حسين خوجلي: أنشودة المطر بين السياب والعقاب
تاريخ النشر: 8th, January 2025 GMT
عند كل حزمة من قرى شرق الجزيرة البريئة الآمنة كان هنالك وادي أو مضربٌ للقرى يوزع على الأسر بالتساوي ما يسمى بالبلدات، أما قرى غرب الجزيرة فقد اكتفت بنعماء المشروع.
وكان السكان على طريقة النفير يساعدون بعضهم بعضا في إعداد البلدات حرثا وتسوية وفلاحة انتظاراً للخريف الخصيب، حتى اذا ما جاء المطر وغمر الجداول (والحُفر) وسقى الوادي بطيبه وطيباته.
سمقت القناديل كالحسناوات السمر ملأت الوادي اخضراراً ورزقا وبين ثنايا الزراعة ينبت (بطيخ الخلا) والموليتا والملوخية التي تنبت بلا بذور مسبقة، ويخرج (التبش) البري الذيذ الطعم والنكهة. وقبل نضوج العيش يتنعم الصغار والكبار (بالفريك) وهي حبيبات العيش المضمخة بالماء قبل أن تستوي للحصاد، لم يكن رزقاً فقط بل كان كرنفالاً للافراح.
وما زلت أذكر وأنا طفل تلك الليالي المقمرة التي يخرج فيها سكان القرى للحصاد وهم يتغنون باللحن الشعبي الحنين المشهور في تلك الأودية
الخُدّير أنا ماني حي
النقدو الطير أنا ماني حي
يتغنون بها حتى مطلع الفجر لا يحسون رهقا ولا تعبا، وقد احاطت بهم أقداح الشاي (والفطير باللبن) وقد امتلأت ضروع الأبقار والأغنام باللبن الطازج الصريح. وفي بعض الأعوام تتكاثر على الزراعة نبتة (البودة) وهي نبتة ذات زهور مونقة في الظاهر، ولكنها في الباطن ذات جذور شريرة تمتص الماء وتمتص سيقان القناديل فتسقط فاغره افواهها في ذبول.
ومن اللطائف التي ما زلت اتذكرها أن احد ابناء أمدرمان كان يعمل مساعداً طبيا بمستشفى الشرفة ويدعى الأمين وله ابن معنا في الدراسة اسمه عماد، وقد قامت بينه وبين اهل الشرفة مودة وصلات انتقلت من القرية إلى البقعة وقد أهداه أهل الشرفة بلاد يزرعها ويستعين بها على رزقه وضيوفه الكثر. وقد سأله الأهالي يوما عن حال بلاده فرد في براءة اهل المدن: (ما شاء الله! لقد امتلأت من أقصاها إلى أدناها بالزهور) وكان يعني نبتة البودة القاتلة فصارت طرفة الموسم.
وفي بعض الأعوام تقسو الطبيعة فيلتهم الجراد قبيل موسم الحصاد الزرع فلا يبقى منه إلا القليل وتخلو (المطامير) من المخزون الاستراتيجي للقرية، ويتناصر الناس لعبور المحنة بالتكافل والمناصرة حيث يتساوى الناس في سبل كسب العيش وتقسيم الموائد بالتساوي اشتراكية المؤمنين بلا ديالكتيك ولا مادية جدلية.
ويخرج صبيان القرية في الليالي المقمرة ما بعد الجدب يتناصرون على حزنهم بالاجتماع وقد فاتهم في هذا العام قطاع الأفراح والزواج السعيد من حرائر القرية اللائي كن ينتظرن (الدرت) والحصاد في اهتمام وتربص حميد. وكانت تأتي أصوات الصبيان من أعلى الوادي مقتحمة بيوت القرية في همس وطلاوة بمجادعة الدوبيت المتأسيه بالغنا والنشيد البدوي، ويصيح عميد الجلسة في المجموعة قائلا في رجاء : كان فاتك الخم وضربك الهم سوي النمْ
ويبادر البكري بصوته الندي وقد هم منذ أيام بالمغادرة يبحث عن الرزق بالمنافي:
الليلة الولد خت السفر في نيتو
وهتفتلو ام بسيمة وطيرت جنيتو
الظبي البتيتب بفريق مكنيتو
هو بعمل غلط وانا مستعد لجنيتو
ويعقبه عبد الكريم ود الحاجة بصوته الشجي الذي يكاد بعنفوانه أن يبلغ بخطابه كل القرى المتهيبات:
خطايا والمدن الغريبة غنيتُ تربتك الحبيبة
فأنا المسيح يجرُ في المنفى صليبه
في مرافعة بدر شاكر السياب الشعرية “غريبٌ على الخليج”.
وينبعث الدوبيت الحر تعزيةً وسلوانا:
ما تستاهلي العَورة وخسار العين
وكم من قجة فوق ضهرك محلحل دين
كتير الفارق النزهة ورضا الوالدين
الباقيلي الله يا هجام فريق ام زين
مساكين هؤلاء الصبيان وتلك الصبايا ومسكينة هذه القرى التي ظنت أن أزمتها في الجراد الصحراوي العابر، حتى دهمها الجراد البشري من الغزاة والأغراب من تربصوا وتوعدوا طمأنينتها وغدروا بها سرقةً وقتلاً واغتصابا ونزوح.
لقد اختفى ذلك المسرح النبيل من بلادنا، ولكن لن يدوم هذا الشر المستطير طويلاً، فإن الفرسان على أبواب البيادر والبنادر والقرى التي تولد من جديد على أكف الوعد والنماء والوعي والجسارة، فقد رأيت بعين البصيرة الرجل الفالح الصالح يمسح أعين النازحين المقروحة في رحمة ووداد ورأيته يعدُ موائد الأشعريين وزاد الرحمن فأعنته بأبياتٍ ما بين التوجع والتوسل:
يا ود طه يا دفع الله يا كِشيف بيوت الخبرة
يا النحلان ويا الغرقان ويا السهران رخيم النبرة
ساكتين فوق فهم آملين جروحٍ تبرى
ولا غنتوا واتوسلتوا بطه وخديجة الكبرى
حسين خوجلي
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
جامعة أم القرى.. إطلاق أسبوع الريادة التقنية للتأهيل لسوق العمل
أطلقت جامعة أم القرى، اليوم الإثنين، أسبوع الريادة التقنية، الذي يهدف إلى تأهيل المقبلين على سوق العمل، ويستمر لثلاثة أيام, وذلك بمقر الجامعة بحي العابدية.
وأوضح وكيل الجامعة للشؤون الأكاديمية الدكتور محمد الزهراني، أن الأسبوع بما يحتويه من أنشطة متنوعة يدعم تنمية المهارات وقدرات المتدربين والمتدربات.أسبوع الريادة التقنية في جامعة أم القرىويسهم هذا في صقل مهاراتهم وتطويرها، خاصةً المهارات التخصصية، ما ينعكس إيجابًا على تأهيل الكوادر الوطنية، وتزويدها بالمهارات اللازمة، لتلبية احتياجات قطاعات الأعمال المختلفة في سوق العمل.
أخبار متعلقة السديس لقاصدي الحرمين: اتبعوا الهدي النبوي أثناء هطول الأمطارالهلال الأحمر يستقبل أكثر من 600 بلاغ إثر الأمطار على مكة المكرمةكما يدفع المشاركين إلى تحقيق طموحاتهم وتنمية مهاراتهم العملية من خلال تزويدهم بالمعرفة التقنية، وإكسابهم الخبرات في العمل الجماعي والعمل على المشروعات في الهاكاثون للاستعداد لمشاريع العالم الواقعي.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } جامعة أم القرى - اليومأنشطة وفعاليات متعددةوستقدم خلال أيام الأسبوع مجموعة من الأنشطة، منها مسرحيات وورش عمل وبوثات خارجية، ولقاءات مجتمعية وهاكثون.
وشهدت فعاليات اليوم الأول التعريف بمسار ريادة الأعمال، ومسار الترفيه والفن الرقمي ومسار المنتجات الصناعية.
وقدم مجموعة من المختصين والخبراء، ورشتي عمل الأولى بعنوان "الجودة وتحليل المخاطر"، والثانية "من الفكرة إلى المنتج: تطوير حلول تقنية مبتكرة".