تحية إلى البنائين الأوائل لجامعة السلطان قابوس
تاريخ النشر: 19th, August 2023 GMT
رغم مرور ما يقرب من 4 عقود على عملي بجامعة السلطان قابوس عام ١٩٨٦، إلا أن هذه التجربة بكل تفاصيلها ما تزال عالقة في ذاكرتي، وقد سبق لي أن كتبت عنها بعض المقالات، إلا أن الكثير منها لم يُكتب بعد، وخصوصًا الجيل المؤسس لهذه الجامعة، التي كان يترأسها الشيخ عامر بن عمير المرهوبي، وكان عنوانا للجامعة بهدوئه وإخلاصه وتفانيه، فضلا عن طاقة المحبة التي كان يدير بها الجامعة، فكل من التحق بالعمل بالجامعة وقتئذ كان يشعر بأبوة الرجل قبل أن يكون رئيسا، فقد كان مكتبه مفتوحا للجميع، وكثيرا ما كان يجتمع بأعضاء هيئة التدريس، ويتناقش معنا في البرامج الدراسية ويحدثنا عن الأنشطة الفنية والرياضية المصاحبة لها.
الملاحظة الأهم التي سجلتها ذاكرتي هي مقدرة الرجل على الاستماع والانصات بكل عناية لكل من يتحدثون إليه، فكثيرا ما كان يتحدث معنا عن التفاصيل الخاصة ببدء العام الدراسي الأول، والكثير منها كانت قضايا أكاديمية وإدارية وإنشائية تتعلق بالشركة المنفذة لمباني الجامعة، واختيار أعضاء هيئة التدريس، وهي أمور كانت تفوق قدرة أي مسؤول، لكن الرجل كان دقيقا ومؤمنا بما كُلف به من مهام ألقاها على عاتقه السلطان قابوس رحمه الله.
كان الشيخ عامر من بين العمانيين الذي نشأوا في زنجبار، وأمضى معظم حياته فيها، واستكمل دراسته الجامعية في بريطانيا، وعاد إلى وطنه الأم بعد أن أطلق السلطان قابوس دعوته إلى العمانيين المقيمين خارج وطنهم لكي يعودوا ويشاركوا في بناء وطنهم، وكان اختياره للشيخ عامر اختيارا مثاليا، رغم أن الرجل كان في مرحلة متقدمة من عمره، إلا أنه تحمل المسؤولية بكل اقتدار، حيث كان يمضي كل وقته تقريبا في مكتبه، ومن الأشياء التي عرفتها عنه أنه كان محبا للموسيقى، مغرما بصوت أم كلثوم الذي كان يحتفظ بمعظم شرائط أغانيها، وحينما كانت تستعصي عليه بعض الكلمات وخصوصا في قصائد الشعر التي كانت تغنيها كان لا يجد حرجا في أن يلجأ لأحد الزملاء في قسم اللغة العربية ( دكتور يسري سلامة)، الذي كان يتولى شرح بعض المعاني، كنا نشاهده ونحن ذاهبون إلى المحاضرات متجولا في ردهات الجامعة صباحا أو مساء.
أعتقد أن جامعة السلطان قابوس في حاجة إلى كتابة تاريخها وظروف نشأتها، ومسيرتها ودورها في الانتقال بعمان إلى مرحلة من النماء والتطور، وقد يكون من الخطأ الكتابة عن نهضة عمان المعاصرة في غيبة دور الجامعة، التي أفاضت وعيا ونماء على كل جوانب الحياة في بلد كان يسابق الزمن بسرعة فائقة.
من عوامل نجاح الشيخ عامر في مهمته هو اختياره لمساعديه سواء من العمانيين أو العرب أو الأجانب، ومن بين العمانيين الذين أدوا خدمة جليلة للجامعة منذ نشأتها الأستاذ سالم المسكري أمين عام الجامعة، وهو رجل تميز بالدقة والحزم، وتحمل كل المهام الموكلة اليه بكل اقتدار، ولم يكن يتهاون في أي خطأ في سبيل الحفاظ على مصالح الجامعة، والكثيرون كانوا يخشون صرامته في اتخاذ الإجراءات ضد كل من يتهاون في أداء عمله، وكان بمثابة العين اليقظة للجامعة، التي تطورت كوادرها البشرية والإدارية والفنية بسرعة كبيرة رغم قلة عدد العاملين بالجهاز الإداري في الجامعة وقتئذ، فلم يكن يُسمح بالتحاق أحد بأي وظيفة إلا إذا كانت مصلحة الجامعة تقتضي ذلك.
وكان من بين المساعدين للأستاذ سالم المسكري الشاعر العماني الراحل هلال العامري، وكان شابا محلقا في عوالمه قريبا من كل العاملين وأعضاء هيئة التدريس، محبا لما يؤديه من مهام، وكثيرا ما كنت استمع إليه وهو يحلم بمستقبل الجامعة التي يتطلع إليها العمانيون بكل شغف، وكان متواضعا ولديه قدرة فائقة على حل المشاكل التي كانت أحيانا تواجه العاملين أو أعضاء هيئة التدريس.
مازلت أتذكر الشاب عصام الجمالي الذي كان مسؤولا عن الشؤون المالية والإدارية، وقد رأيته أول مرة في اليوم الأول لوصولي إلى الجامعة جالسا أمام جهاز الكمبيوتر، وقد استخرج لي بطاقة العمل بالجامعة، فقد كانت لديه كل المعلومات التي تتعلق بالأساتذة والعاملين من المرتبات والإجازات واحتياجات الجامعة من الأجهزة والمعدات والوسائل التعليمية، كان يتولى كل هذه المهام بمفرده، ولفت نظري صغر سنه ووسامته وابتسامته الصافية التي لا تفارق وجهه، وقد حظي بمحبة الجميع، وفي مقدمتهم رئيس الجامعة.
حرصت عند زيارتي لسلطنة عمان بعد سنوات من تركها أن أسأل عنه، وأخبرني بعض الأصدقاء أنه ترك الجامعة واتجه إلى العمل الخاص، وحقق فيه نجاحات كبيرة، أعتقد أن جامعة السلطان قابوس قد أدت وظيفتها بكل اقتدار، سواء على المستوى البشري أو الفني أو الاجتماعي أو العلمي، وشارك خريجوها بكل اقتدار في نهضة عمان خلال العقود الماضية، وخصوصا وقد حظيت بدعم كبير من الدولة، وتميز طلابها من الجيل الأول بالطموح العلمي، الذي ضاعف من جهد الأساتذة وإخلاصهم، فقد شهدت الجامعة النبت الأول من القوى البشرية من شباب عمان، ليس في المعارف العلمية والتجريبية والأدبية فقط، وإنما في المجالات الفنية والإبداعية، حينما أتاحت لهم الجامعة المجال لصقل مواهبهم في الشعر والرواية والقصة ومختلف الفنون الموسيقية والتشكيلية.
عدت إلى سلطنة عمان أستاذا زائرا ( ٢٠١٧ )، وقد فاجأني هذا الحصاد العظيم الذي حققته الجامعة في كل مناحي الحياة، فقد وجدت الوزراء والسفراء ومديري العموم والمعلمين والمهندسين والإداريين وهم جميعا من خريجي جامعة السلطان قابوس، وفي كل مؤسسات الدولة كان خريجو الجامعة يتحملون مسؤولياتهم في كل برامج التنمية، وقد اكتشفت قدر التوسع الهائل الذي قطعته الجامعة في مبانيها وتنوع برامجها الدراسية، وخصوصا في التكنولوجيا والفن والمسرح والموسيقى، وتخرج منها فنانون وأدباء حصدوا الكثير من الجوائز المحلية والعالمية، وكانت سعادتي غامرة حينما وجدت من بين من درست لهم الوزراء وعمداء الكليات والسفراء، وهو شعور ملأني غبطة وسعادة.
تحية تقدير وامتنان للمرحوم السلطان قابوس، المؤسس الأول للنهضة العمانية، ولخلفه جلالة السلطان هيثم بن طارق ، الذي حرص على مواصلة المسيرة لكي تتبوأ عمان مكانتها اللائقة، وتكون تجربتها في البناء والتنمية موضع تقدير العالم كله.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السلطان قابوس هیئة التدریس التی کان من بین
إقرأ أيضاً:
نهاية وهم السلطان: تركيا بين إرادة الشعب ومأزق الطاغية
في زمنٍ تتكاثف فيه مظاهر التشظي والهشاشة تحت وطأة أنظمةٍ تتقن فنون السيطرة، يبرز رجب طيب أردوغان ليس كحاكمٍ مستبدٍّ فحسب، بل كظاهرةٍ تُجسد انزياحات السلطة الحديثة، التي لم تعد ترتكز على القمع المباشر، بل على هندسة الطاعة وإنتاج الولاء عبر آلياتٍ مُركّبة. هذا الواقع المأزوم الذي تعيشه تركيا اليوم ليس وليد الصدفة، بل هو امتدادٌ لعقودٍ من التحولات البنيوية في علاقتها بالدولة، بالعسكر، بالمجتمع، وبالخارج.
وُلد أردوغان في 26 فبراير 1954 في إسطنبول، وتعود أصوله إلى ريزة، مدينة البحر الأسود التي كانت معقلًا للعائلات المحافظة ذات الارتباط العاطفي بالخلافة العثمانية. تخرّج في ثانوية الأئمة والخطباء عام 1973، ثم درس الاقتصاد في جامعة مرمرة، لكنه لم يكن اقتصاديًا بقدر ما كان لاعبًا بارعًا في المناورات السياسية. صعوده من بلدية إسطنبول عام 1994 إلى قمة هرم الدولة عام 2002 لم يكن مجرد انتصارٍ انتخابي، بل كان تحولًا في بنية الحكم نفسها، حيث أزاح العسكر بالتدريج، وخلق نظامًا يُعيد إنتاج نفسه عبر شبكاتٍ اقتصاديةٍ ودينيةٍ وإعلاميةٍ متداخلة.
لا يمكن فهم هذه الهيمنة دون العودة إلى إرث “الكمالية”، التي صنعت دولةً حديثةً ولكن على قاعدةٍ استبدادية، حيث ظل الجيش هو الحَكَم النهائي في الصراعات الداخلية.
حين جاء أردوغان، لم يسعَ إلى تفكيك هذا النموذج، بل إلى إعادة توجيهه لمصلحته. استخدم الديمقراطية كأداة عبور، وحين رسّخ سلطته، بدأ في تفريغها من محتواها، تمامًا كما فعلت الأنظمة السلطوية الأخرى، التي تتقن لعبة “الانتخابات بلا ديمقراطية”.
ما يميز مشروعه ليس فقط استبداده، بل قدرته على تطويع خصومه وإعادة تعريف “العدو” وفق الحاجة السياسية. في البداية، كان الجيش هو الخصم، وبعد تحييده، صار الأكراد هم العدو الداخلي، ثم جاء الدور على المعارضة العلمانية. الآن، ومع اقتراب زوال الهالة التي أحاط بها نفسه، يلوّح مجددًا بفزاعة “المؤامرة الخارجية”، متهمًا الغرب و”القوى غير المرئية” بمحاولة إسقاطه.
المواطن التركي اليوم يعيش حالةً من التشظي النفسي بين تطلعاته نحو الديمقراطية، والواقع القمعي الذي يرسّخه النظام. لم يعد الاستبداد يُمارَس عبر أدوات القهر المباشر فقط، بل عبر خلق واقعٍ زائف، تُعاد فيه صياغة الأحداث والتاريخ والرموز.
الإعلام الرسمي والموجه لا يكتفي بتبرير السياسات، بل يعمل على إنتاج “ذاكرة مشروطة”، تُعيد تعريف الوطنية، العدو، وحتى مفاهيم العدالة والحرية.
في هذا السياق، يمكن فهم التناقضات في الخطاب الشعبي التركي: كيف يمكن أن يكون أردوغان زعيمًا إسلاميًا، بينما ابنه متورطٌ في قضايا فسادٍ مرتبطةٍ بداعش؟ كيف يمكن أن يدّعي الاستقلال عن الغرب، بينما تركيا عضوٌ في الناتو وقواعده تنتشر على أراضيها؟ كيف يمكن أن يُنظّر ضد “الهيمنة الاقتصادية”، بينما الاقتصاد التركي رهينةٌ للبنوك الدولية؟ هذا ليس تناقضًا بالمعنى التقليدي، بل هو نتيجة “هسيس” طويل من التلاعب الإدراكي، حيث يصبح القمع غير مرئي، ويتحول الخضوع إلى قناعةٍ داخلية، بل وإلى جزءٍ من الهوية الوطنية نفسها.
لطالما كان الاقتصاد هو السلاح الأهم بيد أردوغان. في سنواته الأولى، روّج لنموذج “النهضة الاقتصادية”، حيث شهدت تركيا ارتفاعًا في معدلات النمو والاستثمار، لكن هذا الانتعاش لم يكن قائمًا على إنتاجٍ حقيقي، بل على تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، والديون، والخصخصة العشوائية. مع تعاظم الأزمة الاقتصادية، بدأ المواطن التركي يواجه الوجيف الحقيقي للواقع: تراجع الليرة، ارتفاع معدلات البطالة، وتضخم لم يعد ممكنًا تغطيته بالشعارات. المفارقة أن الدولة، التي كانت تُسوَّق كنموذجٍ إسلاميٍّ ناجح، باتت اليوم مثالًا لانهيارٍ اقتصاديٍّ لا يختلف كثيرًا عما شهدته دولٌ أخرى تحكمها أنظمةٌ مشابهة.
لم يكن الفساد مجرد عرضٍ جانبيٍّ لحكم أردوغان، بل كان جزءًا من بنيته العميقة. تورّط نجله، بلال أردوغان، في شبكةٍ معقدةٍ من الفساد، حيث وُجهت له اتهاماتٌ بالتعامل مع داعش في بيع النفط، فضلًا عن استغلاله علاقات والده لعقد صفقاتٍ مشبوهة. هذه الفظاعات لم تكن استثناءً، بل كانت انعكاسًا لمنظومةٍ رأت في الدولة مشروعًا عائليًا. أما على المستوى الدولي، فقد كانت حادثة خاشقجي مثالًا حيًا على البراغماتية الأردوغانية. كان يمكن لتركيا أن تمنع الجريمة، لكنها لم تفعل، لأن الحدث كان كنزًا استراتيجيًا. سمحت بهدوءٍ، ثم استخدمته كورقة مساومة، وهذا يعكس عقليةً ترى السياسة كمزيجٍ من الاستغلال والمساومة لا أكثر.
ما يحدث اليوم في تركيا ليس مجرد أزمةٍ سياسيةٍ عابرة. منذ 19 مارس، والاحتجاجات تتصاعد، خاصةً بعد موجة الاعتقالات التي طالت أكثر من 100 شخص، بينهم رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، وهو المنافس الأبرز لأردوغان. هذه الاعتقالات، إلى جانب تصعيد الخطاب ضد “القوى الخارجية”، تكشف أن النظام بات في مأزقٍ وجودي، حيث لم تعد أدواته القديمة كافيةً لضبط الشارع. ما يزيد المشهد تعقيدًا هو الحراك الذي تقوده الأحزاب اليسارية، مثل الحزب الشيوعي التركي وحزب العمال، حيث لم تعد المعارضة مقتصرةً على النخب السياسية، بل باتت أكثر شعبيةً وتجذرًا.
هنا، يبرز السؤال الجوهري: هل بدأت الإمبراطورية تتداعى؟
ليست تركيا وحدها في هذا المأزق، بل هو جزءٌ من أزمةٍ أوسع، حيث تتهاوى مشاريع “الإسلام السياسي السلطوي” واحدًا تلو الآخر. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل سيكون السقوط وشيكًا، أم أن أردوغان سيجد طريقةً أخرى لإعادة إنتاج سلطته كما فعل مرارًا؟
المؤكد أن المشهد التركي لم يعد كما كان. هناك هسيسٌ جديدٌ في الأفق، وحسيسُ غضبٍ بدأ يتشكل في الشارع. في لحظاتٍ كهذه، لا تُصنع التحولات فقط عبر الصراعات السياسية، بل عبر وعيٍ جديدٍ ينشأ بين أنقاض الأكاذيب، التي طالما تم تسويقها كحقائق.
zoolsaay@yahoo.com