لجريدة عمان:
2024-07-03@14:08:06 GMT

عن شيء مما نسيت

تاريخ النشر: 19th, August 2023 GMT

إلى أين؟ لم أنتبه بعد، فما زلتُ أتمشَّى في أغنية طويلة منذ بداية الفجر وأتمادى مع هذا الحنين الغامق الغامض المتحور الذي لا يُفسر. الحنين إلى ماذا، هل سألتَ نفسك؟ ربما إلى شيء غائب قد تستدرجه الذكرى من أقاصي غيابه لأعانقه ثم أنسحب، أو ربما كان حنينا إلى شيء حاضر بخفة وخفاء في مكان ما من هذا المكان، لكنه ما زال يتمنع حتى على الشعر.

يكفي أن يتبخر صباح القيض بدخان الخرافة المتصاعد من احتراق مخلفات النخيل لأعود إليَّ قبل عشرين عاما، لأعود طفلًا قبل ألف عام. يكفي أن ينطلق هدير ماكينة الري (من ذلك الطراز القديم الذي يعمل بالديزل) لأذيع أشواقي علانية دون أن يسمعني أحد. تكفي قنطرة تختصر الساقية، قنطرة من بقايا باب خشبي قديم، لأعبر إلى الذات بلا خذلان يُذكر. ويكفي أن أحملق في صورتي وهي تسبح على مرآة الفلج المتجعدة لأعود إلى هويتي الأولى كمفردة من مفردات الطبيعة، مفردة ناطقة تُعرِّف نفسها بنفسها.

كحل الفجر يتدرج شيئا فشيئا، يهبط كالستارة المخرَّمة بثقوب الضوء عن سعف النخل، لتنهض الكائنات من كسلها المبلل بالندى، فتدبَّ الحياة الرتيبة من جديد في كل شيء يتنفس هكذا يطلع النهار على خضرة تستفيق من سباتها أكثر جِدةً من الأمس. أستنشق صباح القرية الطازج كأنني أفعل ذلك لأول مرة في حياتي، كأنها ولادة جديدة أحسُّ فيها بالعضلات المرتخية وهي تنتشي بدم جديد. من فتور شمس الضحى في القلب أعرف لسعة هذا الحنين، من ندى العرق الممزوج بالعطر في الثياب، من رائحة المطر في التراب ومن عبق الخشب القديم في البيت المهجور. والأجمل من كل ذلك أن السعادة لا تحل غريبة أو مفاجئة هنا، سعادة بطيئة وروتينية بلا عنفوان، تدخل إلى البيت كما تخرج منه دون أن تترك فراغا وحشيا خلفها.

هنا تهجيتُ اسمي كاملا لأول مرة حتى بلغتُ الحرف الأخير من اسم العائلة بلا خطأ لغوي أو حادث سير، وهنا حددتُ الوطن بحدود ما يمكن أن أراه من الأشياء المحيطة. أنتشر في دروب شقتها الأقدام الفانية بين الزرع، في الطريق المُعبد بعرض سيارة واحدة بين البيوت، وأتماهى مع نسيج الأرض التي تهجيتُها قبل سنوات خلت بخطوات أصغر لطفل يحلم ماشيا آناء الليل والنهار، حين أخبرتني الأرض بأن كلَّ الدروب مهما طالت ومهما التوت على نفسها سوف تنعطف إلى البيت في نهاية المطاف. لكنني اليوم لستُ أكثر من نائم يتمشى في حُلمه قبل أن يدوس على ظله فيستيقظ، أو لعلني سائح عابر يتنزه الآن بين أطلاله في بياض الذاكرة. فلم أعد أملك من المكان سوى ما ربيتُه هنا من الحنين السري الذي يشردني عن المكان كلما عدت، ويتركني على هدى بوصلة القلب الطائش غير الملتزم بانضباط الإيقاع، مُنقبا بلا مراجع أو عناوين عن طفولتي النائمة في خردة من الأحلام التي لم تعد صالحة للحلم بعد، وفي الحكايات الناقصة التي لم تعد جديرة بالكتابة.

متى كنتَ هنا آخر مرة؟ حين أدركتُ أنه يتعين علي أن أغادر لأستأنف حياتي في مكان آخر، حتى أكمل تعليمي في العاصمة، حيث سأدرس هندسة الطرق والجسور وفقه المعادن والتربة والصخور. ومنذ ذلك الحين، لم أعد إلى هنا إلا في ثياب الزيارة. أما الآن فلستُ أنا -ههنا- سوى ما أتذكره عن نفسي قبل البارحة: شاعر مهجور يحلم ببيت من الشعر صالح للسكنى. يتقمص وظائف لا تشبهه، لا تمتُّ إلى كيانه اللغوي المستقل بأي معنى، تمتهنه المهن الاضطرارية التي لا بد له أن يزاولها، لا لشيء، إلا ليصبح قادرا على الحلم فحسب، قادرا على تسديد ثمن أحلامه حين تحين في زمانها ومكانها. هو الشاعر الذي يفعل ما أفعله الآن، وما أفعله في كل مرة: يهرب من ضمير المتكلم مستجيرا بضمير الغائب!

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

وجوه مستعارة

في حين لم يكن للهويّة حاجة ملحة ، ولم تكن مبتغىً للكشف والتصريح عن أدقّ تضاريسها ، كانت الرياح تهب ولا نعلم من أين وجهتها ،و كانت تمطر ونجهل هل سماء التي أمطرت أم أي أرض، حينها كان بامكان الكون كله الإختباء خلف أسم مستعار ، ومنح الصلاحية للكواكب بأن تناضل وتكشف المجهول ، تشن حروباً بلا جنود وبالفعل كان هناك انتصارًا لكنه لتحقيق التناقضات فقط ، فكان لتخفي دوافع خفية ، ووراء كل اسم مستعار قصص وحكايات ،

هكذا كنا بالأمس أما اليوم فليس هناك مجال للانزواء ، الجميع يلهث ليمتطي موجة الأضواء بوجوه مستعارة تبدأ بالتساقط في أول منعطف لنزاعات، واحداً تلو الآخر ،وينجلي ذلك القبح المندثر الذي كان يستوجب على صاحبه إخفاءه بقناع ،أو أن يواري قبحه بوجه مستعار ، بنقيض المخُفين لتوهجهم ، و الباحثين عن ظلام يقلل من إشعاعهم الذي تتوقد منه عين الشمس ، وظفوا النور حلاً لجميع مشاكل الظلام ، وعقدوا الهدنة بين الليل والنهار .

فنهج الاسم المستعار قديما، هو ذاته نهج الوجه المستعار حديثاً بفارق المسؤوليات والمسمّيات ، والأسباب والمسببات ، لكن يشترك أصحابها في الشعور بالنقص والدونية ، مايفسر صنيعهم بتزيف واقعهم فلا هم بالركب لحقوا ولا رضوا بواقعهم كالقابض بيده على الماء:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض
على ماء خانته فروج الأصابع

فعلاقاتهم الاجتماعية مبنية على التملُّق والنفاق ، والتلاعب بالآخرين ، دون مرعاة لمشاعرهم ، والتي بالمقابل تكون مشاعر محبة وصدق ، يغلّفها الإخلاص اللامتناهي، فالإفلاس الفكري الذي ينتهجونه في علاقاتهم ،والصفعات التي يتلقونها عندما يُكشف أمرهم ،تجعلهم في صراع دائم مع الذات ، و تفقدهم الثقة أكثر بأنفسهم ، ممّا يجعلهم يستمرون على المنوال نفسه ، و بالاستمرار في تبديل أقنعة مكرهم ، بأقنعة يتلوّنون فيها حسب المواقف والمصالح ومن ثم توقعهم في شر أعمالهم ، وتسفك علاقاتهم بالبشر .
أخيراً
عزاؤنا الوحيد أنه سيأتي اليوم الذي تسقط فيه جميع الأقنعة والوجوه المستعارة.

Wjn_alm@

مقالات مشابهة

  • الجمرة بتحرق الواطيها
  • كيف أعادت Apple تصميم تطبيق الصور
  • نعوم تشومسكي (2)
  • مقدمات نشرات الاخبار المسائية
  • إد شيران يغني في حفل خاص للمنتخب الإنكليزي
  • العودة إلى الرواقية
  • من الذي يبث التوتر داخل الأردن؟
  • وجوه مستعارة
  • أسئلة غزة المحرمة
  • إسرائيل البديل التقتيل