راني السماني – يناير 2025
مقال رقم (3)

في مقالنا السابق، تناولنا تاريخ ومسببات ظهور النرجسية في الوسط الفني السوداني، وكيف أثرت على الساحة الفنية بشكل عام.
اليوم، نناقش سؤالاً عميقاً:
لماذا يستمر بعض الفنانين السودانيين في التمسك بالنزعة النرجسية حتى بعد تحقيقهم مكانة مرموقة في المجتمع؟
هذا السؤال يقودنا إلى استكشاف العوامل النفسية والاجتماعية التي تُغذي هذه الظاهرة، والتي قد تكون أكثر تعقيداً مما تبدو عليه.

1- الحاجة المستمرة لإثبات الذات

النجاح والوصول إلى مكانة مرموقة لا يُلغي بالضرورة الحاجة إلى إثبات الذات بشكل مستمر.
ولكن في عالم الفن، يُعتبر الاعتراف المجتمعي حالة مؤقتة ومتغيرة. الفنان، الذي يعيش تحت ضغط الحفاظ على مستواه الإبداعي، يجد نفسه في مواجهة دائمة مع توقعات الآخرين، مما قد يجعله يعيش صراع ذاتي لإثبات جدارته بطرق جديدة.

في هذا السياق، يلجأ بعض الفنانين السودانيين إلى النرجسية كوسيلة لتعزيز ثقتهم بأنفسهم، ولخلق درع نفسي يقيهم تأثير الانتقادات.
قد يرون في هذا السلوك نوعاً من الاستقلالية التي تحررهم من قيود المجتمع وتسمح لهم بالاستمرار في مساراتهم الإبداعية.
ومع ذلك، فإن هذه النزعة قد تُبعدهم عن الجمهور الذي يحتاج إلى رؤية الجانب الإنساني من الفنان.

2- الخوف من فقدان المكانة

الشهرة والاعتراف المجتمعي يُنظر إليهما في كثير من الأحيان كإنجازات مؤقتة، قابلة للتراجع في أي لحظة.
في ظل هذه المخاوف، قد يُبالغ بعض الفنانين في التركيز على أنفسهم، معتقدين أن النرجسية هي الحاجز الذي يحميهم من التراجع أو فقدان الاهتمام.
هذه النزعة الدفاعية، التي ترتكز على الخوف، تجعلهم يعيشون في حالة تأهب دائم، خشية النسيان أو التهميش.
وفي ظل هذه الضغوط، يمكن للنرجسية أن تصبح حائطاً دفاعياً، يعزلهم عن التفاعل الحقيقي مع الجمهور.
لكن الواقع يقول إن الحفاظ على المكانة لا يأتي من التركيز على الذات فقط، بل عبر العمل الجاد والتواصل الصادق الذي هو أساس استمرارية أي فنان، وأن الفنان الحقيقي يُخلّد بأعماله ومواقفه المشرفة.

3-تأثير العزلة الإبداعية

الإبداع الفني غالباً ما يتطلب العزلة والانغماس في الذات.
هذه العزلة، رغم أهميتها، قد تتحول إلى حالة من الانفصال التدريجي عن الواقع وعن الآخرين.
مع مرور الوقت، قد يرى الفنان نفسه كعالم مستقل، ويصبح رأيه هو المرجعية الأساسية، وقد يصعب عليه الاستغناء عن هذه النزعة الذاتية التي اعتاد عليها.
في مثل هذه الحالات، قد تتعمق النزعة النرجسية، حيث يُصبح الفنان أقل تقبلاً للنقد أو التفاعل مع زملائه أو جمهوره.
فالإبداع، الذي يبدأ كعملية ذاتية، قد يتحول إلى انفصال كامل عن العالم الخارجي، مما يؤثر على قدرة الفنان على فهم التغيرات في المجتمع ومواكبتها أو التعامل معها.
هذا الانفصال قد يُسبب ضغوطاً نفسية تتفاوت في تأثيرها، من صراع داخلي يشعر فيه الفنان بالاغتراب عن الجمهور والعالم حوله، إلى حالات قد تؤثر على استقراره النفسي، مثل القلق أو الاكتئاب.

4- الضغط المجتمعي والتوقعات العالية

عندما يصل الفنان السوداني إلى مكانة مرموقة، تبدأ توقعات الجمهور في التزايد.
هذه التوقعات تُحمّله ضغوطاً إضافية لتقديم الأفضل بشكل مستمر، مما يدفعه للتركيز على ذاته للحفاظ على صورته العامة.

هذا السلوك، الذي قد يبدو للجمهور نرجسياً، هو في الحقيقة محاولة للبقاء في مستوى التوقعات العالية. لكن أحياناً، يُسرف بعض الفنانين في هذا التركيز على الذات، ويتعاملون مع جمهورهم بطريقة متعالية، أو يردون على تساؤلات عادية بنبرة منزعجة، مما يُضعف العلاقة بينهم وبين من يدعمونهم.

5- التأثير النفسي للنجاح والشهرة

النجاح والشهرة أحياناً يؤثران بشكل كبير على نظرة الفنان إلى ذاته.
عندما يجد الفنان نفسه محاطاً بجمهور يقدره ويستمع إليه، قد تتضخم مشاعر التميز لديه، مما يدفعه إلى تبني تصورات نرجسية، يرى فيها أن الحفاظ على مسافة من الجمهور والمجتمع هو ما يُبقيه في مكانة استثنائية.
على سبيل المثال، قد نجد بعض الفنانين يتجنبون الرد على رسائل الجمهور أو يتعاملون بجفاء في منصات التواصل الاجتماعي، بحجة الحفاظ على هيبتهم.
صحيح أن لبعض الفنانين ظروفهم الخاصة التي قد تعيقهم عن الرد أو التفاعل باستمرار، ولكن عليهم أن يدركوا أن وجودهم في هذه المنابر الجماهيرية هو جزء من مسؤوليتهم الفنية والاجتماعية.
والتعامل مع الشعب السوداني العظيم، المعروف بوعيه العميق وتقديره للفن، يتطلب حذراً واحتراماً كبيرين.
فان هذا الشعب لا يقبل إلا أن يكون الفنان جزءاً منه، يعبر عن آماله وأحلامه، ويتفاعل معه بصدق وتقدير.

في النهاية، النجاح الحقيقي للفنان لا يقتصر على التميز الإبداعي فقط، بل يمتد ليشمل قدرته على التواصل مع شعبه بكل تواضع واحترام، لأن الجمهور هو أساس أي شهرة أو مكانة يحققها الفنان.

6- الاعتقاد بدور الفنان السوداني كقائد فكري وثقافي

يرى بعض الفنانين أنفسهم أكثر من مجرد مبدعين، بل قادة فكريين وثقافيين يسهمون في تشكيل وعي المجتمع.
هذا الإحساس بالدور القيادي قد يعزز لديهم شعوراً بالتفوق على الآخرين.

الفنان الذي يرى نفسه قائداً فكرياً قد يعتقد أن له الحق في تبني سلوك نرجسي، لأنه يرى أن مكانته تتطلب ذلك. ومع ذلك، فإن القيادة الحقيقية تأتي من الاندماج مع المجتمع وفهم احتياجاته، وليس الابتعاد عنه أو التفوق عليه.

ختاماً: دور الفنان في ظل التحديات الراهنة

رغم أن النرجسية قد تكون ناتجة عن ضغوط وعوامل خارجية في مراحل معينة من حياة الفنان، إلا أن استمرارها حتى بعد تحقيق النجاح له علاقة بتأثير النجاح نفسه، وربما لتقديس بعض أفراد المجتمع له كفنان، الشيء الذي يجعله يشعر بأن التعالي هو نمط طبيعي لمتطلبات العمل الفني، أو دافعاً للحفاظ على التفرد أو وسيلة لتجنب العودة إلى التهميش.
في النهاية، تبقى الحقيقة التي تغيب عن الكثيرون من هؤلاء الفنانين، النرجسية، مهما كانت مبرراتها، تظل عائقاً أمام بناء علاقة حقيقية بين الفنان وجمهوره.

في ظل الحرب الحالية التي تمزق السودان، يصبح الفن أكثر من مجرد وسيلة للتعبير، فهو أداة مركزية للدعوة المستمرة لوقف النزاع، وبناء جسور السلام، وإعادة ترميم النسيج الاجتماعي.
ولتحقيق هذا الهدف، لا بد للفنانين من تجاوز النزعة النرجسية والعمل معاً ككتلة واحدة لتوحيد الجهود والاندماج بعمق مع الجمهور، والتفاعل الصادق مع قضاياه وهمومه.
فالتكاتف اليوم ليس مجرد خيار، بل هو واجب وطني ومسؤولية ملقاة على عاتق كل فنان/ة لمواجهة تحديات هذه اللحظة الحرجة، التي تتطلب فنانين متواضعين، ملتزمين بقضايا مجتمعهم، وقادرين على استخدام مواهبهم في خلق التغيير الفعلي الذي يتجاوز حدود الفردية.
.
.
هذه المقالة هي جزء من سلسلة كتابات عن نرجسية الفنان السوداني ودوره في المجتمع.

الوسومراني السماني

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: بعض الفنانین الحفاظ على

إقرأ أيضاً:

لغز بلا أدلة.. الموت الغامض لأيقونة الفن.. من قتل سيد درويش؟

بعض الجرائم تُكشف خيوطها سريعًا، وبعضها يظل معلقًا لسنوات، لكن الأخطر هى تلك الجرائم التي وقعت أمام الجميع، ولم تترك وراءها أي دليل يقود إلى الجاني.

سرقات جريئة، اغتيالات غامضة، جرائم نفذت بإحكام، ومع ذلك، بقيت بلا حل رغم التحقيقات والاتهامات. كيف تختفي لوحة فنية لا تُقدر بثمن دون أن يراها أحد؟ كيف يُقتل عالم بارز وسط إجراءات أمنية مشددة دون أن يُعرف الفاعل؟ ولماذا تظل بعض القضايا غارقة في الغموض رغم مرور العقود؟

في هذه السلسلة، نعيد فتح الملفات الأكثر إثارة للجدل، ونسلط الضوء على القضايا التي هزت العالم لكنها بقيت بلا أدلة.. وبلا إجابات!

الحلقة الثامنة

كان صوته وقود الثورة، وألحانه نشيدًا للوطنية.. سيد درويش، العبقرى الذي غيّر وجه الموسيقى المصرية، رحل فجأة في ظروف غامضة، تاركًا خلفه إرثًا خالدًا، وسرًا لم يُكشف حتى يومنا هذا.

وُلد السيد درويش البحر في 17 مارس 1892 بمحافظة الإسكندرية، ونشأ بين أزقة المدينة الساحلية، يعزف ويلحن بشغف لم يُعرف من قبل.

رغم صغر سنه، تزوج في السادسة عشرة، لكنه لم يترك فنه يومًا. انتقل إلى القاهرة عام 1917، وهناك لمع نجمه سريعًا، فلحن لفرق المسرح الكبرى، مثل فرقة جورج أبيض ونجيب الريحاني وعلي الكسار.

لم يكن مجرد موسيقي، بل كان صوت الشعب في ثورة 1919، حين غنى "قوم يا مصري"، ليصبح رمزًا للنضال ضد الاحتلال البريطاني.

لكن هذا الصوت الثائر لم يدم طويلًا.. ففي أوائل سبتمبر 1923، عاد سيد درويش إلى مسقط رأسه بالإسكندرية، لترتيب استقبال سعد زغلول العائد من المنفى، إلا أن القدر كان له رأي آخر.. ففي التاسع من سبتمبر، أسدل الستار على حياته بشكل مفاجئ وصادم.

رحل سيد درويش عن عمر لم يتجاوز 32 عامًا، ودفن سريعًا في مقابر المنارة، دون أن يعلم أحد بموته إلا بعد يومين، حين نشرت الصحف الخبر.
لكن الأسئلة لم تتوقف منذ ذلك اليوم: هل مات سيد درويش طبيعيًا؟ أم أن أحدًا أراد إسكاته إلى الأبد؟

الروايات الثلاث.. لغز بلا حل
1.اغتيال سياسي: تشير بعض المصادر إلى أن الإنجليز دبروا اغتياله بالسم، خوفًا من تأثير أغانيه الوطنية التي كانت تشعل الحماس ضد الاحتلال، خاصة وأن جثته دُفنت دون تحقيق أو تشريح.

2.جرعة زائدة: تقول رواية أخرى إنه تناول جرعة قاتلة من الكوكايين، ربما عن طريق الخطأ، ما أدى إلى وفاته المفاجئة.

3.انتقام غامض: أما الرواية الأكثر إثارة، فتحكيها عائشة عبد العال، ملهمته، حيث زعمت أن صديقًا له دس له السم في كأس خمر، انتقامًا منه بسبب قصة حب انتهت بشكل مأساوي.

مئة عام مرت، وما زالت الحقيقة ضائعة، كأنما أراد الزمن أن يبقى سيد درويش لغزًا، كما كانت موسيقاه ثورة لا تهدأ. بقيت ألحانه، وبقي الغموض.. لتُقيد قضية جديدة "ضد مجهول".







مشاركة

مقالات مشابهة

  • شاهد بالفيديو.. خلال إحدى الحفلات الغنائية.. فتاة سودانية تفاجئ الجميع وتحمل الفنان على كتفها وترقص به وساخرون: (شالتو القادرة)
  • دينا فؤاد: حكيم باشا فرض نجاحه على الجمهور
  • تامر فرج: لا أؤمن بالألقاب والفنان لا يمنح نفسه لقب محبوب الجمهور
  • فرقة "القومي للمسرح" تشدو بأغاني زمن الفن الجميل في "هل هلالك".. صور
  • وزارة الإعلام: ننوه إلى وسائل الإعلام العربية والغربية التعامل بدقة ومصداقية مع الأحداث الجارية وعدم الوقوع في فخاخ الشائعات التي يتم ضخها على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل متصاعد وممنهج
  • أحمد العوضي يشيد بنجاح "فهد البطل": المسلسل حقق نسب مشاهدة كبيرة
  • نشرة الفن| سعد لمجرد يعلن عن إطلاق عملة رقمية .. حسن الرداد يكشف حقيقة حمل إيمي سمير غانم
  • بلوجر فى ورطة.. حنين حسام من الشهرة والتربح على تيك توك إلى السجن
  • لغز بلا أدلة.. الموت الغامض لأيقونة الفن.. من قتل سيد درويش؟
  • ليلى علوي تكشف عن الأرقام التي أثرت في حياتها ومسيرتها الفنية