كيف يحب الشاعر الذي يقبع تحت الاحتلال الفلسطيني حبيبته؟ هل من حقه أصلا التعبير عن هذا الحب ونشره كقصائد في زمن المجازر الفلسطينية؟ كيف يختار مفردات قصيدته؟ وكيف يتوغل في الكشف؟ وإلى أي مدى يذهب في دلق عريه الداخلي؟ وهل هو على استعداد لمواجهة الاستياء الشعبي والنقدي تجاه نصه؟ وكيف يواجهه؟ أعن طريق الصمت أم بالتجاهل أم بالكتابة والرد؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى دراسة كبيرة، النقد الفلسطيني مقصر بشهادة العديد من الشعراء في مقاربة نص الحب في المشهد الشعري الفلسطيني، ويبدو أن استعداد النقاد لدراسة هذا النوع من الكتابة غير مهيأ أصلا، لأسباب لا تخفى على أحد، فالحياة الصعبة تحت الاحتلال التي يعيشها الفلسطيني، والمواجهات المستمرة بين الغازي الصهيوني وبين الشعب المقهور، وتدفق الشهداء بشكل مروع، كل ذلك يصعب فكرة الذهاب إلى نصوص شهوية وشخصية في ظل هذا المناخ التدميري للروح الفلسطينية، (إحنا في إيش وأنت في إيش) هذه جملة استياء تتردد كثيرا في وجه ساردي وشعراء الحب في فلسطين، حين يفاجئون القراء بما هو شخصي ومارق كما يصفونه وبعيد عن الجو العام الذي يسيطر على ذائقة الناس الأدبية.
(لا شيء يستفز القراء كما يستفزهم موضوع الحب والجمال وعلاقة الرجل مع المرأة، فترى القراء مهووسين بالمتابعة والتعليق، والتلصص وبناء الأفكار فيما بينهم وبين أنفسهم، لا سيما إذا كان أحد الطرفين مجهولا في النصوص، فيبادرون ويسألونك من تقصد أو لعلها فلانة، ويأخذون بقراءة «مخابراتية»، وقد يوفقون أحيانا في اقتناص معلومة لم يحترس لها الشاعر المتغزل، لتبدأ عملية تبئيرية فيضعون الطرفين تحت المراقبة الدائمة.
وهناك مظهر آخر تتم فيه مهاجمة كاتب النصوص الغزلية، وخاصة الفلسطيني، بدعوى أن الفلسطيني لديه ما يشغله عن الحب، والوقت ليس وقت غراميات، «والعالم عم تموت»، هكذا قيل لي مرات كثيرة، ولكن تزداد النقمة عليك إذا كان النص مفخخا بالأيروسيات، فيدخلك القراء في دائرة الأخلاقيات والحلال والحرام وانتهاك الأعراض، لتبدأ معركة أخرى، تحضر فيها الشعبوية، وعدم فهم النص، والانحراف في التأويل، وخاصة لشخص مثلي يعمل في سلك التربية والتعليم، لتزداد عبارات التنمر، والطرد من جنة الأخلاق الفاضلة، وتصبح شخصا خطرا على المجتمع التربوي برمته).
أمامنا كتاب شعري للشاعر الفلسطيني محمد دلة، مرثية للفارس الغريب، من إصدار دار الرعاة في رام الله عام 2019 يغرق الكتاب غرقا مقصودا وذا رؤية في حمى الإحساس الشخصي المتوتر للشاعر تجاه حبيبته، ومن الجدير ذكره هنا أن في تاريخ الشاعر ثمة التزام حديدي بالهم الشعبي والوطني الفلسطيني، عديد من النصوص في كتبه السابقة، تفيض بمقاربة القهر الفلسطيني وتنزع نحو التبشير بالأمل طريقا للخروج من حالة الضعف والعجز
هكذا ينقلب الشاعر جماليا على نفسه ويذهب إلى مناطق جديدة مباغتة لن يقبلها البعض، لكن الكثيرين سوف يحبون ذلك، هذا حق الشاعر في التعامل مع أحاسيسه الحقيقية النبيلة، لن يكتب الشاعر نص الوطن بشكل جيد فيما لو كان غير مهيأ مزاجيا لهذا النوع من النصوص، الكتابة عن فلسطين ليست واجبا بالمعنى الأوامري، إنها حالة مزاج شعري. وشخصي، ستموت القصيدة إن تم اغتصابها، وستزدهر إن تم التعامل معها بحب وشغف وحرية.
هكذا يفعل محمد الدلة في أهم نصوص كتابه (مرثية الفارس الغريب) وهو لا يتأخر في السماح لشعوره بالانفجار، حتى لو كان في وقت غير مناسب،:
( لماذا تأخرت يا نجمتي في الهديل.
وبكّر في الهم طيني وشعبي
لماذا سفحت المواعيد قبل صياح النبيذ
وبللت بالخل كسرة قلبي
لماذا وقصفة (زوفى) تعربد أنفاسها
تراود عيني وهدبي.
وبحر من الملح يكفي لأكسر ساق الدروب، ويكفي لندبي.
لماذا تأخرت يا نجمتي في الهديل.
وليس النهار برحب.
تقول التي تتأخر عني: أيا هامشي بعيدا ذهبت.)
لغة الكتاب متينة ولكنها لا تذهب إلى التعقيد، ولا محسنات بلاغية مقحمة من خارج الكتاب، وتتنقل النصوص إيقاعيا ما بين النثر والتفعيلة، فيما يشبه أرجوحة إيقاعية شهية. الغنائية واضحة في هذا الكتاب الشعري، ولا يخفي الشاعر هنا تأثره بمحمود درويش، لكنه التأثر الواعي والمدروس، استفاد الشاعر وقائع أسطورية ودينية وتاريخية حدثت في مراحل مختلفة، هذا الاستخدام الجمالي للتاريخ والدين أضفى على النصوص طابعا سحريا رشيقا، ولم تكن الاستفادة إقحامية، لم نشعر بشيء لا يتناسب في المجاورة مع شيء آخر.
الشاعر محمد دلة في سطور
الشاعر والكاتب محمد دلة، مواليد أبريل 1969/ فلسطين المحتلة، كفر راعي- جنين.
في رصيده الإبداعي: هكذا تكلم الجسد ومرثية الفارس الغريب ونساء الأندلس، ودراسات نقدية، في الصحف والمجلات، وله إسهامات في ترجمة كتب أدبية وسياسية من العربي للإنجليزي وبالعكس.
يعمل كصاحب مكتبة ودار نشر، يعيش في رام الله.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی إیش
إقرأ أيضاً:
نجم السِّماك الأعزل
لطالما كان للنجوم حضور قوي في الثقافة العربية، ولا تزال الكثير منها تحمل أسماء عربية حتى اليوم، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى في سورة الأنعام: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»، وارتبط العرب بالنجوم بشكل وثيق، فأطلقوا عليها أسماء ووصفوها بدقة، ولم يقتصر تأثيرها على علم الفلك وحسب، بل امتد أيضًا إلى الشعر والأدب، حيث تغنّى بها الشعراء وحيكت حولها الأساطير، مستخدمين إياها لرسم صور خيالية تربط بين النجوم وتوضح مواقعها في السماء ضمن حكايات وقصص مشوقة.
والنجم الذي نتحدث عنه اليوم هو نجم السماك، وهو نجم أزرق لامع يقع في الكوكبة النجمية التي تسمى العذراء، وقد سمته العرب السماك الأعزل، وكلمة السماك تدل في المعاجم على معنى السمو والرفعة، ولذلك استخدمه الكثير من الشعراء العمانيين والعرب في الدلالة على هذه المكانة، أما عن وصفه بالأعزل فذلك لأنه لا يوجد كوكب بين يديه، والأعزل الذي لا سلاح له. والعرب اعتقدوا أنه نجم واحد منفرد، ولكن هو في حقيقة الأمر عبارة عن نجمين يدوران حول بعضهما البعض أحدهم أكبر حجما وأكثر حرارة وسطوعا من الآخر، هذان النجمان قريبان جدًا من بعضهما، مما يجعل من الصعب رؤيتهما بشكل منفصل بالتلسكوبات التقليدية، وقد كان العرب يقسمون السنة إلى منازل قمرية، وكان السماك الأعزل يُعتبر جزءًا من هذه المنازل كما أنهم استخدموه لتحديد أوقات الأمطار وبدء مواسم الزراعة. أما من حيث المعلومات العلمية حوله، فإن الدراسات أثبتت أن النجم الرئيسي يبلغ قطره حوالي 7.5 ضعف قطر الشمس، كما أن درجة حرارته عالية جدا، حيث تبلغ حرارته حوالي 25.300 كلفن، مما يجعل لونه أبيض مائلا للزرقة، وهذه الحرارة أعلى بكثير من حرارة الشمس، التي تبلغ حوالي 5.778 كلفن فقط، وهو يبعد عن الأرض حوالي 250 سنة ضوئية، ويمكن رؤيته بسهولة في شهر أبريل ومايو بعد غروب الشمس، ويبقى ظاهرًا حتى أواخر الصيف. وقد ورد في كتاب الأنواء في مواسم العرب لابن قتيبة الدينوري قول ساجع العرب «إذا طلع السماك، ذهبت العكاك، وقلّ على الماء اللكاك»، و«العكاك» الحرّ، يريد أنه لا يبقى منه شيء عند طلوعه، «وقلّ على الماء اللكاك»، يريد الازدحام عليه، لقلة شرب الإبل في ذلك الوقت، قال أيوب بن موسى بن طلحة: «إذا طلع السماك، ذهب العكاك، وبرد ماء الخرقاء» يريد أن الخرقاء لا تبرّد الماء، فيبرد حينئذ من غير تبريد، وقالوا: «لا يطلع السماك إلا وهو مادّ عنقه في قوة» . وقال الشعبى: «لا يطلع السماك إلا وهو غارز ذنبه في برد». وقد ورد هذا النجم كثيرا في الشعر العماني، فلا يكاد شاعر من الشعراء العمانيين المشهورين إلا وذكره في قصائده، فهذا الشاعر أبومسلم البهلاني يقول في إحدى قصائده:
كلمات كالسحب تمطر نورا
ومعان كالدر في الأسلاك
صبغت صفحة الوجود ضياء
خطف النور من بصير السماك
وفي قصيدة أخرى يقول:
لئن هدمت محياك قاصمة الردى
فمجدك يبقى شامخًا لا يهدم
على سورة في المجد قر أساسه
له شرف فوق السماكين ينجم
كما أن الشاعر الغشري ذكر هذا النجم في إحدى مطولاته التي بلغت 210 أبيات، فهو يصف أئمة بني خروص ويقول عنهم:
نسخ الظلامَ ضياءُ عدلهمُ إذاً
وبدا على وجه الدجى الأنوارُ
ولقد سما فوق السمَاكِ فخارُهم
ولهمْ على كلِّ الأنامِ فخارُ
وإذا أتينا إلى الشاعر المعولي، فنجده ذكر هذا النجم في قصيدة مدح بها حميد ابن الإمام سلطان بن سيف اليعربي يقول فيها:
لكَ همَّةٌ قعساء في النعماء ما
تزدادُ إلا رفعةً بتنقلِ
لقدِ ارتقيتَ بهَا رقيّاً عالياً
حتى علوتَ على السماكِ الأعْزَلِ
وهذا الشاعر راشد بن خميس الحبسي يمدح قوما بقصيدة فيعلي مقامهم فوق مقام نجم السماك الأعزل فيقول:
قومٌ مقالُهم الصوابُ وقدرُهُمْ
يعلو على هامِ السماك الأعزل
هم سادةُ النادي وحُمْسُ رجاله
وبدورُ ناشئةٍ الظلام الأليْل
ومن شعراء عمان المشهورين الذين ذكروا السماك هو الشاعر موسى بن حسين بن شوال الذي يقول في إحدى قصائده:
سقاها ملثُّ القطرِ كلّ مجلجلٍ
وَثجّت عليها المعصرات الحواملُ
وَأَلبَسها نوء السماكين حلّةً
فَيشرق بالأزهار منها الحمائلُ
وأما الشاعر العماني سعيد بن مسلم بن سالم المجيزي الملقب بأبي الصوفي فيقول في مدح أحدهم:
يومٌ عَلَى فَلك السِّماكِ تطايرتْ
أَفراحُه فأزالتِ الأَتْراحا
عَمَّ البسيطة ناشراً أعلامَه
بِشراً فَطَمَّ مَهامِهاً وبِطاحا
ويقول الشاعر ابن رزيق في إحدى قصائده يمدح فيها أحد السادة البوسعيديين فيقول:
سلالةُ سلطانِ اليمانىِّ سالم
إِليه يمينُ الدهرِ بالقهرِ ساجدُ
رَقا حيث لا يرقى السِّمَاكُ من العُلا
ولم يستقم حيث استقام عَطاردُ