«القوة الدافعة لمعظم الاختراعات هى الحاجة» وهذا ما ينطبق على الحكومة، التى ليل نهار فى دفاترها، على أمل خلق منتجات مالية جديدة تسهم فى توفير العملة الصعبة، وتكون قادرة على مواجهة نقص الدولار.
كل الجهات تجتهد لإطلاق منتجات مالية، من شأنها سد فجوة نقص الدولار، الذى بات صداعًا فى رأس الحكومة، ونقاط ضعف تؤثر على الاقتصاد بكل شراسة.
شمر المستثمرين العرب عن سواعدهم، وتواجدوا فى المشهد بقوة، وراحوا يستحوذون على حصص فى شركات ذات مركز مالى قوى، وتدفقات نقدية «لقطة»، ورغم ما تحقق لهم من مكاسب بـ«الجوال» إلا أن بعضهم تراجع فى الاستمرار واقتناص الفرص التى تفتح لهم طاقة القدر من الاستثمارات والأموال.
لجأت الحكومة مرة أخرى إلى فلسفة المبادرات، والتى استهدفت تحفيز المصريين فى الخارج لفتح حسابات دولارية فى البنوك الوطنية، وإصدار شهادات دولارية بعائد تنافسى مرتفع، ثم إطلاق مبادرة منح الإعفاءات الجمركية لسيارات المصريين بالخارج، بما يسمح لهم بإدخال سيارات دون جمارك، مقابل إيداع وديعة بالعملة الصعبة فى البنك المركزى، بهدف زيادة الحصيلة الدولارية، وبالتوازى مع هذه المبادرات تم الاتجاه للمستثمرين المحليين، والقطاع الخاص المحلى، بالاستحواذ على أصول الشركات بالدولار، وهذا تم فى العديد من الشركات الكبيرة، ضمنها صفقة العز الدخيلة للصلب الدولارية.
مؤخرًا كان الخيار عبر الرقابة المالية، لمحاولة توفير العملة أيضاً، ومن هذا المنطلق تم إطلاق وثيقة معاش بالدولار للمصريين بالخارج، «معاش بكره بالدولار» وهى ضمن جهود الهيئة لتحسين مستويات الشمول التأمينى، وتوسيع قاعدة المستفيدين، ولتعزيز أيضاً قدرات صناعة التأمين لتعظيم مساهمتها فى الاقتصاد القومى، بالإضافة إلى أنها من المحفزات والمبادرات الوطنية التى تلبى احتياجات المصريين بالخارج، وربطهم بالوطن الأم.
الوثيقة توفر حماية تأمينية للمصريين فى الخارج، بخلاف مميزات والادخار التراكمى بالعملة الأجنبية، وتتيح ثلاثة اختيارات للحصول على قيمة الوثيقة عند الوصول إلى سن الاستحقاق المتفق عليها حسب رغبة حامل الوثيقة، بحيث يمكن الحصول على مبلغ الوثيقة دفعة واحدة أو فى صورة دفعات شهرية مضمونة لمدة 10 أو 15 سنة، كما يتم صرف قيمة الوثيقة أو دفعات المعاش الشهرية عند الوصول إلى سن الاستحقاق أو فى حالة الوفاة أو العجز الكلى الدائم قبل بلوغ هذا السن طوال فترة الوثيقة.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الحكومة
إقرأ أيضاً:
عنقاء الحداثة
د. عصام عبدالفتاح
ثمة كتب ثورية حينما يقرؤها الإنسان فإنه لابد أن يخرج منها بحصيلة فكرية عميقة تزوّده بإضاءات لامعة فى تفكيك الإشكاليات الحضارية التى تعانى منها المجتمعات المتخلفة، أى التى لم تطرق بعد باب الحداثة رغم أنها تغترف من ثمارها بل ـ وهنا تبدو المفارقة ـ تتباهى بكونها جمعت بين الأصالة والحداثة!.
إن مؤلفات عالم النفس الاجتماعى مصطفى حجازى هى من هذا الطراز الفريد الذى يغير من فكر قارئه ويمتعه بتحليلاته للمجتمع العربى وإشكالياته الكأداء. فمثلا كتابه الشهير «التخلف الاجتماعى: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» يعد من أهم الدراسات التحليلية فى علم النفس الاجتماعى «سيكولوجية الإنسان العربى المهدور». ففيه يتناول حجازى، بمنهجيته الاستقرائية الدقيقة، ظاهرة «العنف العربى» التى لم تتمكن المجتمعات العربية حتى يومنا هذا من الخلاص منها. لماذا؟ يجيبك حجازى بكلمة السر التى تتنوع مترادفاتها فى القاموس الدينى والسياسى والاجتماعى، بدءا من الطائفية والعصبية، مرورا بالتحزبية، وانتهاء بالأصولية والدوجمائية، فمثلا دولة كالسودان، منذ أبريل ٢٠٢٣، يعانى شعبها من حرب ضارية بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع أدت إلى تفاقم الأزمات الطاحنة فى بلاده وأطاحت بكل استقرار سياسى فيها وأدخلتها فى دوامة لا نهاية لها من النوازل الاقتصادية والإنسانية. إن السودان يشكو حاليا من أزمة نزوح لا نظير له. فثلث سكانه نازحون مشردون فى العراء بلا غذاء ولا ماء ولا مأوى ولا رعاية طبية. امتدت عواقب هذا الصراع المروع بين المتحاربين إلى ما وراء حدود السودان. وحسب تقارير الأمم المتحدة سيرتفع عدد ضحايا الصراع العبثى إلى أكثر من مليون شخص فى عام ٢٠٢٥.
أطراف الصراع هم سودانيون!، إن تحليل حجازى لظاهرة العنف فى المجتمعات العربية ينطبق برمته على الحالة السودانية عندما يقول: «يعود العنف السياسى الاجتماعى فى المجتمعات العربية إلى تفشى العصبيات وترسخها جذريا فيه. فالأنظمة العربية الاستبدادية لم تبنِ مجتمعا مدنيا، إنما راهنت القيادات على العصبيات، والعصبيات فى طبيعتها تحتوى على مكوِّن العنف، وهذا العنف يتفجر من العصبيات التى تنمو فى أزمنة الصراع ولا تستطيع العيش من دون عدو. كما ليس بإمكان الأنظمة العرقية الاستمرار خارج نطاق الصراع وصناعة العدو المتخيل أو الفعلى، لكى تتمكن من الحفاظ على ثباتها الداخلى بقوة الجمهور». ولئن تركز تحليل حجازى على لبنان بوصفه عينة خصبة للطائفية وجزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع العربى فقد أراد به الكشف عن الداء العضال الذى لم يبرأ منه هذا المجتمع منذ قرون خلت فأعجزه تماما عن بلوغ الحداثة، إن هذا الداء هو نفسه «جرثومة التخلف» التى تحدث عنها د. مراد وهبة فى كتابه الشهير تحت هذا العنوان.
وفى مؤلفه الأخير «النقلات الحضارية الكبرى. أين نحن منها؟» يرى حجازى أن قوى التخلف أو حسب تعبيره «قوى العطالة فى مجتمعاتنا العربية» لا تتمثل فقط فى العصبيات وحدها وإنما هى تتجسد فى تحالف ثلاثى: العصبيات والفقه السلفى والاستبداد الظاهر منه والخفى. هذا التحالف يستخدم سلاحا خطيرا فى الإجهاز على أى محاولة تسعى إلى إيقاظ العقل العربى من سباته، آلية هذا السلاح هى: التأثيم والتحريم والتجريم. تكمن فاعليته فى أنه يشل طاقات الإنسان العقلية تماما ويدخله فى حالة من الانقياد والتبعية والجبرية وفقدان السيطرة على الذات والمصير!.
إن الحداثة التى يحلم بها المجتمع العربى أشبه بطائر العنقاء الذى لا وجود له فى الواقع، لأن متطلباتها لم تتوافر فيه بعد. وتتجلى ازدواجية المجتمع العربى، كما يقول حجازى، فى أنه يستورد كل منتجات الحداثة المادية والفكرية من الأمم المبدعة، لكنه لا يملك مشروعا إنتاجيا وطنيا خليقا بأن يحدث فيه نقلة نوعية تتحرر فيها طاقات العقل المبدع وينضج فيها وعيه السياسى. فتحت غطاء الدستور فى لبنان مثلا وحكم المؤسسات المقتبس من الغرب تتسم العملية السياسية فيه بالمحاصصة واقتسام النفوذ والغنائم على حساب البلد وكأننا بصدد شركة تجارية بين أطراف مؤسسين يسعى كل منهم إلى زيادة حصته من النفوذ والغنيمة وتحولت النيابة فيه إلى نوع من الوجاهة أكثر مما هى عملية تمثيل بالتفويض من قبل الشعب، فتحول الانتخاب فيه إلى نوع من المبايعة!.
نقلا عن المصري اليوم