عوضا عن بذل جهود ناجعة بغية إنهاء معاناة السودانيين الملتهبة بنارالحرب، تلجأالرؤوس الخربة إلى إضافة حطب اختلالات يزيد اشتعال الأزمة حول الشعب .. فما قيل علىلسان وزير المالية في شأن معالجة الوضع الاقتصادي للدولة لا يتطلب تثبيتا أو نفياً. فهوشريك أساسي في الحرب وتداعياتها. كما أن اختلال موازنة الدولة إبان الحروب ظاهرةسياسية منذ الحرب العالمية الأولى .
*****
عندما ترتبك عمليات الاقتصاد و تتعطل دورات الإنتاج بصفة خاصة تحت الحرب تشح موارد الدولة. حينما يطول أمد العمليات العسكرية دون حسم مقابل زيادة كلفة الإنفاق يصبح البحث عن مخارج سلمية أو عسكرية ضرورة حتمية. عندما يكون خيار الدولةالإصرار على التوغل في الحرب لا يكون ثمة بديل للبحث عن مصادر للتمويل . هذا إطارحال (دولتنا )الراهن . فبينما تتدنى الموارد تترهل كلفة الإنفاق على الحرب . بالإضافة إلىالقوات العسكرية تُرهقُ الدولةُ بحمولة ميليشيات تشكل أعباءاً أكثر من مساهمتها فيتعجيل الحسم .إذ لا تكتفي بالعيش على( دولة ) منهكة ،بل تلجأ إلى التحايل و الابتزاز منأجل الفوز بأكبر حصة متاحة من الامتيازات و الغنائم.الحرب ساهمت في تغذية ماكينةالاقتصاد العشوائي المتبنى إبان عقود الإنقاذ والد ومربي الطبقة الطفيلية محتكرة المصادر والقطاف.
*****
لذلك لا يتطلب ما قيل على لسان وزير المالية تثبيتا أو نفياً. فاقتصاد الحرب المهترئتديره عقليات ليست أفضل حالًا منه إذ هي صانعته . هذا واقع لا ينتج غيْر خياراتٍبئيسة.هي عقليات تلجأ بالضرورة إلى خيارات تبدو سهلةً بقدر ماهي مغريةٌ بعائداتهاالعاجلة .هي ذاتها العقلياتُ البائسة القابضة على مفاصل (الدولة) وماكينة الحرب .فحديث(الصرف العسكري ارهقنا والدولة على وشك الإفلاس) مثل قول(تقلص الإيرادات وانخفاضالجنيه وفشلنا في التحكم بسعر الصرف مع ارتفاع أسعار السلع والخدمات) كل ذلك تقريرواقع معيش سواءً جاء على لسان وزير أو رجل شارع.أما الكلام عن بيع مساحات من أراضٍزراعية لدول مجاورة فليس ببدعة مستنكرة من قبل نظام الإنقاذ وورثته .فلدينا مزارعشاسعة مملوكة زمن السلام لدول ومستثمرون من الجوار والبعاد .كذلك فإن الإنفاق على كتائب البرّاء من خزانة الدولة ليس محط جدل.فالبراء ليست استثناء بين الميليشياتالمستأنسة والمستفرخة.
*****
بؤس الوضع الاقتصادي كما اتساع شح الأمن الغذائي مع انتشار رقاع الجوع على نحويؤشر إلى شبح المجاعة حقائق لا تتطلب شهادات منظمات داخلية أو خارجية. فانتشارالعمليات القتالية أدى إلى تعطيل أو تدني عمليات الإنتاج الزراعي في مناطق عريضة فيدارفور ،كردفان، الجزيرة،سنار و النيل الأبيض.كلها موطن الحبوب درر المحاصيل .حتى فيالجهات الآمنة نسبيا في مواقع الإنتاج تعثّرت عمليات الحصاد بفعل عدم الأمن أوالاستقرار وظاهرة النزوح تحت ظلال الحرب.قطعان الماشية لم تنج من العمليات القتالية أوتداعياتها.فكما تعرضت المحاصيل للنهب والتدمير المتعمد نالت الماشية نصيبها .ما نجا منالزرع والضرع لم يسلم من عمليات التهريب.هذا مرتع فتحته الحرب أمام الطبقة الطفيلية إذراكمت منه أرصدتها في الخارج عبر سوق سوداء ضاعفت من أنيميا المصارف المحلية.
*****
مصائب الطبقة الطفيلية لا تنحصر في احتكارها السلع، الخدمات والكتلة النقدية .كلعملياتها تؤثر على القوة الشرائية في زمن السلم و الحرب خاصة حيث ضمرت فعاليةأجهزة الدولة و بنى مؤسساتها .كما أفرزت شبكات مافيا قادرة على اختراق العديد منالحواجز الرسمية عبر وسائل تحايل متباينة .إن لم تسفر تلك كل تلك الأمراض والأعراض عنإنهاك المجتمع فهي تزيد لامحالة أعداد الفقراء. المكابرون وحدهم ينكرون جحيم المعاناةحيث يحترق مئات الألوف إن لم يكن الملايين من السودانيين في محنة حياتية يومية تحتأدخنة الحرب وغبارها. هذه حقيقة مؤلمة شاخصة في معسكرات اللجوء وجيوب تكدسالنزوح داخل المدن المحزونة،دعك عن مدارات الغربة وراء الحدود .هي حقيقة تعفينا منالانزلاق إلى سفح جدل دبغ عن الفقر ومنطلقات المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة
*****
فوفق معايير الاقتصاد السياسي ربما يسهل الاتفاق على تعريف الفقر (فقدان القدرةعلى توفير أساسيات الحياة)لعلنا نتفق كذلك على (المأوى، الغذاء والكساء) هيالأساسيات.في هذه الحالة نتنازل عن تعريف عصري للفقر (فقدان القدرة على المشاركة داخلالمجتمع)فهذا تعريف يتطلب قدرة الأفراد على اقتناء ثلاجة، جوال وربما عربة. لذلك تتباينالرؤى في شأن تحديد خط الفقر. حتى بالنسبة للبنك الدولي توجد خطوط فقر عدة. هناكمثلا خط (دولار واحد يوميا لكل واحد).لكن حتى القوة الشرائية للدولار تتباين من بلد إلىآخر.لذلك يؤمن اقتصاديون بأن وضع الإنسان الاقتصادي (ليس بما يكسبه بل بما ينفقه). فالنقد ليس فقط وحدة حسابية ،أو وسيلة للتبادل-أوراق أو قطع معدنية- بل هو حجر أساسفي العملية الاقتصادية برمتها.
*****
بغض النظر عن مدى صدقية التقارير الدولية فالثابت تردي الوضع المعيش للمواطنالسوداني.هذا المأزق الحياتي الضاغط حتى العظم لا يتطلب فتح حرب بيانات تكذيب فيسياق حرب بيانات الانتصارات الوهمية .فالواقع السوداني يصدر بيانات حقائق يومياً فيلغة عملية فصيحة تدحض كل الأكاذيب. مندوب السودان في الأمم المتحدة اعترف بوجودمجاعة لكنه وصفها ب(تجويع مصطنع) هو استغرق في عدم منهجية التقريرالانساني دونبذل جهد لنفي حصيلة التقرير.حلقة إضافية في مغالطات الواقع!(أقصر الطرق لإنهاءالعمليات القتالية المتمددة عبر المكان والزمان السودانيين يتم رسمه على طاولة تفاوض .تُرىما هو رد فعل قادة( حرب الكرامة) وأنصارها فيما إذا أنتج نداء المنظمة الأممية دعما مادياللمساعدة في لتخفيف معاناة السودانيين مبلغا مليونيا !؟
aloomar@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
مؤشّرات تراجع مكانة الدولة العبرية
لا أحد يستطيع تغيير طبيعة السياسة العدوانية والإجرامية الإسرائيلية التي لا تحترم ولا تلتزم بأيّ اتفاقيات أو تعهّدات. ليس سوى القوة ما يُلزِم دولة الاحتلال على الالتزام رغم أنفها.
خلال المرحلة الأولى من الاتفاق بين حركة «حماس» ودولة الاحتلال، انتهكت الأخيرة ما وقّعت عليه عشرات المرّات، لكنها لم تفلح في تحقيق ما أرادت حكومتها الفاشية المفلسة. محاولات دولة الاحتلال لإرغام «حماس» على الاستسلام لما أرادت بشأن تمديد المرحلة الأولى والإفراج عن أعداد أكبر من الرهائن، لم تصل إلى نتيجة.
الإدارة الأميركية منحت بنيامين نتنياهو مهلة 10 أيام، لتحقيق ما أراد، لكنه لم ينجح، بل إنه استدعى المزيد من الضغوط الداخلية، التي تطالب حكومته بالذهاب إلى المرحلة الثانية، ووقف الحرب.
صعّدت حكومة الاحتلال تهديداتها إلى أقصى مدى، عَبر إغلاق المعابر، ووقف تدفّق المساعدات إلى قطاع غزّة، ثم حاولت إضفاء مصداقية على التهديدات بالعودة للقتال، عَبر تحرّكات عسكرية، لكنها في الأخير لم تتمكن من تجاوز عتبة تهديداتها، والاكتفاء بإغلاق المعابر.
بالتأكيد يرغب نتنياهو وفريقه بالعودة للقتال، باعتباره الأسلوب المعتمد لبقاء الائتلاف الحكومي الفاشي، على الرغم من أن الضغط العسكري لم يؤدِّ إلى الإفراج عن أيّ رهينة.
كلمة السرّ في هذا العجز تكمن في رفض الإدارة الأميركية العودة إلى الحرب الإبادية، وتصرّ على متابعة المفاوضات. كان ستيف ويتكوف المبعوث الأميركي قد قال: إنه سيحاول الإفراج عن الرهائن، إما بتمديد المرحلة الأولى، أو عَبر الانتقال للمفاوضات التي تتعلّق بالمرحلة الثانية.
صحوة المقاومة الفلسطينية - التي تقرأ على نحو جيّد طريقة تفكير كل من أميركا ودولة الاحتلال - أدّى إلى إرباك موقف الأخير، وأظهر عجزه عن اعتماد سياسة مستقلة خاصة به، والتصرّف وفق حساباته.
لذلك إن التطور الكبير - الذي ينطوي على أبعاد مهمّة - تمثل في تدخل الإدارة الأميركية على خطّ المفاوضات المباشرة مع «حماس» من دون انتظار الموافقة الإسرائيلية.
علينا أن نصدّق أنّ دولة الاحتلال لم تكن على علم مسبق بقرار الإدارة الأميركية الشروع في مفاوضات مباشرة مع «حماس»، وفي أقلّ تقدير فإن نفي نتنياهو علمه بتلك المفاوضات مجرّد محاولة فاشلة لحفظ ماء الوجه.
حفظ ماء الوجه فقط، لأنّ دولة الاحتلال لن تجرؤ على الاعتراض على ما تقوم الإدارة الأميركية بالتفاوض المباشر مع «حماس»، ولا الاعتراض على أيّ نتائج يمكن التوصّل إليها.
هيئة البث الإسرائيلية عكست حالة من الارتباك لدى حكومة الاحتلال، فلقد كانت أعلنت أنّ ثمّة تقدّماً في المفاوضات، ثم عادت لتتحدّث أن المفاوضات لم تحرز أيّ تقدّم.
الإدارة الأميركية قدّمت لنتنياهو السلّم الذي ينزل عليه؛ بعد أن دخلت خياراته في حالة اختناق، فلا هو قادر على نسف كل مجرى المفاوضات والذهاب إلى الحرب، ولا هو قادر على إرغام «حماس» على تغيير موقفها بالاتجاه الذي يستجيب ولو جزئياً للشروط الإسرائيلية.
في كلّ الحالات ثمّة رسائل مهمّة تقف خلف السلوك الأميركي، أوّلها أنّ هذه الإدارة لا علاقة لها بالمبادئ، وأنّها يمكن أن تتراجع عمّا يصدر عنها في العلن. هذه الإدارة ذهبت للتفاوض المباشر مع «حماس» التي صنّفتها على أنّها جماعة إرهابية، ما يعني أنّها تتمتّع بقدرٍ عالٍ من البراغماتية والمواقف غير المتوقّعة.
ثاني هذه التداعيات، أنّ الإدارة الأميركية ليست وسيطاً، بل إنها طرف مباشر في الصراع، بالنيابة عن دولة الاحتلال وبالأصالة عن نفسها، ما يؤكّد، أيضاً، أنها شريكة في كل ما ارتكبته وترتكبه الأخيرة من جرائم متعدّدة الأشكال.
ثالث هذه الرسائل، أنّ دولة الاحتلال - التي كانت تدّعي أنها سيّدة نفسها وسياساتها، وأنها دولة مستقلة - لا تلتزم بما لا يتوافق مع مصالحها وإستراتيجياتها حتى لو جاءت من حليفها الأميركي.
طبعاً مثل هذا الخطاب الإسرائيلي كان إلى حدّ ما وبالمعنى النسبي صحيحاً خلال مرحلة الإدارة «الديمقراطية» السابقة. فلقد عاندت وأقدمت على مواقف وإجراءات، تعارضت مع مواقف وطلبات إدارة جو بايدن.
غير أنّ هذا الخطاب اختفى مع مرحلة دونالد ترامب، إذ لم تصدر عن أيّ مسؤول إسرائيلي تبجّحات من هذا القبيل، بل إن الأسابيع المنصرمة من عمر الإدارة الأميركية الجديدة أظهرت أنها هي التي تقود، وتتعامل مع دولة الاحتلال على أنها أداة تنفيذية للسياسة والمواقف الأميركية.
هكذا أكدت دولة الاحتلال مكانتها باعتبارها أداة تابعة للسياسة الأميركية والدعم الأميركي، الذي إن توقّف عنها فإنها ستكون في حال يُرثى لها.
ويتكوف سيعود إلى المنطقة غداً، لتسريع عملية التفاوض، ولذلك لم يجد نتنياهو أمامه أيّ خيارات سوى أن يُرسل وفده إلى العاصمة القطرية ليظهر وكأنه شريك أساسي في المفاوضات.
المقاومة التي أثبتت نجاحها في الميدان تثبت مرّة أخرى نجاحها في معركة التفاوض، فهي لا تزال تصرّ على مواقفها وشروطها.
المقاومة تدرك أن إدارة ترامب لا ترغب في إعطاء فرصة لمعاودة الحرب الدموية، التي ستعيد فتح المجال أمام توسيع دائرتها بما يهدد الاستقرار الهشّ في المنطقة.
يعزّز هذا الاتجاه عدم نجاح الإدارة الأميركية حتى الآن في إقفال صفحة الحرب في أوكرانيا، ما يعني أنها تعتقد بإمكانية تحقيق نجاح أسرع على جبهة الشرق الأوسط.
إعلان جماعة «أنصار الله» (الحوثيين) اليمنية، أنهم سيواصلون القتال على جبهة البحر الأحمر وإعطاء مهلة 4 أيام، لكي تعاود دولة الاحتلال فتح المعابر والسماح بتدفّق المساعدات، يؤخذ على محمل الجدّ لدى الإدارة الأميركية، ولكن ليس لدى دولة الاحتلال التي تتمنّى أن تتوفّر لها الذرائع بقلب الطاولة، لكنها ليست صاحبة قرار في ذلك، فالأمر منوط بالإدارة الأميركية التي ستعمل على التسريع في التوصّل إلى اتفاق.
(الأيام الفلسطينية)