إخْمَادُ الحَرْبِ بالوَثِيقَةِ الدُسْتُورِيَّةِ
تاريخ النشر: 7th, January 2025 GMT
إخْمَادُ الحَرْبِ بالوَثِيقَةِ الدُسْتُورِيَّةِ
Thwarting the War by the Constitutional Document
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
هل الفشل في تنفيذ الوثيقة الدستورية يبرر إلغاءها؟:
الدساتير حتى في الدول المتقدمة ليست مكتملة لتكون ثابتة أو غير قابلة للتعديل. بل إن أحد السمات الرئيسية للدساتير في هذه الدول هي قدرتها على التكيف مع التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من خلال احتوائها على آليات لتعديلها.
أما الفشل في تنفيذ الدستور بعدم الالتزام بأحكامه ومبادئه أو العجز عن تطبيقه بشكل كامل بسبب عوامل سياسية، أو اجتماعية، أو إدارية، أو حتى نتيجة لأزمات أو صراعات، فإن الممارسة العالمية الجيِّدة تشير أيضاً لتعديل الدستور وفقاً للإجراءات المنصوص الدستور نفسه، حتى في حالة ثبوت أن بعض أحكام الدستور غير قابلة للتنفيذ أو لا تتماشى مع الواقع السياسي والاجتماعي. وهناك عدة أمثلة لدساتير تم تعديلها بسبب الفشل في تنفيذ بعض بنودها سواء نشأ هذا الفشل عن غموض النصوص، أو تعارض بين البنود، أو عجز مؤسسات الدولة عن تطبيق أحكام الدستور. فعندما واجهت الولايات المتحدة تحديات في تنفيذ بعض بنود الدستور المتعلقة بحقوق الأفراد وتنظيم السلطات أضيفت في عام 1791 بنودٌ لضمان حماية حقوق الأفراد بعد انتقادات بأن الدستور الأصلي لم يكن واضحاً في هذا الشأن. وفي عام 1962 أُجْرِيَ تعديلٌ في الدستور الفرنسي ليصبح انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب بدلاً من البرلمان، بهدف تعزيز الشرعية. كما عدَّلت الهند الدستور عام 1976 لتعزيز الاشتراكية والعلمانية وسط أزمات سياسية.
والوثيقة الدستورية لعام 2019 المعدلة عام 2020 التي غرر بها المدنيون والعسكريون الموقعون عليها ليست استثناءً. فإذا افتُرِض جدلاً أن الوثيقة الدستورية بها عيوب، أو تشتمل على بنود غير قابلة للتنفيذ، فقد اشتملت الوثيقة على بند يحدد كيفية تعديلها، بَيْد أنها فرضت قيوداً صارمة على التعديل لحماية أهداف الثورة. حيث تنص المادة (78) من الوثيقة على: "لا يجوز تعديل أو إلغاء هذه الوثيقة إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي، وبعد التشاور مع مجلسي السيادة والوزراء." وفي غياب المجلس التشريعي، يتعين موافقة مجلسي السيادة والوزراء مجتمعين على أي تعديل.
وعليه فإن تجاهل قوى الحرية والتغيير تعديل الوثيقة الدستورية لعام 2019، واختيار استبدالها بوثيقة جديدة صاغتها نقابة المحامين السودانية المعروفة بـ "الإعلان الدستوري لنقابة المحامين"، يُثير تساؤلات متعددة حول مبررات الخطوة وتداعياتها. فالوثيقة الدستورية لعام 2019 تحتوي على المادة (78) التي تحدد كيفية تعديل الوثيقة. وعليه فإن تجاوز هذه الآلية يعني تجاهل الدستور القائم، وهو ما يمكن اعتباره انتهاكاً للمبادئ الدستورية. فالالتزام بالإجراءات الدستورية يُعد مبدأً أساسياً لحكم القانون، وعدم احترام الوثيقة الدستورية يثير شكوكاً حول شرعية أي بديل دستوري جديد. وذلك فضلاً عن وثيقة نقابة المحامين تعكس رؤية مجموعة معينة من القوى السياسية وتفتقر للشرعية. وذلك فضلاً عن أن الوثيقة الدستورية لعام 2019، رغم ما نسب لها من عيوب وفشل في تنفيذها ، فقد أتت نتيجة تفاوض شامل بين قوى ثورة ديسمبر ممثلة في الحرية والتغيير والعسكريين، ما أعطاها الشرعية الثورية والقبول الأوسع مقارنة بأي مرجعية دستورية أخرى.
لماذا تمثل الوثيقة الدستورية الإطار الدستوري الشرعي الحصري لإبطال الذرائع الدستورية للحرب؟:
نظراً لطغيان العنصر الدستوري في الصراعات السياسية والعسكرية التي قادت لانقلاب أكتوبر 2021 وحرب أبريل 2023 وتسببت في استمرارها، هناك ضرورة للتوافق على إطار دستوري ينطوي على قواسم مشتركة بين المدنيين والعسكريين الذين شاركوا في الثورة الشعبية الكُليَّة ضد نظام الإنقاذ القهري الفاسد، بحيث يؤسس هذا الإطار الدستوري لتوافق حول مشروع وطني يعالج القضايا الأساسية التي أفرزتها الحرب ويحدد معالم عقد اجتماعي جديد وتوافق سياسي موضوعي بين فصائل ثورة ديسمبر المدنية والعسكرية عبر حوار وطني عميق. ويستدعي ذلك اعتماد منهج التدرُّج وتحديد أولويات كل مرحلة، بدءاً بوقف إطلاق النار، ومروراً ببناء التوافق السياسي والعسكري بين قوى الثورة خلال فترة انتقالية محددة الفترة والصلاحيات والمهام المسندة، ووصولاً إلى ترسيخ المدنيَّة الديمقراطية عبر انتخابات حرة ونزيهة يشارك فيها الجميع دون إقصاء.
لقد شهدت الفترة التي أعقبت انقلاب أكتوبر 2021 حراكاً واسعاً للوصول لمرجعية دستورية تحكم الفترة الانتقالية بعد فشل المدنيين والعسكريين في الالتزام بتنفيذ بنودها. وبرز في هذا الحراك خارطة طريق لوضع إعلان دستوري جديد عرضتها قوى الحرية والتغيير (قحت) على بعثة الأمم المتحدة للسودان في فبراير 2022، وأعقب ذلك الإعلان الدستوري الذي طرحته اللجنة التسييرية للمحامين السودانيين في سبتمبر 2022، ثم الاتفاق الإطاري الذي وقع عليه عدد من الكيانات العسكرية والمدنية في ديسمبر 2022. وقد اتسمت كل هذه المحاولات لوضع مرجعية دستورية للفترة الانتقالية بافتقار القائمين عليها للشرعية الثورية أو الشرعية الانتخابية التي تؤهلهم لوضع إطار دستوري ذي مصداقية. وبالنظر للبدائل الأخرى المطروحة لوضع مرجعية دستورية تمهد للتوافق بين المدنيين والعسكريين نجدها تشمل: مؤتمر دستوري شامل، ولجنة دستورية تمثيلية، والوثيقة الدستورية لعام 2019 المعدلة عام 2020. وبتسليط معيار الشرعية على هذه البدائل تتجلى الوثيقة الدستورية كخيار أوحد نظراً لما تتمتع به من الشرعية الثورية المنبثقة عن ثورة ديسمبر 2018 الشعبية.
إذ يتطلب تحقيق السلام المستدام بعد الحرب إطلاق عملية عادلة وشاملة للحوار حول المرجعية الدستورية المستندة على مضامين ثورة ديسمبر مع مراعاة شرعية الكيان الذي يصيغها. ونظراً لعدم توفر الشرعية الدستورية حالياً لدى مجمل الفاعلين المدنيين والعسكريين، يستدعي الأمر النظر في إدخال تعديلات هيكلية على الوثيقة الدستورية (عام 2019 المعدلة عام 2020) بوصفها المرجعية الدستورية الوحيدة ذات الشرعية نظراً لمشاركة قوى ثورة ديسمبر 2018 المدنية والعسكرية في إعدادها في إطار الشرعية الثورية. وتجدر الإشارة إلى أن كافة الفقرات التي استحدثتها وثيقة المحامين (التي استند عليها الاتفاق الإطاري) يمكن استيعابها بتعديل الوثيقة الدستورية، بما في ذلك خروج العسكريين من السلطات السيادية والتنفيذية والتشريعية. وهناك ضرورة لوضع نظام حوكمة وطني شامل يستهدف العلاقة بين استدامة السلام وروح ونص المرجعية الدستورية، وبناء الثقة بين الفاعلين المدنيين والعسكريين لتحقيق السلام، بمعالجة الثغرات الحرجة في الوثيقة الدستورية المتعلقة بفض "الشراكة" المدنية-العسكرية وإحلال "التنسيق" المدني-العسكري محلها لتحقيق التحوُّل المدني الديمقراطي. وهنا تلوح الضرورة لمراعاة الملكية الوطنية لعملية المرجعية الدستورية لتحاشي النتائج العكسية المصاحبة لتعاظم دور الجهات الخارجية بإطلاق حملة إعلامية عامة لتوسيع قاعدة المشاركة، وإجازة الوثيقة الدستورية المعدلة بواسطة المجلس التشريعي الانتقالي.
المنهجيَّة الشرعية لتعديل الوثيقة الدستورية:
أفرزت حرب أبريل واقعاً سياسياً واجتماعياً وعسكرياً قاهراً لم يشهده السودان على مر العصور. وللخروج من هذا المأزق المُرَكَّب الذي أفرزته الحرب، ولتحاشي ما هو أسوأ، ينبغي تضافر الجهود المحلية والإقليمية والدولية لوضع السودان على مسار سياسي ديمقراطي مستقر يقطع الطريق لانزلاق البلاد نحو الحرب الأهلية الشاملة والتقسيم، ويستجيب لتطلع السودانيين إلى حاضر واعد ومستقبل مزدهر. ولا شك أن المسار نحو هذا المستقبل تحُفُّه مخاطر وتحديات يتطلب مواجهتها التحلي بصفات الوطنية وشيوع سمات العدالة والتآزر والتسامح بين أبناء الوطن الواحد.
ذلك أن المرحلة الانتقالية مُجَرَّد جسر واهن مصمم هيكلياً لعبور السودان من الصراع للسلام ثم التحول المدني الديمقراطي، دون تحميل هذا الجسر أكثر من طاقته التصميمية بما يؤدي لانهياره. ولعل من أبرز القضايا خلال الفترة الانتقالية القادمة هي الاختصاصات والمهام المسندة للفترة التي تعقب انتهاء الصراع المسلح باعتبارها مجرد "انتقال" نحو التحول الديمقراطي وليس "تأسيس" الدولة السودانية الجديدة. وعليه فإن إغراق الفترة الانتقالية بمهام "تأسيس السودان الجديد" يمثل تمريناً نخبوياً لا يستند إلا على شرعية السلاح، فضلاً عن كونه قصير الأجل تجُبُّه منطقيَّاً السلطة المنتخبة بعد انتهاء الفترة الانتقالية. حيث إن "التأسيس المستدام" للسودان الجديد لا يتم إلا عبر سلطة منتخبة تعقب إنجاز الاستحقاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للسلام عبر فترة انتقالية رصينة ومتماسكة لا تقل مدتها عن خمس سنوات، يقودها مدنيون مستقلون ويحميها جيش واحد موحد، ويتم خلالها تنفيذ العقد الاجتماعي بين السلطة الانتقالية والشعب.
ونظراً لوعورة الفترة التي تعقب الحرب مباشرة في تحقيق الانتقال للمستقبل المشرق يجب التأمُّل في كيفية اجتيازها دون انتكاس. ولعل الاستبصار في الذرائع التي أدت للحرب يرسخ الحاجة لإطار دستوري مستنير يستوعب شواغل الأطراف العسكرية الضالعة في الحرب، وهواجس ضحاياها المدنيين المعانين من ويلاتها. وبالنظرة الذرائعية للبدائل المتاحة تبرز الوثيقة الدستورية كالخيار الوحيد الذي يتمتع بالشرعية الثورية، والقابل لاستيعاب الواقع الملتبس الذي رشح من الحرب، إذ يجب إخضاعها لتعديلات ممنهجة لتهيئ البيئة الصالحة لإشاعة التآزف والتقارب بين العسكريين المتحاربين والمدنيين المتناحرين.
وتحقيقاً لهذه الغاية المأمولة ينبغي تعديل الوثيقة الدستورية لتستوعب استبدال الشراكة العسكرية-المدنية بالتنسيق المدني-العسكري كمنهج بديل لوقف الحرب والتمهيد لخروج العسكريين من السياسة، عوضاً عن إطار الشراكة السابقة التي واجهت تحديات كؤودة أدت للمناداة بفضها من قبل لجان المقاومة والفاعلين المدنيين، وانتهت بانقلاب ديسمبر المشؤوم. وحتى يؤدي التنسيق العسكري-المدني دوره المنوط بها بعد الحرب ينبغي تأطيره في الوثيقة الدستورية المعدَّلة بما يحقق ضمان الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، بما في ذلك حرية المعتقد والعبادة وحرية التعبير والتجمع والتنظيم، والتأكيد على احترام التنوع الثقافي والديني والعرقي في المجتمع دون النص على ما يثير حفيظة الإسلاميين بتبني مواقف دينية وثقافية مثيرة للجدل، وإدراج مبادئ العدالة وعدم التمييز وحماية حقوق الأقليات، وتعزيز مفهوم المواطنة المتساوية وضمان المشاركة السياسية للجميع، وإنشاء آليات للعدالة الانتقالية لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان خلال الحرب، وتضمين مبادئ الحوار والتفاهم المتبادل بين مختلف مكونات المجتمع، وتعزيز دور وسائل الإعلام في نشر قيم التسامح وتيسير الحوار المفتوح وإنشاء مؤسسات وطنية وإطلاق مشروعات لتعزيز التسامح والتعايش السلمي.
واستيعاباً للواقع العسكري الذي فرضته حرب أبريل، ينبغي تعديل الوثيقة الدستورية لتُمكِّن من تقليص النفوذ السياسي للمؤسسة العسكرية تدريجياً، وتعزيز الانتقال إلى حكم مدني ديمقراطي، حيث يصبح دور العسكريين محصوراً في صلاحيات رمزية خلال الفترة الانتقالية، باستيعاب ممثلين محدودين من العسكريين في مجلس السيادة، شريطة ألا يكونوا من الذين كانوا أعضاء في مجلس السيادة السابق. ويساعد في تحقيق ذلك الهدف منح مجلس السيادة الانتقالي صلاحيات رمزية كخطوة مهمة نحو تقليص دور العسكريين في السياسة، مما يساهم في تسهيل خروجهم التدريجي من السلطة وحصر دورهم في حماية الأمن القومي. وتشمل هذه المهام الإشرافية الرمزية جعل مجلس السيادة رمزاً لوحدة الدولة وسيادتها، دون التغوُّل على إدارة الشؤون التنفيذية اليومية التي تُناط بالحكومة المدنية. كما تشمل أيضاً اعتماد تعيينات رئيس الوزراء والوزراء وقضاة المحكمة العليا والنائب العام بعد ترشيحهم من الجهات المختصة، دون التدخل المباشر في اختيارهم. وحتى صلاحيات إعلان الحرب وفرض حالة الطوارئ يُقيَّد المجلس بشأنها باشتراط توصيات من مجلس الوزراء والمصادقة من المجلس التشريعي لإعلان الحرب أو حالة الطوارئ، مما يقلل من إمكانية اتخاذ قرارات أحادية ذات طابع عسكري.
وفيما يلي استعراض للتعديل المحدود على الوثيقة الدستورية الذي يستهدف فقط الفقرات ذات الصلة الجوهرية بتجنيب السودان المآلات الجسيمة لحرب أبريل 2023. وتنطوي هذه التعديلات على تجنُّب فتح المجال لإدخال تعديلات شكلية تمس تماسك الوثيقة وتعيد مكابدة المخاض العسير الذي صاحب صياغة أصلها في عام 2019، وتعديلها عام 2020.
الآليات القانونية لتعديل الوثيقة الدستورية:
أدى عدم التزام كلا المدنيين والعسكريين بتنفيذ الوثيقة الدستورية إلى إضعاف مؤسسات الدولة وتقويض عملية الانتقال المدني الديمقراطي، مما مهد الطريق للأزمات السياسية، وانقلاب أكتوبر ثم حرب أبريل. وقد تجلى عدم الالتزام في تعطيل تشكيل المحكمة الدستورية مما أدى إلى غياب الرقابة على دستورية القوانين وحماية الحقوق والحريات الأساسية، كما كان لعدم تشكيل المجلس التشريعي الأثر في أضعاف الرقابة على السلطة التنفيذية وتعطيل عملية سن القوانين اللازمة للإصلاح. وعليه فإن المضي قدماً نحو التحول المدني الديمقراطي يقتضي اتباع آليات تستمد شرعيتها من الوثيقة الدستورية التي تستند على الشرعية الثورية التي كفلتها ثورة ديسمبر.
إلغاء قرار تجميد الوثيقة الدستورية الصادر في 25 أكتوبر 2021 وإعادة العمل بموجبها:
أدى تجميد الوثيقة الدستورية بواسطة الانقلابيين إلى تعطيل الأجهزة التنفيذية المسؤولة عن التحول المدني الديمقراطي وتنفيذ اتفاق جوبا لسلام السودان. وعليه يجب أن يصدر قرار من الاجتماع المشترك لمجلس سيادة ومجلس وزراء الأمر الواقع بإلغاء تجميد الوثيقة الدستورية الصادر في 25 أكتوبر 2021 وإعادة العمل بموجبها.
تشكيل المجلس التنسيقي المدني-العسكري:
نصت الفقرة 24-1-أ من الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 على اختصاص المجلس التشريعي الانتقالي بسن القوانين والتشريعات، كما نصت في الفقرة 24-3 على أيلولة سلطات المجلس لأعضاء مجلسي السيادة والوزراء إلى حين تكوين المجلس التشريعي. وبالفعل فقد أجاز الاجتماع المشترك لمجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية (تعديل) لسنه 2020، في الجلسة رقم (9) بتاريخ 12 أكتوبر 2020 لاستيعاب أطراف العملية السلمية الموقِعة على اتفاق جوبا لسلام السودان.
إن نقطة الانطلاق نحو دستورية آليات تعديل الوثيقة الدستورية بعد الظرف القاهر الذي خلفته الحرب تتمثل في التشكيل القانوني للمجلس التنسيقي المدني العسكري. حيث يوكل للاجتماع المشترك لمجلس سيادة ومجلس وزراء الأمر الواقع إجازة تعديل المادة (80) من الوثيقة الدستورية 2019 لعام المعدلة في عام 2020 على النحو التالي: "ينشأ مجلس يسمى المجلس التنسيقي المدني العسكري يقوم بمهام تأطير علاقة تنسيقية بين المدنيين والعسكريين تحل محل الشراكة التي سادت بينهما قبل انقلاب أكتوبر 2021. وتمثل في هذا المجلس التنسيقي أطراف الاتفاق السياسي في الوثيقة الدستورية، وأطراف العملية السلمية الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان، والأطراف المسلحة الأخرى غير الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان. ويختص المجلس بتقريب وجهات النظر بين الأطراف المختلفة، وخدمة المصالح العليا للسودان، وضمان نجاح التحول المدني الديمقراطي. ويكون للمجلس التنسيقي المدني العسكري الحق في إصدار اللوائح التي تنظم أعماله".
مدة الفترة الانتقالية:
نظراً لأن الفترة الانتقالية القادمة تتحمل أعباء إخفاقات تجربة الانتقال السابقة منذ سقوط نظام الإنقاذ في أبريل 2019، وأوزار حرب أبريل 2023، فإن عدد سنواتها ينبغي أن يحدد بفترة كافية للإيفاء بعقد اجتماعي بين الدولة والشعب يكسبها الشرعية المطلوبة. وينطوي هذا العقد الاجتماعي على مجابهة الحكومة الانتقالية القادمة لتحديات الانتقال المتراكمة التي تشمل، فيما تشمل، وقف الأعمال العدائية، ومراجعة اتفاقية سلام جوبا، والتسريح ونزع السلاح وإعادة الإدماج، وإدماج الدعم السريع وجيوش الحركات المسلحة في الجيش السوداني، وعودة اللاجئين والنازحين، وإرساء أسس الدولة الناهضة، وتحقيق الاندماج المجتمعي وإدارة العلاقات المجتمعية، وتوفير الوظائف للشباب، والتركيز على حقوق المرأة وترسيخ علاقات إقليمية ودولية ترتكز على تحقيق المكاسب المشتركة (Win-win). وكل ذلك توطئة للشروع في تحقيق الانتعاش الاقتصادي، وتهيئة البيئة الصالحة لقيام انتخابات حرة ونزيهة في إطار تحقيق الانتقال الديمقراطي المنشود.
وعليه تُلْغَي المادة (2) الفقرة (1) من "الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية (تعديل) لسنة 2020 "ويستعاض عنها بالبند الجديد التالي:
(2) تبدا الفترة الانتقالية من تاريخ التوقيع علي التعديل الثاني للوثيقة الدستورية وتستمر لفترة 60 شهراً.
تشكيل مجلس السيادة الانتقالي:
تُلْغَي المادة (4) البند (2) ويستعاض عنه بالبند الجديد التالي:
(2) يشكل مجلس السيادة من 12 عضواً على النحو التالي:
• ثلاثة مدنيون من الكفاءات الوطنية المستقلة يتناوبون على رئاسة المجلس، بحيث يكون كل واحد منهم رئيساً لمدة عشرين شهراً.
• ثلاثة من الكفاءات الوطنية المستقلة تختارهم أطراف العملية السلمية الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان.
• إثنان من الكفاءات الوطنية المستقلة تختارهم الحركات المسلحة غير الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان.
• إثنان عسكريان تختارهم المؤسسة العسكرية على ألا يكونا من الأعضاء السابقين في مجلس السيادة الانتقالي.
• إثنان من الكفاءات الوطنية المستقلة ممثلان لإقليم شرق السودان.
تشكيل مجلس الوزراء الانتقالي:
الإبقاء على المادة (7) البند (1) من "الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية (تعديل) لسنة 2020 مع إضافة كلمة "مستقلة" بعد كلمة وطنية. ويستعاض عنه بالبند الجديد الاتي:
"(1) يتكون مجلس الوزراء من رئيس، وعدد من الوزراء من كفاءات وطنية مستقلة بالتشاور، يعينهم رئيس الوزراء من قائمة مرشحي قوى إعلان الحرية والتغيير، وأطراف العملية السلمية الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان على أن يكون من بينهم نسبة 25٪ تختارهم أطراف العملية السلمية الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان، ويعتمد مجلس السيادة جميع الأعضاء ومن بينهم وزيري الدفاع والداخلية اللذين يرشحهما المكون العسكري بمجلس السيادة."
ويجدر التأكيد أن هذه التعديلات المذكورة على الوثيقة الدستورية تلبي جوهرياً تطلعات الفاعل الأساسي في الساحة السياسية قبل وبعد الحرب المتمثل في لجان المقاومة بإنهاء الشراكة التي سادت المدة المنقضية من الفترة الانتقالية وتؤسس لسلطة مدنية من الكفاءات المستقلة تساعد على تفرغ الكيانات السياسية للاستعداد للانتخابات في نهاية الفترة الانتقالية. بيد أن التعديلات لا تتناقض جوهرياً مع التوجهات المعلنة من بقية أطراف الانتقال المدنية والعسكرية ومكونات العملية السلمية حول مفهومهم لمدنية الدولة.
دور القوات المسلحة خلال الفترة الانتقالية:
إلغاء الفصل الحادي عشر المادة (34) والاستعاضة عنها بما يلي:
المادة (34):
1. الهدف الرئيسي للقوات المسلحة هو الدفاع عن الوطن وحماية حدوده وسيادته، وتتركز مهامها الداخلية في حماية النظام الدستوري والدفاع عن الحكم المدني الديمقراطي، وتلتزم القوات المسلحة بالعقيدة العسكرية الموحدة والولاء للوطن فقط.
2. يدمج في القوات المسلحة الدعم السريع وجميع الحركات المسلحة لتكوين جيش واحد.
3. يحظر انخراط أفراد القوات المسلحة في الأنشطة السياسية أو الحزبية والتأكيد على حيادية القوات المسلحة وعدم انحيازها لأي طرف سياسي.
4. العمل على إنشاء جيش مهني وقومي ملتزم بالعقيدة العسكرية الموحدة.
5. حظر مزاولة القوات المسلحة للأعمال الاستثمارية والتجارية، باستثناء ما يتعلق بالتصنيع الحربي.
6. القائد الأعلى للقوات المسلحة هو الرئيس المدني لمجلس السيادة.
7. تخضع القوات المسلحة لآليات مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية.
الضامنون الدوليون والإقليميون:
تحاشياً لما واجهته الوثيقة الدستورية لعام 2019 من تجاوزات من كافة أطراف العملية الانتقالية المدنية والعسكرية ينبغي أن يشهد على تعديل نصها بعد الحرب ضامنون دوليون وإقليميون يشملون الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوربي ودول الترويكا. ومن الضروري تكفُّل هؤلاء الضامنون بالمساعدة على تحقيق السلام المستدام وعودة اندماج السودان السياسي والاقتصادي في المجتمع الدولي، وما يترتب على ذلك من استئناف انسياب العون المادي والفني. وتقتضي المسؤولية الوطنية من كافة أطراف الفترة الانتقالية المدنية والعسكرية العمل الجاد لجعل ما تبقى من الفترة الانتقالية بيئة يسودها التآلف والتسامح والانسجام توطئة للانتقال المدني الديمقراطي المأمول.
إجازة تعديل الوثيقة قانونياً بواسطة المجلس التشريعي في إطار استكمال أجهزة الدولة:
اشتملت المآخذ على الفترة الانتقالية السابقة عدم استكمال عدد من أجهزة ومؤسسات الدولة التي تشمل المجلس التشريعي، والمحكمة الدستورية، وإصلاح القطاع الأمني، والمنظومة القضائية، مما أدى إلى إضعاف عملية الانتقال المدني الديمقراطي وساهم في تعميق الأزمات السياسية في السودان. حيث تكتسب عملية استكمال أجهزة الدولة أهمية كبيرة بعد الحرب نظراً لتعزيزها للاستقرار السياسي بتجنيب البلاد التبعات الوخيمة للفراغ الدستوري الذي قد يؤدي إلى أزمات متجددة. ومن ناحية أخرى، فإن استكمال الأجهزة يدعم بشكل مباشر عملية الانتقال المدني الديمقراطي بتوسيع قاعدة المشاركة السياسية حيث إن وجود مجلس تشريعي يتيح للقوى السياسية المختلفة المشاركة في صنع القرار ويساعد في الرقابة على أداء الحكومة وضمان الشفافية ويسمح بتطوير القوانين اللازمة لمعالجة التحديات ما بعد الحرب. وعلاوة على ذلك فإن استكمال الأجهزة يضمن الفصل بين السلطات إذ أن إنشاء المحكمة الدستورية والمجلس التشريعي يضمن الفصل بين السلطات ويمنع تركز السلطة في جهة واحدة. كما يساعد استكمال أجهزة الدولة في تحقيق العدالة والمساءلة. فوجود محكمة دستورية ومجلس تشريعي يساعد في محاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب ويقود لتعزيز سيادة القانون عن طريق استكمال الأجهزة القضائية التي تضمن العدالة للجميع. كما أن المحكمة الدستورية تلعب دوراً حاسماً في حماية الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين. وعليه فإن استكمال أجهزة الدولة يعد خطوة حاسمة في عملية إعادة بناء السودان بعد الحرب، ويساهم في تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يحتاجه السودان في هذه المرحلة الحرجة من تاريخه.
melshibly@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: التحول المدنی الدیمقراطی المدنیین والعسکریین ل المدنی الدیمقراطی المدنیة والعسکریة الفترة الانتقالیة المحکمة الدستوریة السیادة والوزراء الحریة والتغییر المجلس التشریعی الانتقال المدنی عملیة الانتقال القوات المسلحة مجلس السیادة ثورة دیسمبر من الوثیقة بما فی ذلک حرب أبریل بعد الحرب وعلیه فإن أکتوبر 2021 فی تنفیذ فی تحقیق فی عام التی ت عام 2019 عام 2020
إقرأ أيضاً:
نظام رعاية صحية في السودان يئن تحت الحرب
مع استمرار الحرب في السودان، يعيش القطاع الصحي أزمة غير مسبوقة، مع نقص الأدوية والعاملين الصحيين، والاستهداف للمؤسسات الصحية من قبل قوات الدعم السريع.
التغيير ـــ وكالات
ومنذ منتصف أبريل 2023، يخوض الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة الانتقالي قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، حربا خلفت أكثر من 20 ألف قتيل وما يزيد على 14 مليون نازح ولاجئ، وفق الأمم المتحدة والسلطات المحلية، بينما قدر بحث لجامعات أميركية عدد القتلى بنحو 130 ألفا.
واندلعت حرب السودان قبل انتهاء عملية سياسية بناء على “الاتفاق الإطاري” الذي وقعه في 5 ديسمبر 2022 المكون العسكري في السلطة الانتقالية آنذاك وقوى مدنية أبرزها “الحرية والتغيير-المجلس المركزي”، وفشلت فيها الأطراف بحل مسألة دمج الدعم السريع داخل المؤسسة العسكرية.
استهداف الدعم السريع للقطاع الصحيتشير عدة تقارير إلى استهداف قوات الدعم السريع للمنشآت الصحية في السودان. على سبيل المثال في ديسمبر 2024 قالت منظمة أطباء بلا حدود، إن قوات الدعم السريع استهدفت مستشفى بشائر جنوبي العاصمة السودانية الخرطوم، بإطلاق جنودها الرصاص داخل المستشفى.
وأوضحت المنظمة الدولية، في بيان: “أطلق المهاجمون النار داخل قسم الطوارئ، وهددوا الطاقم الطبي بشكل مباشر، وعطلوا الرعاية المنقذة للحياة بشكل خطير”.
وأضافت: “ندين بشدة التوغل العنيف لقوات الدعم السريع في غرفة الطوارئ بمستشفى بشائر التعليمي في جنوب الخرطوم” الأربعاء.
ودعت المنظمة قوات الدعم السريع إلى احترام حياد المرافق الطبية وسلامة العاملين في مجال الرعاية الصحية.
وفي البيان، قال رئيس بعثة أطباء بلا حدود في السودان صامويل ديفيد ثيودور: “دخل العديد من جنود قوات الدعم السريع غرف الطوارئ وبدأ بعضهم في إطلاق النار على العاملين الطبيين، وهددوا المرضى وموظفي أطباء بلا حدود ووزارة الصحة”.
وفي أغسطس 2024 قالت وكالة الأنباء السودانية إن قوات الدعم السريع قصفت مستشفى الدايات في أم درمان والمناطق المجاورة له. وأوضحت الوكالة أن عددا كبيرا من القذائف سقطت في المنطقة وألحقت دمارا واسعا بالمباني.
وأشارت إلى أن لجنة الطوارئ الصحية لولاية الخرطوم دانت القصف واعتبرته دليلا آخر على استهداف قوات الدعم المرافق الصحية وتعطيل جهود تقديم الخدمات العلاجية للمواطنين.
وقال محمد إبراهيم رئيس اللجنة الناطق الرسمي باسم وزارة الصحة بولاية الخرطوم إن قوات الدعم قامت -في وقت سابق- بنهب واسع لأجهزة ومعدات مستشفى الدايات الذي يعد أكبر مستشفى تخصصي بالبلاد.
فظائع و إنتهاكاتوقبل أيام، نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية أدلة مدعومة بمقاطع فيديو، جمعها فريق التحقيقات المرئية التابع لها، توثق فظائع قالت إن قوات الدعم السريع ارتكبتها في السودان خلال عام ونيف منذ اندلاع الحرب بينها وبين الجيش السوداني في 15 أبريل 2023.
وتكشف الأدلة المرئية التي جمعتها الصحيفة الأميركية وحللتها على مدى أشهر، هويات قادة قوات الدعم السريع الذين كان جنودهم يرتكبون “فظائع” تحت أنظارهم في جميع أنحاء السودان.
وقالت إن هذا التحقيق الاستقصائي الموثق بلقطات مصورة، أتاح لها تحديد 10 من قادة قوات الدعم السريع أثناء إشرافهم على جرائم حرب محتملة وتحديد مواقع العديد من مسارح عملياتهم الأخرى، منوهة إلى أن قائدهم الأعلى الفريق محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي، هو الذي قد يتحمل المسؤولية الكاملة.
انعدام الأمن
وتقول منظمة الصحة العالمية إن انعدام الأمن يجعل تقديم الرعاية الصحية أكثر صعوبة. فأكثر من ثلثي المستشفيات الرئيسية في المناطق المتضررة أصبحت خارج الخدمة، والمستشفيات التي لا تزال تعمل معرضة لخطر الإغلاق بسبب نقص الموظفين الطبيين والإمدادات والمياه النظيفة والكهرباء. كما أن الهجمات المتكررة على مرافق الرعاية الصحية تمنع المرضى والعاملين الصحيين من الوصول إلى المستشفيات والحصول على العلاج، حيث يتم استهداف المرافق الصحية والمستودعات الطبية ونقل الإمدادات والعاملين الصحيين. كما تعطل نظام مراقبة الأمراض، مما يشكل تحديا خطيرا للكشف عن تفشي الأمراض المعدية وتأكيدها..
وتضيف المنظمة -في منشور على موقعها تم تحديثه آخر مرة في 16 ديسمبر 2024- أن ملايين الأشخاص قد نزحوا منذ بداية الصراع، داخل السودان ولكن أيضا في البلدان المجاورة، حيث فر الناس بحثا عن الأمان، في تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى ومصر وإثيوبيا وجنوب السودان.
وتعمل منظمة الصحة العالمية، بالتعاون مع شركائها في مجال الصحة، بشكل مكثف على تنسيق الاستجابة الصحية، وتعزيز الرعاية.
الصليب الأحمرمن جهتها، تقول اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن الهجمات المتكررة على المرافق الصحية والعاملين فيها لها عواقب وخيمة في ظل تفاقم أزمة الغذاء. وتعتبر مراكز الرعاية الصحية بالغة الأهمية للوقاية من سوء التغذية واكتشافه وعلاجه. كما أن قدرتها على العمل أمر حيوي بالنسبة للفئات الأكثر ضعفا، بما في ذلك الأمهات الحوامل والمرضعات والأطفال دون سن الخامسة.
وتقول أميلي شباط، التي تشرف على البرامج الصحية للجنة الدولية للصليب الأحمر في السودان: “إن الوضع في العيادات الصحية لا يمكن وصفه بالكلمات. فالمصابون يفتقرون إلى الأدوية والغذاء والمياه، وكبار السن والنساء والأطفال محرومون من العلاجات الأساسية مثل غسيل الكلى أو أدوية مرض السكري. والوضع يتدهور”.
ووردت العديد من التقارير عن نهب وتخريب المرافق الصحية، والتهديدات والعنف الجسدي ضد الموظفين والمرضى، وحرمان المدنيين من خدمات الرعاية الصحية.
نظام صحي يعيش أزمة
نشرت المجلة الطبية البريطانية “بي إم جيه” (BMJ) تقريرا تحت عنوان “السودان.. من حرب منسية إلى نظام رعاية صحية مهجور” (Sudan: from a forgotten war to an abandoned healthcare system) في أكتوبر/تشرين الأول 2024.
وقال الباحثون أمل الأمين، سارة عبد الله، عبدة العبادي، المغيرة عبد الله، عبدة حكيم، نعيمة وقيع الله، جون باستورأنسا، إن السودان يواجه أسوأ أزمة إنسانية ناجمة عن الصراع في العالم، مع أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم.
وأدت الحرب إلى تدمير البنية التحتية للرعاية الصحية في السودان، مما أدى إلى إغلاقات وانقطاعات في الخدمات الطبية، وخاصة في المناطق المتضررة من الحرب.
وتدفع الحرب البلاد إلى أزمة صحية ناشئة، مع الانتقال من عبء مزدوج إلى رباعي من الأمراض، بما في ذلك الأمراض المعدية وغير المعدية والإصابات الجسدية والصدمات.
وقال الباحثون إنه اعتبارا من فبراير 2024، يوجد في السودان 6.8 ملايين نازح داخلي، ينحدرون من 12 ولاية من أصل 18 ولاية في البلاد، ويعيش 19% منهم في مستوطنات غير رسمية، مما يجعلها أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم، متجاوزة أزمة سوريا.
بالإضافة إلى ذلك، نزح 1.5 مليون شخص خارج البلاد، ويحتاج 24.8 مليون شخص، أي ما يقرب من نصف سكان البلاد، إلى مساعدات إنسانية وحماية. علاوة على ذلك، يواجه السودان جوعا حادا، حيث يعاني 18 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بما في ذلك 4 ملايين طفل دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية.
التأثير على نظام الرعاية الصحية
واجه النظام الصحي في السودان قبل الحرب، والذي يشمل إطار “مكونات” النظام الصحي لمنظمة الصحة العالمية – تقديم الخدمات، والتمويل، والقوى العاملة الصحية، والإمدادات الطبية، وأنظمة المعلومات الصحية والحوكمة- العديد من التحديات.
وقال الباحثون إن نظام الرعاية الصحية كان يعاني -قبل الحرب- من نقص التمويل، ويتسم بنقص حاد في القوى العاملة الصحية، فضلا عن التفاوتات الكبيرة في الوصول إلى الرعاية وجودتها وبأسعار معقولة.
وكان على 95.94% من السكان أن يدفعوا من جيوبهم الخاصة مقابل خدمات الرعاية الصحية. بالإضافة إلى ذلك، واجهت البلاد نقصا حادا في القوى العاملة الصحية، في عام 2019، بلغت كثافة الأطباء والممرضات والقابلات وغيرهم من العاملين الصحيين 3.6 و14 و9.1 لكل 10 آلاف شخص على التوالي، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى لكثافة منظمة الصحة العالمية البالغ 22.8 من المهنيين الصحيين.
ومع ذلك، كانت البلاد تتقدم ببطء نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وأدت الحرب الحالية إلى تدهور النظام الصحي بشكل أكبر وأدت إلى ظهور تحديات جديدة أبرزها في تقديم الخدمات والقوى العاملة الصحية. وتأثرت البنية التحتية الصحية بشكل كبير، حيث أفادت منظمة الصحة العالمية أن 70% من مرافق الرعاية الصحية العامة والخاصة في الولايات المتضررة من الحرب أجبرت على الإغلاق بحلول نهاية عام 2023.
وزارة الصحة الاتحادية السودانيةتشير بيانات وزارة الصحة الاتحادية السودانية إلى أن أكثر من 30% من المستشفيات العامة لم تعد في الخدمة في غضون عام من بدء الحرب. وعانت ولاية الخرطوم، مركز الصراع، من أكبر التأثيرات على نظامها الصحي. ومع اندلاع الصراع المسلح، لجأ الآلاف من السكان والمرضى من ولاية الخرطوم إلى ولاية الجزيرة، الواقعة على بعد نحو 200 كيلومتر جنوب شرق الخرطوم، وقد جذبتهم بنيتها التحتية الطبية المتاحة نسبيا وقربها. ومع ذلك، بحلول نهاية عام 2023، انتشر القتال إلى ولاية الجزيرة، مما عرض للخطر ليس فقط سكانها ولكن أيضا النازحين والمرضى الذين فروا إلى هناك بحثا عن الأمان. وعلى غرار ولاية الخرطوم، حيث أجبر 58.5% من المستشفيات العامة على الإغلاق، أدى توسع الصراع إلى ولاية الجزيرة إلى تكرار الهجمات ونهب المرافق الطبية. ونتيجة لذلك، أغلقت العديد من المستشفيات في ولاية الجزيرة (56.2% من المستشفيات العامة) أو أجبرت على تقليص خدماتها، مما أدى إلى تفاقم ظروف النازحين الحاليين.
وتقع مناطق أخرى متأثرة بالصراع في الأجزاء الجنوبية والغربية من البلاد، وخاصة في دارفور وكردفان. وفي هذه المناطق، تأثرت القدرات التشغيلية للمستشفيات في بعض الولايات بدرجات متفاوتة. تحملت ولاية وسط دارفور وطأة التأثير، حيث أجبر نحو 40% من مستشفياتها العامة على الإغلاق، وشهدت اضطرابات شديدة في تقديم الخدمات الطبية. وفي الوقت نفسه، واجهت شمال دارفور والنيل الأبيض وشمال كردفان تحديات معتدلة نسبيا، حيث أجبر 33% و26.8% و16.2% من مستشفياتها العامة على الإغلاق، على التوالي.
في هذه الولايات المتضررة من الصراع، تضطر المرافق الطبية إلى الإغلاق بسبب تضافر عوامل: انعدام الأمن المستمر، وتدمير ونهب المرافق الطبية، ونقص حاد في العاملين في مجال الرعاية الصحية، والتحديات في شراء الإمدادات الأساسية. على سبيل المثال، في المناطق المتضررة من الحرب حيث نهبت سيارات الإسعاف، لجأ السكان إلى استخدام عربات الحمير وعربات اليد كسيارات إسعاف مؤقتة لنقل المرضى.
وتعرضت أنظمة المعلومات الصحية في البلاد للخطر الشديد بسبب الاستهداف المتعمد لأنظمة الاتصالات والمعلومات الصحية، إلى جانب العنف ضد العاملين في مجال الرعاية الصحية. جعلت هذه الاضطرابات المستهدفة جمع البيانات والاتصالات أمرا صعبا للغاية، مما أعاق جمع بيانات أساسية حاسمة لنظام الصحة.
التحديات الجديدة
قبل الحرب، كان الوضع الصحي في البلاد يتميز بعبء من الأمراض المعدية والأمراض غير المعدية، ولم تؤد الحرب إلى تدهور الوضع الصحي المتدهور في السودان فحسب، بل جلبت أيضا تحديات صحية جديدة، مثل الإصابات الجسدية والصدمات المرتبطة بالصراع.
يشير هذا إلى انتقال خطير من عبء مزدوج من الأمراض إلى عبء رباعي – يشمل الأمراض المعدية والأمراض غير المعدية والإصابات الجسدية والصدمات – مما أدى إلى تفاقم الأزمة الصحية.
وقد أدى ارتفاع عدد النازحين داخليا وانهيار الصرف الصحي البيئي إلى تفاقم عبء الأمراض المعدية بشكل كبير. ويتجلى هذا الوضع المتدهور في تفشي الكوليرا والحصبة وحمى الضنك وحمى شيكونغونيا وحتى ارتفاع حالات داء الكلب في المناطق التي مزقتها الحرب.
من المتوقع أن تزيد الحرب من مشاكل الأفراد الذين يعيشون مع الأمراض غير المعدية وزيادة قابلية العديد من الآخرين للإصابة بها. وتشمل العوامل التي تؤدي إلى تفاقم هذا النزوح وعدم الاستقرار، مما يؤدي إلى محدودية الوصول إلى الخدمات الطبية للفحص والمتابعة، والتحديات في الحصول على أدوية الأمراض المزمنة، وانقطاع العلاج والصعوبات في تخزين الأدوية مثل الأنسولين بشكل مناسب بسبب انقطاع التيار الكهربائي.
مبادراتيقول الباحثون إنه على الرغم من التحديات المستمرة، كانت العديد من المبادرات ضرورية في دعم خدمات الرعاية الصحية والتخفيف من حدة الأزمات الإنسانية. وقد اجتذبت الجهود التي تقودها المجتمعات المحلية، ولا سيما المطابخ الخيرية المحلية التي تقدم وجبات مجانية للأفراد المحاصرين في مناطق الصراع، دعما كبيرا من الشتات السوداني، مما يسلط الضوء على الدور الأساسي للمشاركة المجتمعية في تخفيف المعاناة.
وقد دعت مبادرات أخرى مثل “نداء إعادة بناء وتأهيل المستشفيات” و”نداء الوقاية من سوء التغذية لدى الأمهات والأطفال”، الذي أطلقته وزارة الصحة الاتحادية إلى الدعم من الجهات المانحة المحلية والإقليمية والدولية. وقد حظيت هذه المبادرات بمشاركة مجتمعية كبيرة، واستقطبت مساهمات كبيرة من منظمات المجتمع المدني والجمعيات المهنية مثل جمعية الأطباء السودانيين الأميركيين (SAPA)، وجمعية الأطباء السودانيين في قطر.
وعلى الرغم من الجهود الوطنية المبذولة، فلا يزال نظام الرعاية الصحية في السودان أثناء الحرب يواجه تحديات كبيرة. وتشمل هذه التحديات صعوبات في التنفيذ والتنسيق، وبنية تحتية هشة للمعلومات الصحية، والقيود الناجمة عن الموارد المحدودة وغير المستقرة والمجهدة، ونقص العاملين في مجال الرعاية الصحية. وعلاوة على ذلك، تعاني الأزمة الإنسانية في السودان من نقص حاد في التمويل، حيث تقل تعهدات المانحين بشكل مثير للقلق عما هو مطلوب. يتم تمويل 5% فقط من نداء الأمم المتحدة للمساعدات للسودان، مما يترك فجوة مذهلة تبلغ 2.56 مليار دولار.
ويقول الباحثون إن الصراع في السودان تسبب في أزمة إنسانية وصحية قاتمة. إن النزوح الجماعي والجوع الحاد والآثار النفسية والجسدية للحرب، إلى جانب تعطيل تقديم الخدمات الصحية بسبب إغلاق المستشفيات، كل ذلك يؤكد الحاجة الملحة إلى استجابة دولية قوية.
وعلى الرغم من هذه الظروف الخطيرة، فإن المرونة والإبداع اللذين أظهرهما العاملون الصحيون والمجتمعات السودانية جديران بالثناء.
ويختم الباحثون بالقول “لا ينبغي للمجتمع الصحي العالمي أن يسمح للسودان بأن يصبح “حربا منسية” – يجب تجنب هذا السيناريو، بدءا من استعادة نظامه الصحي”.
الوسومالجيش الدعم السريع النظام الصحي تدهور مستشفيات