تمثل السينما أحد أهم الوسائط الثقافية في الزمن الراهن، وتتجاوز أدوارها صناعة الفرجة والترفيه إلى توجيه الوعي وإعادة صياغة تمثلات الجمهور بأدوات ثقافية ناعمة، حسب المجالات التي تغطيها الإنتاجات الفنية.

فالقطاع الفني لا تنفصل وظيفته عن إرادة مؤسسات الإنتاج العالمية، ومن ثم الدول التي تملك إمكانيات متقدمة، مما جعل السينما أداة من الأدوات التي تخدم أهدافها الثقافية والسياسية، الداخلية في علاقة بالقضايا الاجتماعية والثقافية ونمط القيم الذي ينبغي أن يتشكل عليه الوعي المجتمعي، أو على مستوى عالمي في تصدير قيم معينة، أو صورا نمطية تحمل أحيانا الكثير من التعميم، حول الأنماط الثقافية لعدد من الشعوب والمجتمعات والكيانات الحضارية، ومن تلك الشعوب طبيعة حضور المجتمعات العربية والإسلامية في عدد من الأعمال السينمائية.

العرب وصبغة العنف والإرهاب

أصبح من النادر استحضار المجتمعات العربية في الأعمال السينمائية دون الإشارة إلى العنف والتخلف والخراب، والعنف المقصود هنا ليس المرتبط بالجريمة وحسب، وإنما العنف المنظم ذو الطبيعة العقائدية، أي الإرهاب والجماعات المقاتلة العابرة للحدود.

يمكن الإشارة في هذا الجانب إلى آخر الأعمال السينمائية، التي تحمل قيما فنية وجمالية ذات مستوى عال في الإبداع السينمائي، مثل مسلسل "ذا بلاك ليست" (Blacklist The) الأميركي الذي عرضت الحلقة الأخيرة منه قبل أسبوع، وهي سلسلة حملت الكثير من التشويق والإبداع خلال العرض المتتالي لأجزائه المتعددة منذ سنة 2013، إذ يسلم "ريموند ريدينتغتون" (الممثل الأميركي جيمس سبيدر) نفسه لمكتب التحقيقات الفدرالي، وهو عميل سابق لهم تحول إلى مدرج إلى قوائم المطلوبين، ويعرض أن يكون خبيرا متعاونا في تتبع كبار المجرمين على مستوى عالمي، مع شروط خاصة به.

ومع تطور الأحداث تبرز العلاقة بين الجريمة والسياسة والمال ونوازع السيطرة والتحكم، كما يتجلى الإبداع في إبراز التناقضات النفسية لشخصية البطل، مع عبقرية في الظهور والتخفي حين يتطلب الأمر ذلك، من أجل الإمساك بأوجه الصراع وحبال الجريمة والسلطة والثروة معا، محليا وعالميا.

استحضرت هذه السلسلة في إحدى حلقاتها الأخيرة مشاهد لارتباط الجريمة المنظمة عالميا، مقدمة "اليمن" باعتباره بؤرة نشاط الإرهاب والعنف والخروج عن القانون، في عملية لتبييض الأموال بين شخصية أميركية وأخرى تحمل اسما عربيا وتتزعم تنظيما إرهابيا، وضحية هذا التعاون طبيب أميركي يعمل في مجال الإغاثة باليمن، ليأتي دور مكتب التحقيقات في كشف التلاعب باسم الطبيب بين الإرهابي العربي والأميركي.

هل يمكن أن تزول تلك الصورة التي تترسخ عن دولة عربية أو المجتمعات العربية باعتبارها فضاء للعنف والإرهاب ونشاط التنظيمات الإجرامية على مستوى عالمي، حيث يتداخل العنف والسياسة والمال؟

هذه الصورة السلبية للعربي والمسلم في السينما العالمية، باعتباره كائنا تحمل جيناته نوازع السلوك العنيف، وللمجتمعات العربية باعتبارها بدائية ومتخلفة وغير آمنة، هي صورة ممتدة منذ الأفلام الأولى التي أنتجت بداية القرن الماضي، وزورت في هذا السياق حقائق التاريخ في أفلام عالجت شخصيات أو أحداثا تاريخية مثل لورانس العرب وغيره.

وقد عادت هذه الصورة السلبية بشكل أكبر في العقدين الأخيرين، مع بروز نجم الجماعات المقاتلة العابرة للحدود، من أفغانستان إلى العراق، ثم في سوريا، في سياق إفشال الثورة المضادة للربيع العربي، وبالنظر إلى حجم الزخم الذي حظي به الإرهاب في السياسية العالمية وفي النظام الدولي منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، فإن تصدير صورة العنف أو التخلف عن المجتمعات العربية أضحت مادة رئيسية، وهي لا تتصل فقط بتغذية تطلعات الجمهور في المتابعة والإثارة، وإنما تحمل، بقصد، تمثلات خاطئة عن المجتمعات العربية، ومن ثم المظهر الذي ينبغي أن يبدو به الإنسان المسلم ورموزه الثقافية، ليصبح مصدر خوف وقلق وعنصر تهديد لأسس الحضارة والاجتماع المدني المتحضر الذي شيده الإنسان الحديث وترعاه القوة الأميركية على مستوى عالمي.

إنها عملية تزييف وتضليل مركبة، تتم بأدوات الإبداع الفني، وتمرر من خلال الفرجة والتسلية.

الصورة النمطية التي يتم تصديرها من خلال السينما عن العرب والمسلمين، لا يمكن تصحيحها إلا من خلال الوسائط الثقافية والفنية نفسها، ويقتضي تحقيق ذلك قدرا كبيرا من الحرية وأنساقا تحمل الوعي بالذات والمؤهلات في عالم اليوم

الشرق.. عالم يسوده الخراب

فيلم آخر ظهر قبل أسبوعين فقط، تدور أحداثه كلها بالشرق الأوسط، تبرز فيه البلد الشرقي (مسرح الأحداث) أرضا يبابا لا ماء فيها ولا كلأ.

تبدأ أحداث فيلم "الضربة الخفية" (Hidden Strike) الذي مثل بطولته "جاكي شان" و "جون سينا"، بتعرض مصفاة نفط صينية لهجمات متكررة من قبل متمردين، ويتعين على وحدة خاصة إجلاء العلماء والموظفين عبر طريق وحيد يسمى "طريق الموت السريع" يجتاز القفار والصحراء، حيث يتعرضون لهجوم من مرتزقة، يتشكلون من الساعين وراء المال وربما من بقايا القوات الأميركية في المنطقة، وهدف الهجوم هو الحصول على أسرار تكنولوجيا تشغيل المصفاة.

لا يحمل الفيلم بعدا فنيا إبداعيا على مستوى القصة أو السيناريو، أو الموضوع، كما لا يعبر إنتاجه عن بعد فني إبداعي لكنه حظي بمتابعة واسعة على منصة نتفليكس منذ الإعلان عنه أواخر الشهر الماضي.

يبرز الفيلم الشرق باعتباره فضاء لا شيء يبعث على الحياة فيه، لا شيء سوى الصحراء والقفار وبقايا الموت في المكان الذي يبطش به الجفاف والحرب، مما جعله خاليا من العمران وتحت نفوذ المرتزقة والمتمردين.

من المشاهد الدالة في هذا العمل السينمائي، نقتطع مشهدين يبرزان طبيعة الإنسان والمكان، ثم دور الأميركي النبيل في المنطقة، وهي كالآتي:

المشهد الأول: الأرض القاحلة اليباب
مع مطلع الفيلم وخلال مغادرة المصفاة، يظهر طفل بزيه العربي، يحمل قنينة أو كوبا فارغا يوجهه نحو الحافلات التي تغادر المكان، يطلب منهم ماء بعد أن عم الجفاف ونضبت عيون الأرض، ولنا أن نتساءل عن طبيعة الرسالة التي تحملها مثل هذه الصورة عن المكان والإنسان في عالم الشرق، ويمكن القول ببساطة، لقد أصبح البقاء وتوفير العناصر الضرورية للحياة هاجس المجتمعات الشرقية التي تحمل في أصل تكوينها نزعة الدم والعنف، وطبعا لن يكون السؤال مطروحا عن السيطرة على منابع الثروة في الشرق الأوسط، أو عن أن الخراب الذي حل بالعراق، بفعل الغزو والتدخل الخارجي الذي حول بلد الحضارة إلى ركام من الخراب. المشهد الثاني: الأميركي المنقذ وصاحب اليد البيضاء في مساعدة الناس
هكذا يظهر البطل الثاني الذي يتحد مع "جاكي شان" من أجل محاصرة الشر، يقرر البقاء في قرية بدائية، ينشغل بهواجس الفارين من الحرب والجفاف، فيسعى إلى توفير الماء ويلاعب الأطفال الذين يعانون من كل أشكال الحرمان، أي أن دوره قائم على المساعدة الإنسانية في توفير ضروريات الحياة، وكذلك الترفيه.
تلك لازمة العديد من الأفلام الأميركية، حيث يكون البطل هو المنقذ الذي يقدم مختلف أشكال الدعم، في فيتنام أو أفغانستان أو العراق، وهكذا تأتي السينما، بعد الغزو العسكري وإحلال الخراب بالمكان، لتقدم صورة مناقضة للواقع وأصل المشكلة، وهي بذلك تتحكم عمليا في صناعة الوعي، وتحرم هذه الشعوب من صياغة سرديتها بنفسها. الصورة النمطية.. السينما وقلب الحقائق

تعد إشاعة الصورة النمطية للمنطقة العربية المرتبطة بالعنف جزءا من صورة أعم حول العالم العربي والإسلامي، تغيب فيها الجوانب المشرقة التي تميز المجتمعات العربية، كما لا تعالج المصدر الحقيقي لمعاناة الشرق، مما يعني أن التركيز على هذا الجانب لا يخضع لأهداف فنية وحسب، وإنما لرؤية مسبقة عن طبيعة الإنسان والمجتمعات العربية لدى شركات الإنتاج السينمائي التي تعد أداة ناعمة للهيمنة والتحكم في وعي الجمهور من جهة، وتخدم المنظور السياسي للقوى الماسكة بالسوق، بحيث يصعب الفصل بين السينما والسياسة، ومن ثم بين الثقافة والسياسة.

تظهر خطورة السينما في زمن تهيمن فيه الصورة، في طبيعة التحيزات الكامنة في رسالة الأعمال التي يتم إنتاجها، وهي تحيزات قد تحقق الفرجة، لكنها تمارس اغتيالا على مستوى الوعي بخصوص الثقافات والمجتمعات والشعوب، وذلك بأدوات ناعمة تعمل على قلب حقائق التاريخ والبنى العميقة لثقافات الشعوب وخصائصها التي تميزها، لتكون سلاحا بيد من يمسك أدوات الإنتاج في هذا القطاع الذي أصبح اقتصادا قائما بذاته.

حصل هذا مع أفلام الكاوبوي، حيث تحول الهنود الحمر ، أصحاب الأرض، إلى شعوب عنيفة لا تستحق التعاطف، بينما ينحاز الجمهور بكل متعة وبشكل لا واعٍ إلى استبطان موقف يبرر العنف الذي أدى إلى إبادة حضارة وثقافة بأكملها، ومثل هذا حصل في فلسطين، وفي الأعمال السينمائية التي عالجت التدخل الأميركي بالعراق، حيث تم تقديم الغزو باعتباره مسعى لتوطين الديمقراطية، وها هو يستمر الآن في إعادة صياغة السردية نفسها من خلال صورة نمطية كفيلة بإحداث تأثير يمتد لأجيال، في ظل غياب السينما العربية عن المنافسة عالميا، وهو ما يبدو أنه لن يتحقق قريبا.

ختاما: إن الصورة النمطية التي يتم تصديرها من خلال السينما عن العرب والمسلمين، لا يمكن تصحيحها إلا من خلال الوسائط الثقافية والفنية نفسها، لكن المقارنة بين مؤسسات الإنتاج العالمي ووضعية السينما والثقافة في عالمنا العربي، تبرز الوعي في السياق الأميركي والغربي عموما، بهذه الأدوار في خدمة الأهداف والمصالح الإستراتيجية للدول، ثم باعتبارها سوقا قائما بذاته، له عائدات مالية كبيرة، بالإضافة إلى حس الإبداع وتشجيع المجال الثقافي.

بينما يرتبط عالم السينما والفنون في العالم العربي بطبيعة الوضعية السائدة، التي تتطلب تحولا نسقيا تمر به المجتمعات والدول، وضرورة الوعي بأهمية الأدوات الناعمة والثقافة والوسائط الثقافية، في أوجه الصراع المتعددة اليوم، بحيث يقدم العرب أنفسهم أعمالا سينمائية كبرى عن ذواتهم الحضارية والمجتمعية والقيمية، والدوافع الحقيقية للعنف والاضطراب، يخاطبون بها الآخر من خلال جوانب تتصل بالفرجة والفنون والذوق.

ويقتضي تحقيق ذلك قدرا كبيرا من الحرية وأنساقا تحمل الوعي بالذات والمؤهلات في عالم اليوم، وما دام هذا غير متحقق كلية فإن أبسط المهام هو الكتابة النقدية عن طبيعة الزيف والتضليل الذي تحمله أعمال سينمائية تقدم صورة نمطية عن العرب والمسلمين.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: المجتمعات العربیة فی عالم من خلال فی هذا

إقرأ أيضاً:

هيئة الأعمال الخيرية العالمية تدعم 60 ألف يتيم في رمضان

أعلنت هيئة الأعمال الخيرية العالمية، تنفيذ حزمة من المشاريع الخيرية لدعم 60 ألف يتيم داخل دولة الإمارات وخارجها خلال شهر رمضان المبارك، وذلك بهدف إدخال السرور على هذه الفئة وتعزيز استقرارها المعيشي.

ومن أهم هذه المشاريع، توزيع زكاة المال، وتوفير كسوة العيد للأيتام وأمهاتهم، وتقديم الطرود الغذائية، والكفالات النقدية الشهرية، والعيديات، وتوفير العلاج والأدوية.
وقال الدكتور خالد الخاجة، الأمين العام للهيئة، إن هذه المشاريع تأتي في إطار التزام الهيئة برعاية الأيتام وتخفيف أعباء الحياة عنهم وعن أسرهم، انطلاقاً من رسالتها النبيلة في تمكين الفئات الأكثر احتياجاً ودعمها على مختلف الأصعدة.
وأكد أن هذه الجهود تعكس التعاون الوثيق مع شركاء الهيئة من مؤسسات خيرية ومحسنين، كان لعطائهم الأثر العظيم في مسيرة الخير خلال الشهر الفضيل.
وأضاف أن رعاية الأيتام ليست مجرد التزام مادي، بل مسؤولية مجتمعية وواجب إنساني يتطلب من الجميع مد يد العون إليهم وتوفير بيئة آمنة ومستقرة تسعدهم، ومن هذا المنطلق، تواصل الهيئة تطوير مشاريعها وبرامجها لتقديم الدعم المستدام الذي يعزز من جودة حياة الأيتام وأسرهم.
وتوجه بخالص الشكر والتقدير لكل من ساهم في دعم هذه المبادرات، سائلين الله تعالى أن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم، داعياً الجميع لمواصلة العطاء عبر هذه المشاريع الخيرية التي تعكس قيم التراحم في مجتمع الإمارات.

مقالات مشابهة

  • منصور بن زايد: برنامج «ضيوف رئيس الدولة» يرسخ قيم التواصل والتراحم خلال رمضان
  • تعرف على عروض قصر السينما حتى نهاية شهر رمضان 2025
  • رحل في هدوء.. الفنان إحسان يترك مسيرة فنية حافلة في السينما المصرية
  • «الأعمال الخيرية العالمية» تدعم 60 ألف يتيم في رمضان
  • هيئة الأعمال الخيرية العالمية تدعم 60 ألف يتيم في رمضان
  • الإعيسر: يدعو الطرق الصوفية للاسهام في نشر الوعي الديني الصحيح ومحاربة خطاب الكراهية والعمل على رتق النسيج الاجتماعي
  • صبري عبد الحفيظ: الرئيس السيسي أكد مرارًا وتكرارًا أن الوعي سر تماسك الوطن
  • مدفع شرطة دبي المُتنقل في القرية العالمية
  • 20 مليار دولار عوائد موانئ دبي العالمية خلال 2024 بنمو 9.7%
  • موانئ دبي العالمية تُسجل عوائد قياسية خلال 2024