ما إن تنطلق السنة الدراسية الجديدة في الكليات الخاصة، ويعود الطلبة إلى سكناتهم الداخلية التي تتوسط الأحياء الآهلة بالسُكان حتى تستأنِف مجموعات الجيران حواراتها التي يبدو أنها لن تنتهي حول التصرفات غير اللائقة التي تصدر عن «بعض» الطالبات ممن يستأجرن هذه السكنات.
يتحدث الجيران كل مرة عن رصد سيارات تأتي من خارج المربع السكني في ساعة متأخرة من الليل يقودها شبان غرباء مراهقون، وعن مجموعة من الطالبات يُثرن الفوضى والصراخ في الشوارع وبين السِكك التي تفصل المنازل، ولا تنتهي إلا بطلوع الفجر، وعن مُشاهدات «ممجوجة» لا يمكن السكوت عنها.
اقترح البعض لإسكات هذا الصداع السنوي المُزمن مخاطبة أقرب مركز للشرطة لكن بصورة جماعية فيما رأى آخرون ضرورة الحديث إلى مالك العقار والطلب منه إبعاد الساكنات أو توظيف مُرشدة متخصصة مع حراس يعملون على مدى ساعات اليوم.. أما الفريق الثالث فأكد على أهمية توجيه النصيحة المباشرة للطالبات من مبدأ «أنهن بناتنا وهن بحاجة إلى قليل من التوجيه والإرشاد» ولا حاجة إلى تضخيم المشكلة وكالعادة لم يُعمل بأيٍ من تلك الحلول تجنبًا لحدوث مشاكل أُخرى ربما لم يُحسب حسابها.
أما الأسئلة الأهم التي ظلت مُعلقة، ولم يُعثر لها عن إجابات صريحة فهي: أين أولياء الأمور مما يحصل؟ وما هو دور الأُسر؟ وما هي مبررات غيابها في فترة مهمة من حياة بناتها؟ ما هي آلية إيصال حقيقة الصورة إلى الآباء في ظل غياب الإدارة والإشراف عن هذه السكنات التي لا تخضع أصلًا لإشراف مؤسسي منظم.
لا شك أنه توجد حلقة مفقودة يُفترض أن تصلَ بين الطالبة وأسرتها. ففي الوقت الذي تضع فيه الأسرة ثقتها في ابنتها من باب أنها حَسنة الأخلاق والتربية وأن تصرفاتها لن تخرج عن هذا الإطار لا تستنكف الطالبة أن تستغل تلك الثقة استغلالًا سيئًا بسبب سوء التقدير فتقع في المحظور.
تقدم الطالبة مثلًا مبررات وحججا كثيرة تبدو منطقية تؤكد اضطرارها للبقاء في السكن الداخلي وعدم جدوى عودتها إلى المنزل نهاية الأسبوع أو في الإجازات الرسمية كالمذاكرة أو عمل البحوث والتقارير المطلوبة فتنطلي هذه الحجج على ولي الأمر.
ولأن بعض أولياء الأمور يستندون إلى ثقتهم المطلقة تلك في بناتهم ولا يرون ضرورة في فتح قنوات للتواصل معهن، ومع المؤسسات التعليمية التي ينتمين إليها لمعرفة مستوى تحصيلهن الدراسي أو مع مالك السكن الداخلي فيذهب بعضهن نتيجة ذلك في مسار آخر ربما كارثي.
كثيرًا ما يتفاجأ أولياء الأمور بما لم يكن يتصورونه أو يخطر لهم على بال فيُصاب بعضهم بأزمات نفسية وربما بنوبات قلبية خاصة عندما يصل أحدهم إخطار بأن ابنته (....) أو أنها لم تذهب إلى الكلية منذ فترة طويلة أو أنها طُردت من الجامعة أو المعهد لسوء سلوكها أو ضعف أدائها الدراسي.
لماذا ننتظر أن نتلقى اتصالًا هاتفيًا لا يسعدنا من المؤسسة التعليمية التي ينتمي إليها أبناؤنا أو من السكن الداخلي الذي يعيشون فيه أو من جيران ذلك السكن ممن آذتهم تصرفاتهم أو من المطار بعد أن أُعيدوا من البلدان التي يدرسون فيها بسبب سوء أخلاقهم أو فشلهم الدراسي حتى نُفيق ونعرف أننا كنا بعيدين عنهم، وأنهم كانوا بحاجة نفسية ومعنوية إلينا قبل احتياجهم المادي؟
ما الذي منعنا أن نكون منفتحين -كما ينبغي- على تطلعاتهم وأحلامهم؟ لماذا شيدنا الأسوار العالية فحجبت عنا آلامهم وهمومهم؟ لِم دفعنا بهم دون شفقة فسقطوا في الفراغ ففقدوا الثقة بأنفسهم وبنا؟
آخر نقطة ..
«الثقة كالإنسان، سنوات لتكبر، وثوان لتموت».
مالكوم إكس
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
سياسة الأمل هي أملنا الأفضل
في عام شهد التصويت على تنحية شاغلي المناصب السياسية أو إبعادهم عن السلطة بالقوة في مختلف أنحاء العالم، تبرز عبارة واحدة جاءت على لسان محمد عبدالله القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء في دولة الإمارات العربية المتحدة، وتكررت بصياغات متنوعة: «يتلخص دور الحكومة في تصميم مستقبل يمنح المواطنين الأمل». بالتطلع إلى عام 2025 الذي بدأت اليوم عتباته الأولى، ينبغي للقادة السياسيين أن يأخذوا هذه الرسالة على محمل الجد وأن يحولوا تركيزهم من إدارة الأزمات المستمرة إلى صياغة أجندة جريئة تبعث على الأمل.
كانت الموجة العالمية المناهضة لشاغلي المناصب في العالم مذهلة. ففي مارس، مُـني الرئيس السنغالي ماكي سال بهزيمة حاسمة بعد أن حاول -وفشل في- تأجيل الانتخابات الرئاسية. وفي يونيو، خسر المؤتمر الوطني الأفريقي -الذي حكم جنوب أفريقيا منذ نهاية حُـكم الفصل العنصري- أغلبيته للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود من الزمن، الأمر الذي أجبر الحزب على تشكيل حكومة ائتلافية. في الشهر ذاته، خسر حزب بهاراتيا جاناتا بزعامة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أغلبيته البرلمانية. استمر هذا الاتجاه خلال فصلي الصيف والخريف.
في شهر يوليو، فاز حزب العمال في الانتخابات العامة في المملكة المتحدة بأغلبية ساحقة، منهيا بذلك حكم حزب المحافظين الذي دام أربعة عشر عاما. وفي أكتوبر، خسر الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم بزعامة رئيس الوزراء الياباني إيشيبا شيجيرو أغلبيته للمرة الأولى منذ عام 2009. ثم في وقت سابق من هذا الشهر، أصبح ميشيل بارنييه أول رئيس وزراء فرنسي يُـعزَل عن طريق التصويت بحجب الثقة منذ عام 1962. بعد بضعة أيام، خسر المستشار الألماني أولاف شولتز تصويتا على الثقة، فمهد ذلك الطريق لإجراء انتخابات مبكرة، بينما أقال رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو وزير ماليته، فأغرق ذلك بلده في حالة من انعدام اليقين السياسي. كما أطاحت انتفاضات شعبية بزعماء آخرين راسخين. في أغسطس، هربت رئيسة وزراء بنجلاديش الشيخة حسينة من البلاد على متن مروحية عسكرية عندما اقتحم متظاهرون مقر إقامتها الرسمي. وبالطبع، اضطر الرئيس السوري بَـشَّار الأسد إلى الفرار إلى روسيا بعد انهيار نظامه في وقت سابق من ديسمبر. تُـرى لماذا يخسر شاغلو المناصب؟ يتمثل تفسير محتمل في وسائط التواصل الاجتماعي.
فقد أظهرت الدراسات أن زيادة القدرة على الوصول إلى الإنترنت تؤدي غالبا إلى تآكل الثقة في الحكومة وتعميق الاستقطاب السياسي. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أصبح الناخبون الديمقراطيون وأصحاب الميول الجمهورية في الولايات المتحدة مستقطبين على نحو متزايد، حيث أصبح كل طرف أشد تشبثا بتحزبه. تعزز وسائط التواصل الاجتماعي التواصل بين الأشخاص الذين يستهلكون محتوى متشابه، على نحو يعزز نظرتهم إلى العالم ويضخم التأثير النفسي المعروف بمسمى «الـمُـسايَـرة». تعمل خوارزميات وسائط التواصل الاجتماعي كمكبرات صوت قوية لرسائل بسيطة مشحونة عاطفيا، الأمر الذي يجعل هذه المنصات أرضا خصبة لنظريات المؤامرة وإشاعة الخوف.
ولكن في حين تشير دلائل أولية إلى أن وسائط التواصل الاجتماعي تعزز دعم اليمين المتطرف الشعبوي، فإن نتائج الانتخابات الأخيرة تظهر أن هذا لا يكفي دائما لاكتساب السلطة. ففي المكسيك، وإسبانيا، واليونان، وأيرلندا، والمملكة المتحدة، واليابان، وجنوب أفريقيا، خرجت الأحزاب القائمة على السلطة أو غيرها من الأحزاب الرئيسية منتصرة، وإن كانت أُضـعِـفَـت بدرجة كبيرة.
وعلى هذا فإن إحدى النتائج الواضحة المستخلصة من هذه السنة الانتخابية التاريخية هي أن الحكومات يتعين عليها أن تتعلم استخدام وسائط التواصل الاجتماعي بشكل أكثر فعالية. تتمثل نقطة انطلاق جيدة في التعامل المباشر مع مخاوف الناخبين. في وقت سابق من هذا العام، قام اثنان من مستشاري كير ستارمر بزيارة بلدة جريمسبي في شمال شرق إنجلترا وطلبا من السكان وصف الحكومة بكلمة واحدة. جاءت الردود التي تلقوها لتعكس ما سمعته في بلدان أخرى عديدة: «لا تُـقَــدِّم ولا تؤَخِّـر»، «استبدادية»، «بعيدة»، «نخبوية»، «لا مجال للوصول إليها»، «تخدم ذاتها»، «غير طموحة»، «غير جديرة بالثقة»، «أُضحوكة». يتمثل استنتاج رئيسي آخر في أن استعادة الثقة تستلزم تركيز القادة على النمو الاقتصادي وتمكين المواطنين. وتسلط دراسة شاملة أجريت عام 2022 تدور حول الاقتصاد السياسي في الأنظمة الشعبوية الضوء على أدلة قوية تؤكد أن الظروف الاقتصادية، مثل ارتفاع معدلات البطالة وتخفيضات الإنفاق الاجتماعي، لها تأثير عميق على آراء الناس في الحكومة. يساعد هذا في تفسير السبب وراء اختيار الناخبين في إسبانيا واليونان في عام 2023، وأيرلندا هذا العام، إعادة انتخاب القادة الحاليين، بينما رفض الناخبون الفرنسيون الحزب الحاكم. في عام 2022، سجل الاقتصاد الإسباني نموا بلغ 5.7% ونما الاقتصاد اليوناني بنسبة 6.2%. على النقيض من ذلك، في ألمانيا، التي سَتُجري انتخابات مبكرة بعد أن خسرت الحكومة تصويتا برلمانيا بحجب الثقة، انكمش الاقتصاد بنسبة 0.3% في عام 2023، ومن المتوقع أن ينكمش بنسبة 0.1% في عام 2024. كان أداء فرنسا أفضل قليلا، حيث من المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.1% هذا العام، بعد نموه بنسبة 0.9% في عام 2023. إلى جانب تعزيز النمو الاقتصادي في الأمد القريب، يجب على القادة السياسيين النظر في المستقبل الذي يقدمونه لمواطنيهم. الواقع أن خطط كثيرين من الساسة وصنّاع السياسات تقتصر على دورات الميزانية السنوية وتركز إلى حد كبير على التخفيضات. من ناحية أخرى، يحتاج الناخبون -الذين يصارعون ارتفاع تكاليف المعيشة، والتقشف في مرحلة ما بعد الجائحة، والشعور الغالب بأنهم فقدوا السيطرة على حياتهم- إلى قادة يمنحونهم أسبابا للأمل. لا ينبغي لقيود الميزانية أن تكون ذريعة للفشل في تصور مستقبل أفضل. فقد وُضِـعَـت بعض من أكثر المبادرات الحكومية جرأة خلال أوقات الضائقة الاقتصادية. تضم الأمثلة البارزة على ذلك الصفقة الجديدة التي أطلقها الرئيس الأمريكي فرانكلين ديلانو روزفلت في ثلاثينيات القرن العشرين، ودولة الرفاه في بريطانيا بعد الحرب، وطفرة البنية الأساسية في دبي بعد عام 1958، والتنمية السريعة في سنغافورة بعد عام 1959.
يتعين على القادة السياسيين أن يستمدوا الإلهام من هذه البرامج الجريئة وأن يكونوا أكثر طموحا في معالجة الأسباب الجذرية وراء إحباطات مواطنيهم. النبأ السار هنا هو أن كل بلد ومجتمع لديه أفراد مبدعون -في القطاعين الخاص والعام على حد سواء- يتطلب عملهم التفكير في المستقبل والتخطيط له. يتعين على القادة تحديد -والتواصل مع- أصحاب الرؤى من أمثال هؤلاء والذين نادرا ما تضمهم المناقشات السياسية، وقَـلَّما يستفاد من خبراتهم. إن سياسة الأمل ضرورية لاستعادة الثقة في المؤسسات الديمقراطية. في جريمسبي، قال السكان المحليون إنهم يتوقون إلى سياسة «واقعية»، «جادّة»، «متحمسة»، «مفعمة بالأمل»، و«تمكينية». الحكومة التي تستطيع تلبية هذه التطلعات ستثبت كونها جديرة بثقة مواطنيها.