#فقه_الثورة في #الإسلام
بقلم: د. #هاشم_غرايبه
فطر الإنسان على العيش الجماعي، فاللبنة الأولى هي الأسرة، وهي مجتمع مصغر يتولى فيه الأب القيادة، ومجموع الأسر تشكل العشيرة، ومجموعة العشائر التي تنتمي الى جد واحد قبيلة.
وتنازعت القبائل على الموارد الزراعية والحيوانية، وتطورت احتياجات الإنسان لدواعي الحماية والتعاون، فصار لازما وجود وعاء جامع ينظم ويحمي فنشأت الدول.
ولما كانت الزعامة والقيادة تحقق المزايا والمنافع، فقد كان نيلها من شخص مع وجود كثير من الطامحين أمر صعب، بداية كانت محتكرة بعائلات محددة يتوارثها الأبناء من الآباء، ومع التطور توصل البشر الى النظام الديموقراطي الذي يتيح تبوء الزعامة للمؤهلين بالإنتخاب، بغض النظر عن نسبهم.
عندما أنزل الله الرسالة الخاتمة بالدين الكامل المتكامل، لم تتطرق التشريعات الى أسلوب الحكم، لأن الزمن آنذاك لم يكن يعرف فيه غير النظام الامبراطوري، وتتوارث فيه الحكم عائلات حاكمة محددة، فلو أقره لاعتبر نظاما شرعيا، ولو طرح الأسلوب الانتخابي لاستحال تطبيقه لعدم امكانية تنظيم سجلات بالناخبين، ولضعف وسائل النقل والاتصالات، فترك تحديد نظام الحكم مبهما الى حين تحقق الظروف مستقبلا.
لذلك وفي التطبيق الأول للنظام السياسي الإسلامي، طرح نظام بديل يؤدي الغرض آنذاك هو البيعة، وهو لا يقر بتوارث الحكم، بل يتيح الاختيار للكفوء إداريا وسياسيا، بغض النظر عن حسبه أونسبه أو فقهه، لكن لأن اختياره من قبل أفراد الأمة (الانتخاب) غير ممكن للأسباب الوارد آنفا، فقد أوكل اختياره الى أهل الحل والعقد، وهم لجنة من الخبراء تتألف من الحكماء وأهل الرأي والعلم والتجربة، ثم يتاح للأفراد تزكية هذا الاختيار أو رفضه، ومن يقره يعني ذلك أنه بايع الحاكم الجديد على السمع والطاعة والمؤازة.
لكن ذلك ليس مطلقا وأبديا بل مقيد بما لا يخالف الشرع المبين في كتاب الله وتطبيقه النبوي (السنة).
يستنبط ذلك من الأنموذج الأول للحكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين من بعده، فالحاكم الأول كان النبي الذي اختاره الله، لذلك كان حاكما إداريا وقائدا عسكريا ونبيا مرجعا في الأحكام، وهذه حالة خاصة لا تتكرر لأن عهد النبوة انقطع، وبالتالي لا يمكن أن تجتمع مهام الزعامة الثلاث هذه في شخص مهما كان.
نفهم ذلك من خطبة الخليفة الأول (أبي بكر) حينما طلب السمع والطاعة، لكنها مقيدة بما لا يخالف الشرع، فإن خالفه تسقط البيعه، أي يتوجب خلع الحاكم، لأنه لا يستقيم الأمر إن كانت الرعية متمردة عليه.
وآلية ذلك تكون بخلعه من قبل من اختاروه، وهم أهل الحل والعقد، فأن رفض ترك الحكم وأصر على بقائه جازت الثورة عليه لإسقاطه، وسند ذلك هو رد أحدهم على الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حينما قال: “من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً فليقوِّمه”، فقام رجل وقال: “والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقوّمناه بسيوفنا”، فأقره عمر واستحسن قوله فقال :”الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوِّم إعوجاج عمر بسيفه”.
نخلص مما سبق أن الطاعة للحاكم شرط أساسي لاستتباب الحكم وصلاح الأمر، لكن الحاكم ليس محصنا من الزلل والحيف، لذلك فالواجب الشرعي عليه يلزمه بقبول أن يبقى تحت الرقابة والمساءلة على الدوام، وأن لا يستبد برأيه بل يأخذ برأي ومشورة الخبراء في المسائل السياسية، ورأي علماء في مطابقة قراراته لأحكام الشرع، وفرض الله ذلك على رسوله الموحى إليه، ليكون سنة لمن بعده: ” وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ” [آل عمران:159].
خضوعه للمراقبة تتطلب أن تكون قراراته وسياساته وإدارته المالية واضحة معلنة، وخضوعه للمساءلة تتوجب وجود سلطة أعلى تفحص أداءه وتقيمه، وهي سلطة تشريعية مستقلة عنه ولا تخضع له، وللفصل في الخلافات والنزاعات يجب وجود سلطة أخرى منفصلة ايضا، هي السلطة القضائية كادرها مؤهلون في العلم بالشرع وكافة المناحي الحياتية.
هكذا نستنتج أن القول بالطاعة المطلقة للحاكم ليس له سند شرعي، بل هي مقيدة، والواجب يقتضي وجوب وجود أهل الحل والعقد بصلاحياتها الشرعية الكاملة، فإن لم توجد، فالواجب ملقى على عاتق هيئة الأمر بالمعروف، فإن رفض نصحها، تعلنه من باب تغيير المنكر باللسان، للضغط عليه شعبيا وإعلاميا لكي يصلح أو يستقيل.
وبالتطبيق المعاصر: التظاهرات للمطالبة بالإصلاح، وإلا فالثورة.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: الإسلام هاشم غرايبه
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: ليلة النصف من شعبان عظيمة وتحويل القبلة حدث تاريخي في الإسلام
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن في هذا الشهر الكريم ليلة عظيمة هى ليلة النصف من شعبان , عظَّم النبي ﷺ شأنها فقال: "إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن " [ابن ماجه وابن حبان].
وأضاف جمعة، في منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، انه قد ورد في فضل تلك الليلة أحاديث ، بعضها مقبول وبعضها ضعيف, غير أن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال, ولذلك يحرص الصالحون على قيام ليلها وصيام نهارها.
وفي شعبان تم تحويل القبلة, وهو حدث عظيم في تاريخ الأمة الإسلامية, كان تحويل القبلة في البداية من الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية ، وهي تقوية إيمان المؤمنين وتنقية نفوسهم من شوائب الجاهلية ، كما قال تعالى : (وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) . فقد كان العرب قبل الإسلام يعظمون البيت الحرام ويمجدونه، ولأن هدف الإسلام هو تعبيد الناس لله وتنقية قلوبهم من التعلق بغير الله , فقد اختار لهم التوجه إلى المسجد الأقصى ليخلص نفوسهم ويطهر قلوبهم من رواسب الجاهلية, وليظهر من يتبع الرسول اتباعًا صادقًا عن اقتناع وتسليم, ممن ينقلب على عقبيه ويتعلق قلبه بدعاوى الجاهلية .
وبعد أن استتب الأمر لدولة الإسلام في المدينة, صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام, وهذا التحويل ليس تقليلاً من شأن المسجد الأقصى , بل هو ربط لقلوب المسلمين بحقيقة الإسلام, فقد رفع سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل قواعد هذا البيت العتيق ليكون خالصًا لله, وليكون قبلة للإسلام والمسلمين, وليؤكد أن دين الأنبياء جميعا هو الإسلام. قال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ) .
وقد أكد تحويل القبلة الرابطة الوثيقة بين المسجدين. فإذا كانت رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى قد قطع فيها مسافة زمانية , فإن تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام رحلة تعبدية, الغرض منها التوجه إلى الله تعالى دون قطع مسافات, إذ لا مسافة بين الخالق والمخلوق. قال تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ).
وعندما يتجه الإنسان من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، فهو يعود إلى أصل القبلة ، كما قال تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ). فهي دائرة بدأت بآدم مرورًا بإبراهيم حتى عيسى عليهم السلام, ولكنها اكتملت بالرسول الخاتم ﷺ ، فقد أخره الله ليقدمه, فهو وإن تأخر في الزمان فقد تحقق على يديه الكمال.
وقد كرم الله نبيه ﷺ في هذه الليلة بأن طيب خاطره بتحويل القبلة ، والاستجابة لهوى رسول الله ﷺ ، قال تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) .
وجاء تحويل القبلة أيضًا لتقر عين الرسول ﷺ ، فقلبه معلقًا بمكة, يمتلئ شوقًا وحنينًا إليها, إذ هي أحب البلاد إليه. وقد أخرجه قومه واضطروه إلى الهجرة إلى المدينة المنورة التي شرفت بمقامه الشريف. فخرج من بين ظهرانيهم ووقف على مشارف مكة المكرمة قائلا: "والله إنك لخير أرض الله وأحب الأرض إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" (رواه الترمذي) .
وبعد أن استقر ﷺ بالمدينة المنورة, ظل متعلقًا بمكة المكرمة ، فأرضاه الله عز وجل بأن جعل القبلة إلى البيت الحرام. فكانت الإقامة بالمدينة والتوجه إلى مكة في كل صلاة, ليرتبط عميق الإيمان بحب الأوطان.