلما سمعت الجبال ذلك تعاظمت رجاء أن يتجلى منها الله لها وجعل زبير يتواضع من تبيان، فلما رأى الله تعالى تواضعه رفعه من بينهما وخصه بالتجلي] اهـ.
فهذه الفضائل تضاف إلى الفضيلة الكبرى المذكورة في القرآن الكريم من تكليم سيدنا موسى عنده، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمًا﴾ [النساء: 164]، وكما في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: 143]، وكما في قوله تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: 52].
الخلاصة
بناءً على ما سبق وفي السؤال: فاختصاص الله تعالى لأيِّ مخلوق من مخلوقاته بفضيلة أو ميزة، هو محضُ فضلٍ وتكرُّمٍ من الله تعالى، فهو سبحانه يفضل ما يشاء ويختار، واختصاص جبل الطور بالتجلي دون بقية البقاع الطاهرة من باب هذا التَّفضُّل والتكرم والتذكير بما وقع فيها من الآيات.