إلى أين؟ لم أنتبه بعد، فما زلتُ أتمشَّى في أغنية طويلة منذ بداية الفجر وأتمادى مع هذا الحنين الغامق الغامض المتحور الذي لا يُفسر. الحنين إلى ماذا، هل سألتَ نفسك؟ ربما إلى شيء غائب قد تستدرجه الذكرى من أقاصي غيابه لأعانقه ثم أنسحب، أو ربما كان حنينا إلى شيء حاضر بخفة وخفاء في مكان ما من هذا المكان، لكنه ما زال يتمنع حتى على الشعر.
كحل الفجر يتدرج شيئا فشيئا، يهبط كالستارة المخرَّمة بثقوب الضوء عن سعف النخل، لتنهض الكائنات من كسلها المبلل بالندى، فتدبَّ الحياة الرتيبة من جديد في كل شيء يتنفس هكذا يطلع النهار على خضرة تستفيق من سباتها أكثر جِدةً من الأمس. أستنشق صباح القرية الطازج كأنني أفعل ذلك لأول مرة في حياتي، كأنها ولادة جديدة أحسُّ فيها بالعضلات المرتخية وهي تنتشي بدم جديد. من فتور شمس الضحى في القلب أعرف لسعة هذا الحنين، من ندى العرق الممزوج بالعطر في الثياب، من رائحة المطر في التراب ومن عبق الخشب القديم في البيت المهجور. والأجمل من كل ذلك أن السعادة لا تحل غريبة أو مفاجئة هنا، سعادة بطيئة وروتينية بلا عنفوان، تدخل إلى البيت كما تخرج منه دون أن تترك فراغا وحشيا خلفها.
هنا تهجيتُ اسمي كاملا لأول مرة حتى بلغتُ الحرف الأخير من اسم العائلة بلا خطأ لغوي أو حادث سير، وهنا حددتُ الوطن بحدود ما يمكن أن أراه من الأشياء المحيطة. أنتشر في دروب شقتها الأقدام الفانية بين الزرع، في الطريق المُعبد بعرض سيارة واحدة بين البيوت، وأتماهى مع نسيج الأرض التي تهجيتُها قبل سنوات خلت بخطوات أصغر لطفل يحلم ماشيا آناء الليل والنهار، حين أخبرتني الأرض بأن كلَّ الدروب مهما طالت ومهما التوت على نفسها سوف تنعطف إلى البيت في نهاية المطاف. لكنني اليوم لستُ أكثر من نائم يتمشى في حُلمه قبل أن يدوس على ظله فيستيقظ، أو لعلني سائح عابر يتنزه الآن بين أطلاله في بياض الذاكرة. فلم أعد أملك من المكان سوى ما ربيتُه هنا من الحنين السري الذي يشردني عن المكان كلما عدت، ويتركني على هدى بوصلة القلب الطائش غير الملتزم بانضباط الإيقاع، مُنقبا بلا مراجع أو عناوين عن طفولتي النائمة في خردة من الأحلام التي لم تعد صالحة للحلم بعد، وفي الحكايات الناقصة التي لم تعد جديرة بالكتابة.
متى كنتَ هنا آخر مرة؟ حين أدركتُ أنه يتعين علي أن أغادر لأستأنف حياتي في مكان آخر، حتى أكمل تعليمي في العاصمة، حيث سأدرس هندسة الطرق والجسور وفقه المعادن والتربة والصخور. ومنذ ذلك الحين، لم أعد إلى هنا إلا في ثياب الزيارة. أما الآن فلستُ أنا -ههنا- سوى ما أتذكره عن نفسي قبل البارحة: شاعر مهجور يحلم ببيت من الشعر صالح للسكنى. يتقمص وظائف لا تشبهه، لا تمتُّ إلى كيانه اللغوي المستقل بأي معنى، تمتهنه المهن الاضطرارية التي لا بد له أن يزاولها، لا لشيء، إلا ليصبح قادرا على الحلم فحسب، قادرا على تسديد ثمن أحلامه حين تحين في زمانها ومكانها. هو الشاعر الذي يفعل ما أفعله الآن، وما أفعله في كل مرة: يهرب من ضمير المتكلم مستجيرا بضمير الغائب!
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً: