لجريدة عمان:
2025-04-09@08:36:49 GMT

عن شيء مما نسيت

تاريخ النشر: 19th, August 2023 GMT

إلى أين؟ لم أنتبه بعد، فما زلتُ أتمشَّى في أغنية طويلة منذ بداية الفجر وأتمادى مع هذا الحنين الغامق الغامض المتحور الذي لا يُفسر. الحنين إلى ماذا، هل سألتَ نفسك؟ ربما إلى شيء غائب قد تستدرجه الذكرى من أقاصي غيابه لأعانقه ثم أنسحب، أو ربما كان حنينا إلى شيء حاضر بخفة وخفاء في مكان ما من هذا المكان، لكنه ما زال يتمنع حتى على الشعر.

يكفي أن يتبخر صباح القيض بدخان الخرافة المتصاعد من احتراق مخلفات النخيل لأعود إليَّ قبل عشرين عاما، لأعود طفلًا قبل ألف عام. يكفي أن ينطلق هدير ماكينة الري (من ذلك الطراز القديم الذي يعمل بالديزل) لأذيع أشواقي علانية دون أن يسمعني أحد. تكفي قنطرة تختصر الساقية، قنطرة من بقايا باب خشبي قديم، لأعبر إلى الذات بلا خذلان يُذكر. ويكفي أن أحملق في صورتي وهي تسبح على مرآة الفلج المتجعدة لأعود إلى هويتي الأولى كمفردة من مفردات الطبيعة، مفردة ناطقة تُعرِّف نفسها بنفسها.

كحل الفجر يتدرج شيئا فشيئا، يهبط كالستارة المخرَّمة بثقوب الضوء عن سعف النخل، لتنهض الكائنات من كسلها المبلل بالندى، فتدبَّ الحياة الرتيبة من جديد في كل شيء يتنفس هكذا يطلع النهار على خضرة تستفيق من سباتها أكثر جِدةً من الأمس. أستنشق صباح القرية الطازج كأنني أفعل ذلك لأول مرة في حياتي، كأنها ولادة جديدة أحسُّ فيها بالعضلات المرتخية وهي تنتشي بدم جديد. من فتور شمس الضحى في القلب أعرف لسعة هذا الحنين، من ندى العرق الممزوج بالعطر في الثياب، من رائحة المطر في التراب ومن عبق الخشب القديم في البيت المهجور. والأجمل من كل ذلك أن السعادة لا تحل غريبة أو مفاجئة هنا، سعادة بطيئة وروتينية بلا عنفوان، تدخل إلى البيت كما تخرج منه دون أن تترك فراغا وحشيا خلفها.

هنا تهجيتُ اسمي كاملا لأول مرة حتى بلغتُ الحرف الأخير من اسم العائلة بلا خطأ لغوي أو حادث سير، وهنا حددتُ الوطن بحدود ما يمكن أن أراه من الأشياء المحيطة. أنتشر في دروب شقتها الأقدام الفانية بين الزرع، في الطريق المُعبد بعرض سيارة واحدة بين البيوت، وأتماهى مع نسيج الأرض التي تهجيتُها قبل سنوات خلت بخطوات أصغر لطفل يحلم ماشيا آناء الليل والنهار، حين أخبرتني الأرض بأن كلَّ الدروب مهما طالت ومهما التوت على نفسها سوف تنعطف إلى البيت في نهاية المطاف. لكنني اليوم لستُ أكثر من نائم يتمشى في حُلمه قبل أن يدوس على ظله فيستيقظ، أو لعلني سائح عابر يتنزه الآن بين أطلاله في بياض الذاكرة. فلم أعد أملك من المكان سوى ما ربيتُه هنا من الحنين السري الذي يشردني عن المكان كلما عدت، ويتركني على هدى بوصلة القلب الطائش غير الملتزم بانضباط الإيقاع، مُنقبا بلا مراجع أو عناوين عن طفولتي النائمة في خردة من الأحلام التي لم تعد صالحة للحلم بعد، وفي الحكايات الناقصة التي لم تعد جديرة بالكتابة.

متى كنتَ هنا آخر مرة؟ حين أدركتُ أنه يتعين علي أن أغادر لأستأنف حياتي في مكان آخر، حتى أكمل تعليمي في العاصمة، حيث سأدرس هندسة الطرق والجسور وفقه المعادن والتربة والصخور. ومنذ ذلك الحين، لم أعد إلى هنا إلا في ثياب الزيارة. أما الآن فلستُ أنا -ههنا- سوى ما أتذكره عن نفسي قبل البارحة: شاعر مهجور يحلم ببيت من الشعر صالح للسكنى. يتقمص وظائف لا تشبهه، لا تمتُّ إلى كيانه اللغوي المستقل بأي معنى، تمتهنه المهن الاضطرارية التي لا بد له أن يزاولها، لا لشيء، إلا ليصبح قادرا على الحلم فحسب، قادرا على تسديد ثمن أحلامه حين تحين في زمانها ومكانها. هو الشاعر الذي يفعل ما أفعله الآن، وما أفعله في كل مرة: يهرب من ضمير المتكلم مستجيرا بضمير الغائب!

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

محمد بن زايد: الإمارات ماضية في تعزيز نهجها الذي يضع الصحة في قمة الأولويات التنموية

قال صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، في تغريدة على منصة 'إكس': 'الاستثمار في الصحة استثمار من أجل المستقبل الأفضل للمجتمعات، وفي 'يوم الصحة العالمي' نؤكد أن الإمارات ماضية في تعزيز نهجها الذي يضع الصحة في قمة الأولويات التنموية ويعزز ثقافة الحياة الصحية والوعي بخطورة الأمراض وتداعياتها السلبية على الفرد والمجتمع والوطن. يواجه العالم الكثير من التحديات الصحية، والإمارات حريصة على دعم العمل الجماعي الدولي في التعامل معها وتشجيع الابتكارات والحلول العلمية لها من أجل المصلحة المشتركة للبشرية'.

مقالات مشابهة

  • الماتشا: المشروب الأخضر الذي يجتاح العالم ... ما السر وراء شعبيته؟
  • محمد أسد المُهتدي اليهودي الذي غيرته سورة التكاثر
  • ما قصة مسلسل The Group Chat الذي يحقق تفاعلا على تيك توك؟
  • كاريكاتير.. حقيقة الدور الذي تلعبه قناة “الجزيرة” في غزة
  • العلاقي: على الليبيين لوم أنفسهم والقدر الذي وضعهم في هذا الواقع المتردي
  • وفاة والد الطفلة الذي ضهر في فيديو وهو يعذب ابنته إثر تعذيبه من المساجين
  • البشير وبكری، السجين والطليق !!
  • محمد بن زايد: الإمارات ماضية في تعزيز نهجها الذي يضع الصحة في قمة الأولويات التنموية
  • الفراج: أين الهلال سفير الكرة السعودية الذي لا يصمد أمامه احد
  • اللهم نصرك الذي وعدت ورحمتك التي بها اتصفت