سودانايل:
2025-04-10@06:24:00 GMT

الإسلاميون في السودان: لم تعثروا وكيف ينهضون (١-٦)

تاريخ النشر: 8th, January 2025 GMT

الدكتور الدرديري محمد أحمد

هذا مقال يتناول، في ست حلقات، أسباب تعثر الإسلاميين في السودان ويستشرف آفاق نهضتهم. وهو لا يجيء من قلمٍ في الرصيف، وانما ينحته في جدار التجربة إزميلُ من عايشها وسلخ فيها عمرا. ولئن اتبع الكاتب منهجيةً علميةً في تناول الوقائع – رصدا وتحليلا – فهو إنما ينطلق من إيمانٍ بصلاح الفكرة وبأن انبعاثها من جديد قدراً مقدورا.



وقد شَرعتُ في كتابة هذا المقال قبل عدة أشهر. غير انني توقفت عن المضي فيه حين بدا لي أن الأَمثل في تناولِه أن تُجرى بشأنه مداولة داخلية. ذلك حتى لا يُبذل في الفضاءات العامة التي لا تُؤمن فيها إساءة استخدام مادته بالاجتزاء المتعمد والاقتباس المخل. غير انه لما تفجر الصراع الحالي داخل حزب المؤتمر الوطني، وتعاورته الألسن والأقلام والوسائط، رأيت أنه انفتح الباب لتدارس كَبوة الإسلاميين السودانيين جهرةً ووصف الدواء لها علانية. فالغوص في لُب المشكل أفضل من ترك الناس يتبارون في حشد الشكليات. بل ربما يعين ذلك طرفي الصراع أن يسموَا بصراعهما ويسعيا لاتخاذ مسار يضمن نجاة الجميع والوصول بالسفينة لبر الأمان. كيف لا، والطرفان من أهل الحكمة والسبق وقد بذلا في هذه المحنة ما بذلا.

كذلك فان من مبررات هذا التناول العلني أن عبارة “الإسلاميين” لم تعد قاصرة على تنظيم بعينه. فحزب المؤتمر الوطني وكيان الحركة الإسلامية ليسا تنظيم الإسلاميين السودانيين كافة؛ وان كانا الأوسع بين تنظيماتهم. والمؤتمر الشعبي ليس هو كيانهم المؤثّل؛ وان كان بقية مما ترك شيخهم الأكبر. ويقال مثل ذلك عن الإصلاح الآن، وكيانات أخرى مؤثرة وسط الشباب او الشيوخ.

بل تشمل العبارة كيانات لا تمت للحركة الإسلامية الحديثة بآصرة. ومن ذلك الأحزاب التاريخية الكبرى، والسلفيين، والصوفية، وبعض الحركات المسلحة. كذلك يشمل وصف الاسلاميين السواد الأعظم من أهل السودان ممن لم يعرفوا انتماءاً حزبيا او حركيا او طائفيا؛ ذلك لكونهم انفتحوا على الأطروحة الإسلامية بعد أن رفضوا الأطروحة المقابلة. إذ هالَهم ما أتته “قحت”، فعلا منكرا، عندما حكمت؛ واستبشعوا ما جهرت به “تقدم”، قولا زورا، حين ناصرت الدعم السريع. بل ان المعنيين بهذه الاطروحة بالدرجة الأولى هم ذلك الطيف الواسع من الشباب ممن انحازوا للتغيير في أول عهده، في أبريل 2019، يلتمسون فيه بديلا وطنيا أطهر أو نموذجا إسلاميا أنقى؛ أو ممن نفروا خفافا وثقالا بعد الحرب مساندة لجند “الله والوطن”، فقاتلوا وقُتلوا واتخذ الله منهم شهداء.

فبعد ان كان شأن الإسلام في السودان، في خمسينيات القرن الماضي وستينياته وحتى سبعينياته، دعوة سرية تدار في الصالونات المغلقة، فإنه انداح في الآفاق دعوة جهرية تهتز لها المنابر، وتتصدر أخبارها الصحف، وتخصص لها الحوارات المتلفزة، وتمور بمستجداتها الاسافير. كيف لا وقد جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا.

وهكذا فان تناول قضايا الدعوة الاسلامية في الفضاء الطلق لا ينبغي أن يستغرب بعد اليوم.

بل ان دعوة الإسلام في السودان، ومنذ أن نضَت عنها ثوب العالمية وألتفّت بالعلم السوداني، إكتسبت طابعا وطنيا جعل أهل الملة الأخرى يألفون أطروحتها ويأنسون لها. ومن ثم فإن كَبوة الإسلاميين الراهنة تهم هؤلاء وتشقيهم؛ ونهضتهم القادمة تعنيهم وتسعدهم. فبتعثر الاسلاميين تعثر الوطن كله، وسينهض ان هم نهضوا. فالقبطية مارثا جوزيف، والكاثوليكي جون زكريا، والبروتستانتي شول ميوين؛ من قيادات المؤتمر الوطني. وقد يكون البعض منهم أعضاء في هيئة الشورى – التي يسهر الخلق جراها ويختصموا – ومطلوب منهم فيها رأي وموقف، ولهم فيها صوت قد يكون مرجحا. وبعض القيادات المسيحية من الكيانات الأخرى في جبال النوبة ظلوا على حلفٍ لم ينفصم مع المؤتمر الوطني. ومن هؤلاء القس دانيال كودي أنجلو، والدكتورة تابيتا بطرس شوكاي، والأب جوناثان حماد؛ وآخرون من دونهم.

وهكذا فإنه ما من أحد في هذا الوطن، ممن يعنيهم أمر نهضته، الا وهو معني بشأن الإسلاميين كونهم فصيلا وطنيا يعد تعافيه بعضا من التعافي الوطني الكبير. فمثلما أن كل أمريكي معني بمآلات الأمور في الحزب الجمهوري وبسلامته العامة، ومثلما أن مسار حزب المحافظين يهم كل بريطاني؛ فانه لكل سوداني شأن بجميع أحزاب السودان الكبرى. فما لم تتعافَ قوى السودان الوطنية كافة فانه لا ترجى للسودان عافية.

سيعرض هذا المقال في حلقاته الأربعة الوسطى لكبريات القضايا التي أدت إلى تعثر الإسلاميين في السودان. ذلك دون أن يوغل في تفاصيل الماضي، فيبالغ في تمجيد النجاحات أو يعمد لتبرير الإخفاقات. فغايته هي ان يستخلص من ذلك الدروس، ويستنطق منه العِبر التي تضيء الطريق. وفي الحلقة الأخيرة يُختتم المقال بمقاربة أولية يراها الكاتب – إن هي طورت – أساس النهضة الآتية للإسلاميين. أما هذه الحلقة الأولى فهي تمهيدية تقتصر على مسألتين: أُولاهما هي مطالبة خصوم الإسلاميين لهم بالاعتذار عن أخطاء الثلاثين عاما الماضية. وثانيتهما هي دمغهم بعبارة “الإسلام السياسي”، ومشتقاتها السوقي منها والفصيح. ذلك أن الرؤية في هاتين المسألتين، اللتين تنفذان لمختلف جوانب هذا الموضوع، تَصلح – إن هي اتضحت – مدخلا لما عداهما. كيف لا والأُولى منهما تتناول فقه المراجعات، والثانية تتطرق لأُسِ فقه الدعوة الإسلامية في السودان. ونبدأ بالمسألة الأولى وبالله التوفيق.

في الفقه الإسلامي يقصد بالتوبة الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى بالإقلاع عن الذنب، والندم على فعله، والعزم على عدم العودة إليه مرة أخرى، ورد الحقوق والمظالم ان وجدت. وتعتبر التوبة واجبة على كل من ارتكب ذنبًا، وبابها مفتوح حتى تبلغ الروح الحلقوم. هذا عند علماء الشريعة. أما في التصوف فان للتوبة مراتب. فالإقلاع عن المعاصي الظاهرة هو توبة العامة. اما توبة الخاصة فتشمل الذنوب الباطنة مثل الكِبْر والرياء والحسد. وتوبة خاصة الخاصة هي التوبة عن الالتفات إلى غير الله أو الانشغال بالدنيا.

وكل ابن آدم خطاء. فالخطأ من الجِبِلّة البشرية التي لا فكاك منها. “ولقد أضل منكم جِبِلًّا كثيرًا”. فلا عصمة لأحد من الخطأ الا الرسل عند تبليغ رسالاتهم. ومن ذلك قوله تعالى عن سيدنا محمد ﷺ: “وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلهَوَىٰٓ * إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحَىٰ”. بل حتى في البلاغ، فإن الله يتوعد الرسول توعدا شديدا إذا تَقوّل: “وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ”. وقد وردت في القرآن الكريم أمثلة لأخطاء الأنبياء، فيما هو دون البلاغ، لتكون دروسًا خالدة نتأملها ونتعلم منها. فقد أخطأ آدم عليه السلام حين أكل من الشجرة “فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْه”. وأخطأ يونس عليه السلام حين خرج مغاضبا “فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰات”. وأخطأ نبينا محمد ﷺ عندما عبس في وجه ابن أم مكتوم، فعاتبه ربه “عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلْأَعْمَىٰ”.

فاذا جاز مثل ذلك في حق الأنبياء، وأنزل الله فيه قرآنا يتلى بُكرةً وعشية، فكيف بحسن الترابي رحمه الله، وعمر البشير، وعلي عثمان، وعلي الحاج، ونافع علي نافع، وغازي صلاح الدين، وعلي كرتي، وإبراهيم غندور، وأحمد هرون، وإبراهيم محمود؛ بل كل من تولى شأنا عاما خلال أعوام الإنقاذ الثلاثين!

ولا شك في ان قيادات الإسلاميين قد ارتكبوا أخطاء أثناء إدارتهم الشأن العام. فما بلغ من تلك الأخطاء مرحلة الاتهام بجريمة، وجب أن يحاكموا عليه فيُبرّأوا من التهمة أو يدانوا بها. فمن يُبرّأ فهي شهادة شخصية له، ومن يدان ويعاقب كان ذلك زاجرا لغيره جابرا لذنبه – ان شاء الله. وما كان من أخطائهم دون ذلك لكنه بلغ درجة مخالفة العهد والميثاق الذي بينهم وبين اخوتهم، حاسبوهم عليه وربما أخرجوهم بسببه من جماعتهم. ومن شاء منهم أن يتوب عن خطئه، جُلّه ودِقّه، فله ذلك بالاستغفار ورد الحقوق عينا، او بالاعتذار. إلا أنه إذا كانت التوبة بالاستغفار والاعتذار من الأفعال الجائزة عندنا في حق الفرد، فهي ليست من الأفعال التي تأتيها الجماعة.

فالجماعة لا تتوب ولا تستغفر، ولا هي تعتذر. فما يَصلُحُ لها ويُصلِحُ شأنها هو تصحيح المسار من خلال مراجعات شاملة تستهدف كل أوجه نشاطها السياسي وغير السياسي لتفضي لتقويم المنهج كله؛ منعا لأخطاء الماضي من أن تتكرر، وتضييقا للمنافذ التي تفضي للخطأ مستقبلا. ذلك هو الأنفع، للجماعة خاصةً، وللناس كافةً.

غير أن التوبة في حالة الفرد، والمراجعات في حالة الجماعة، مهما كان ما فيهما من صدق وتجرد، لا تعصمان الفرد أو الجماعة من الوقوع في أخطاء جديدة. فالحقيقة الأزلية التي لا مراء فيها هي ان “كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابون”. وكل جماعةٍ خطاءه، وخير الجماعات المُراجِعة لخطئها المُصحِحة له. وهكذا، يستمر هذا السير السرمدي ما دمنا أحياء. نخطئ اليوم، أفرادا وجماعات، فنسدد ونقارب ما استطعنا. ثم نخطئ مجددًا غدا، أفرادا وجماعات، ونعيد التصحيح.

ما أراه يحدث اليوم من الإسلاميين، مثلهم في ذلك مثل خصومهم، هو الاهتمام بأخطاء الأفراد وليس أخطاء الجماعة. اذ عقدت الدولة محاكمات لبعض القياديين ووجهت لهم اتهامات بالحق أو الباطل. وتبين ان جل ذلك من الكيد السياسي. وحققت أجهزة الاسلاميين الخاصة مع بعض القياديين بشأن وقائع معينة حصلت في آخر يوم من أعوام حكم الانقاذ الثلاثين فشكلت لجانا للتحقيق ومجالس للمحاسبة. غير أن الأهم من ذلك والأجدى هو المراجعات التي تُجرى لتُقيم نهج الجماعة تقييما شاملا وتقومه. فنُجرِى مراجعات لوجهتنا الاستراتيجية، حتى نعلم هل لا نزال نيمم شطرها أم ضللنا عنها. وما إذا كانت الوجهة التي قررناها عند التأسيس قبل نحوا من ثمانين عاما لا تزال صالحة، أم وجب اتخاذ غيرها. ونجري مراجعات لكياناتنا وهياكلها التنظيمية، وما إذا كانت لا تزال صالحة لزماننا ولظرفنا الراهن. ومراجعات لوسائلنا في الوصول للحكم، والصواب في ذلك والخطأ. ومراجعات لتجربتنا الطويلة في الحكم والمعارضة فنعرف كيف نعظم النجاح وكيف نتوقَى الفشل.

ولن تتأتى مثل هذه المراجعات الشاملة الا إذا صدقت النوايا، وتجرد الناس من حظوظ الأنفس، ولم يخشوا في الحق لومة لائم.

فاذا كان من حقنا ألا ننزلق لخانة جلد الذات والاعتذار كجماعة، وهي الخانة التي يرجو خصومنا جرنا إليها؛ وإذا كان لنا ألا نستسلم لحملات استهداف القياديين زورا وبهتانا، وهو ما يرجو خصومنا إلهاءنا به وإقعادنا بسببه؛ فانه يتعين علينا ألا نتوقف عن إطلاق المراجعات الاستراتيجية والفكرية والمنهجية والتنظيمية الشاملة. وألا نتردد في نشر نتائجها للكافة.

ننتقل بعد هذا لنناقش الاتهام الموجه للإسلاميين بتسييس الدين، وتسميتهم بالإسلام السياسي.

تسيسُ أمرٍ ما يعني جعله موضع جدل وخلاف. ومثلما سُمي الإسلاميون في كل مكان “الإسلام السياسي” لوصمهم بجعل الإسلام قضية جدل سياسي، دُمغ الإسلاميون السودانيون بإفساد الحياة السياسية بإقحام الإسلام فيها. واصبحت هذه المسألة محورا للخلاف بين الإسلاميين وخصومهم. لكنه عند التمعّن فيها نكتشف أنها مغالطة fallacy تقوم على تشويه الحقائق التاريخية.

ففي السودان التاريخي، كان الإسلام جزءًا لا يتجزأ من الدولة التقليدية؛ فالسلطنة الزرقاء في الوسط وسلطنة الكيرا في الغرب استمدّتا شرعيتهما من الإسلام. فطبقتا شرائعه والتزمتا نهجه في الحياة العامة نحوا من ثلاثة قرون. لاحقًا، عزّزت الطرق الصوفية ارتباط المجتمع بالدولة والإسلام، ثم جاءت الدولة المهدية التي جمعت بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية المستندة إلى الإسلام. ولم ير الناس في ذلك الا أنه ما يُصلِح دينهم ويَصلُح لدنياهم. إذًا، كان الإسلام في حياة الناس وفي دولتهم ومجتمعهم، وكان محلّ إجماع ولم يكن مثار خلاف. فما الذي غيّر هذا الواقع؟

جاء التحوّل مع دخول المستعمر الذي أرسى أركان الدولة القُطرية الحديثة على الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي مغيبا الإسلام عن الحياة العامة. استسلم الناس لهذا التغييب على مضض، مدركين أن سببه هو وجود المستعمر نفسه. لذلك لم يطالب الناس المستعمر بإعادة الإسلام إلى الحياة، بل طالبوا برحيل الدولة الاستعمارية نفسها. وكان الاعتقاد السائد أن الإسلام سيعود تلقائيًا لبلاد السودان مع زوال الاستعمار، فيتحاكم الناس للقرآن ويستمدون قوانينهم من شرع الله.

ولكن بعد رحيل المستعمر، تفاجأ الناس بأن الإسلام لم يعد للحياة العامة كما كان. ذلك ان المستعمر خلف وراءه من النخب من يرون ما يرى ويسيرون في الناس سيرته. وبقي الإسلام غريبا في الدولة القُطرية المستقلة مثلما كان غريبا في العهد الاستعماري. الا أنه رغم عدم مواثبة النُخب الوطنية لاستعادة الدين للحياة ولتحقيق الاستقلال الفكري والثقافي عن الغرب فإن السودانيين عامة، والإسلاميين خاصة، لم يقفوا من تلك النخب التي تولت زمام الأمور عقب خروج المستعمر ذات الموقف السلبي الذي وقفوه من المستعمر. فهم يقدرون لها نضالها في سبيل الاستقلال ومواقفها من قضايا التحرر العالمي، ويرون انها انما غفلت عن أمر الدين بسبب الغلالة الكثيفة التي أحاطه بها الغرب. وفي هذا يقول الدكتور الترابي: “لعل العناصر العلمانية عن أيديولوجية والتزام عقائدي قلة في صفوف الأحزاب التقليدية، وانما هو الجهل بشمول الدين، والغفلة عن مقتضاه السياسي، في مجتمع انفصل فيه الدين عن السياسة تاريخا، وشاعت فيه الثقافة الغربية التي تكرس ذلك الفصل”. لكنه عندما تعالت أصوات تقول أن تحديث الحياة وعصرنتها لا يتأتى الا بإقصاء الإسلام عنها، ارتفعت المطالبة الشعبية بأسلمة الحياة. فظهرت جماعات وأحزاب إسلامية، قوامها الفقهاء ورجالات المجتمع. تلك الأحزاب والجماعات هي نواة إسلاميي اليوم. وهكذا ولد في بلادنا الفصام النكد بين الأغلبية الشعبية العارمة التي ترفض التعايش مع الخطيئة التي أرتكبها المستعمر، وبين الأقلية المتغربة التي لا تزال تأمل، جيلا بعد جيل، في استدامة ما أوجده المستعمر.

من الظلم للحقيقة ان يقال عن هذه الأحزاب او الجماعات، التي نشأت بعد ذهاب الاستعمار لتطالب الحكام الوطنيين بإعادة الأمر الى نصابه غير المختلف عليه، أنها هي التي “سيّست” الإسلام. فتسييس الإسلام في السودان كان بمحاولة إخراجه من الحياة وليس بمحاولة إعادته لها. فمن سيّس الإسلام هو المستعمر الذي جعله موضعا للخلاف بأن أقصاه عن شئون الدنيا. ومن سيّس الإسلام هم ربائب الاستعمار ممن سعوا لجعل اقصائه ذاك هو الأصل.

يتضح مما تقدم أن هدف الإسلاميين السودانيين هو العمل لأن تلتزم الدولة والحكم دين الأمة وقيم المجتمع كما كان عليه الحال قبل المستعمر. وحيث ان نمط التدين الذي كان سائدا كان نمطا تقليديا لا يتحقق بمعاني الأصل أو يستجيب لدواعي العصر فانه كان لابد لحركة الإسلام الحديثة من أن تعمل أيضا لتجديد الدين. فتلك سنة ماضية ينبري لها القادرون أفذاذا وجماعات كل ما بَلي الدين. اذ روى أبو هريرة عن النبي ﷺ “إنَّ اللَّهَ يبعَثُ لِهذِه الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سَنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها”. هذه هي الفكرة والغاية التي من أجلها صار الإسلاميون في السودان إسلاميين. فما هو الإطار الفكري الذي اتخذوه، وما هو النهج التنظيمي الذي سلكوه لتحقيق هذه الغاية. ذلك هو موضوع الحلقتين التاليتين من هذا المقال.

نقلا عن السوداني

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: المؤتمر الوطنی أن الإسلام فی السودان الإسلام فی التی لا ان کان من ذلک التی ت

إقرأ أيضاً:

ليت بعض القادة والساسة.. ينتبهون لما يقولون

بسم الله الرحمن الرحيم
══════❁✿❁═════
ليت بعض القادة والساسة
ينتبهون لما يقولون
══════❁✿❁═════
الحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وآله وصحبه، وبعد:
✍️ فقد سبق أن كتبت مقالة بعنوان: “تصريحات بعض الساسة وضبط الخطاب”، وذكرت بأن الذين ينادون بضبط الخطاب الدعوي وينسون الخطاب السياسي وغيره من أنواع الخطاب دعوتهم قاصرة بل متهمة، والحقيقة أن الجميع مُطالَب بضبط خطابه، ولا زال بعض القادة والساسةص يتمادون في الخطاب غير المنضبط؛ الأمر الذي قد يعيق سير المعركة، ويؤثر على استمرار التوافق والوحدة القائمة، وقد وقفت على بعض المخاطبات، ولي في ذلك بعض الملاحظات أسوقها نموذجًا، وقصدي النصح والتحذير، والمعالجة والاستدراك، فأقول وبالله التوفيق:
▫️أولًا: من المنح التي حوتها المحنة التي حلت ببلادنا في طياتها توحد عامة أهل السودان في محاربة العدو والدفاع عن السودان، وهذا أمر محمود، وددنا أن يتخذه أهل السودان منطلقًا لوحدة تامة، وأن ينبذوا العنصريات والقبليات والجهويات، وأن يحافظوا على وحدة بلادهم ويسعوا لإزالة الحواجز التي وضعها الأعداء بينهم؛ ليعيشوا في بلد واحد، يسوده العدل والقانون، يقوم كل بواجبه، وينال حقوقه دون تمييز.
⚠️ ومن الواضح أن المشوار لا زال طويلًا، والمؤامرة كبيرة، والموقف في غاية الحساسية، والمرحلة حرجة، وهي بحاجة إلى قادة يتميزون بالحكمة، والعقل، والنزاهة، والكفاءة، لنحافظ على هذا الاصطفاف التاريخي لمصلحة البلاد بأسرها، لا لتحقيق مصالح شخصية أو جهوية أو قبلية، ولنجعل من هذه الوحدة القائمة وحدة حقيقية دائمة، ولنحذر من أن نكون كالذين قال الله سبحانه فيهم: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: ١٤].
▫️ثانيًا: تعدد المخاطبات من أكثر من شخصية في قيادة الدولة أمر يعد ظاهرة غريبة غير معهودة في الأعراف السياسية؛ لأنها تشير إلى نوع خلل، وعدم توافق، وتعدد مصادر القرار، وقد عهدنا هذه الظاهرة في بلادنا لأول مرة بعد بروز (محمد حمدان دقلو) في قيادة الدولة، فكان لا يكتفي بمخاطبات رئيس مجلس السيادة حتى يوازيه بمخاطبة مماثلة، مما يُشعِر الناس أنهم في ظل دولتين متوازيتين، وللأسف يمارس هذا السلوك بعض القادة الآن، مع أنه ليس هناك داع عقلًا، ولا يقتضي ذلك نظام أن يقدم رئيس مجلس السيادة خطابًا للشعب السوداني، ثم تتلوه مخاطبات أخرى من قادة آخرين يرأسهم رئيس مجلس السيادة سياسيًا وعسكريًا.
⛔ وقد يتحجج بعضهم أنه ثمت مناسبة لتكرار الخطاب من قيادات أخرى!
???? أقول: قد يتطلب الأمر شيئًا من ذلك لكن بشرطين:
???? الأول: ألا يكون ذلك عادة راتبة، ونظامًا متبعًا، وإنما يكون أحيانا عندما يوجد المقتضي.
???? والثاني: ألا يناقض خطابه خطاب رئيس مجلس السيادة، وإلا لكنا أمامج حكومة فيها شركاء متشاكسون، ولا يمكن لحكم أن يستقيم على هذا النحو، بل الواقع أن بعض التصريحات تتضمن نقدًا واضحًا لرئيس مجلس السيادة أمام الإعلام وعلى الهواء، وبعبارات فيها نوع تطاول وتوجيه، وهذا أمر في غاية الخطورة، ويعيد إلى الذاكرة ما كان يصدر من أبناء (دقلو -حميدتي وعبد الرحيم-) قبل الحرب، والله المستعان.
▫️ثالثًا: واضح أن عددًا من الخطابات في هذه الأيام غير منضبطة، وتحوي في طياتها رسائل توحي بإشكالات وتعقيدات، بل لا تخلو من إثارة، وإشارات بعضها عنصري، وبعضها فوقي، وقد تتضمن نوعًا من التهديد والتحدي، ومثل هذه الخطابات يعجب المرء من صدورها من شركاء الحكم، وهي خطابات بالغة الضرر، ومن شأنها أن تثير شكوكًا وظنونًا وعدم ارتياح في أوساط عامة الشعب غير الأتباع، وردود أفعال قد لا تنضبط أيضًا.
⛔ وبعض تلك الكلمات تشعر بأن المتكلم يمتلك الشرعية والأحقية أكثر من غيره، ولا أدري من أين جاء هذا الإحساس الغريب؟
▫️رابعًا: من تلك التصريحات الغريبة المريبة قول بعضهم: “نحن موجودون منذ سبع وعشرين ألف سنة وموجودون في التوراة والإنجيل والقرآن”:
???? وبغض النظر عن صحة ادعاء هذا العدد؛ إذ المشهور أن عمر الحياة البشرية على كوكب الأرض ما بين ستة إلى عشرة آلاف، وكذلك بصرف النظر عن ادعاء الوجود في الكتب السماوية، لكن الذي يهمنا هنا: ما مقصود المتكلم بقوله: (نحن)؟ هذا الضمير عائد إلى من؟ وما المغزى والمقصود من ذكر هذا التاريخ المجهول الذي لا يقوم على أساس؟ فهل يعني بقوله (نحن) السودانيين؟ وهل هناك قومية أو شعوبية اسمها (السودانيون)؟ وإن كان هذا قصده فمن هم السودانيون؟ هل هم قبيلة وعرق، أم شعب تجمعه حدود سياسية؟ ثم لماذا يتجاهل حقيقتين لا مراء فيهما:
???? الأولى: غالب السودانيين (مسلمون)، إذ تفوق نسبتهم (٩٨%) من السكان، فهم أغلبية، وتاريخ الإسلام معلوم محدد بأرقام قطعية منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم نحو (1414م) عاماً بالميلادي، وبالتقويم الهجري نحو (١٤٥٨) عامًا قمريًا.
هذه حقيقة لا يمكن لأحد أن يحاول طمسها بمجرد ترهات؛ فهو كالذي يريد حجب الشمس بيده.
???? الحقيقة الثانية: أن جميع الأرض التي تسمى السودان وفق الحدود السياسية الحديثة، يطلق على سكانها اليوم لفظ (السودانيين)، وهذه الرقعة الجغرافية بدأت تتشكل منذ الممالك النوبية الثلاثة: (نوباتيا)، و(المقرة) و(علوة) وهي ممالك نصرانية، والمتحدث ليس نوبيًا ولا نصرانيًا، والقبائل النوبية تمثل نسبة كبيرة من سكان السودان الحديث، ولما جاء الإسلام دخلوا فيه وصاروا مسلمين، وامتزجوا مع الإثنيات العربية، وغيرها من القوميات التي جمعها الإسلام والبلد، ونشأت الممالك الإسلامية: (سلطنة سنار) و(سلطنة دارفور)، وغيرها من المالك، ثم جاءت المهدية، وأعقبها الاحتلال البريطاني والذي انتهى بالاستقلال عام (1956م)، وتعاقبت على السودان السياسي الحديث حكومات محلية إلى هذه الساعة، وهذا تاريخ معلوم لا داعي إلى التشويش والتدليس لأغراض خفية.
▫️خامسًا: ومن تلك التصريحات قول بعضهم: “إنه لولا فصيله العسكري لما تحررت مدني ولا الخرطوم ولا سنجة ولا الناس وصلت الأبيض، وأنهم لا يقاتلون من أجل الجلابة بل من أجل بلدهم وأطفالهم ونسائهم… إلخ”.
???? هذا خطاب غير منضبط، وغير واقعي، بل إن الواقع أنه لولا لطف الله أولًا، ثم ثبات أبطال القوات المسلحة، ومن بعدها هبة أبطال هذا الشعب من معاشيين، ومتقاعدين، ومستنفرين، وكتائب لما تحررت المناطق المذكورة، بل لما ظلت الفاشر ثابتة حتى الآن، بدليل أن قوات المتكلم ظلت محايدةً متفرجةً طيلة تسعة أشهر لم تشارك بشيء البتة في معركة الكرامة، فكيف ينسب إليها كل هذا الفضل؟
هذا قول مجاف للعدل والحقيقة.
نعم القوات المعنية لها دور مشكور وجهد واضح بعد أن انحازت للقوات المسلحة، أما أن تُجعَل صاحبة الفضل دون غيرها فهذا قول مجاف للحقيقة ولا داعي لذكره أصلًا.
أما كونهم يحمون بلادهم إلخ، ولا يحمون الجلابة، فتلك جملة وإن قصد بها الرد على المليشيا، إلا أنه لم يوفق في ذكرها لما تعطيه من إحساس بالمفاصلة والمباينة، وكأن (الجلابة) ليس من ضمن أهل هذه البلاد التي يدافع عنها.
والأمثلة في هذا كثيرة والمقصود التنبيه، والتذكير، وضرورة التعقل وتوخي الحكمة، وتجاوز الحزبيات الضيقة، والانضباط في التصريحات والكلمات، واحترام هذا الشعب المكلوم، والعمل على تحقيق وحدة أساسية، وترك العنصرية لجهة أو قبيلة، بل شعب واحد وجيش واحد، يجمعهم الدين الجامع والبلد الواسع، وبالله التوفيق.
___
نشر بتاريخ: ١٠ شوال ١٤٤٦هـ، الموافق 2025/34/8م
════════❁══════
فضيلة الشيخ الدكتور: حسن أحمد الهواري حفظه الله

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • في ذكرى الشهيد الصدر
  • ليت بعض القادة والساسة.. ينتبهون لما يقولون
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: الشبكة التي نتخبط فيها
  • المقالات التي تعمل على تعزيز السلام والأمن على أرض السودان
  • المواطنة العادلة في الإسلام.. تشريع إلهي يسبق مواثيق العصر الحديث
  • تصعيد إسرائيلي في لبنان والجيش يدعوه للانسحاب من المناطق التي يحتلّها
  • استجابةً للتحديات التي تواجه صناعتها... إطلاق تجمّع منتجي الدراما في لبنان
  • الإسلاميون والدعم السريع تضاد التمكين
  • الدكتور السيد عبد الباري: النصر والتمكين سيكونان لأمة الإسلام في النهاية
  • ما موقف الإسلام من دراسة الساينس (العلم التجريبي)؟.. علي جمعة يوضح