حلم الطيور، النور .. عندما يكون النزوح فعل مقاومة
تاريخ النشر: 7th, January 2025 GMT
إبراهيم برسي
١٥/يونيو ٢٠٢٤
حين ينكسر صمت الأرض، تتشقق مساماتها كأنها تئن حزنًا وأسًى تحت وطأة خشخشة أقدام العابرين.
يلفهم صمت يشبه فحيحًا خافتًا، كأنه صوت الأرض تروي حكايات قديمة عن رحيل لم يتوقف قط.
تُصبح خطوات العابرين كأنها جسرًا بين ما لا يمكن قوله وما لا يمكن نسيانه وسط إيقاع الهروب.
في كل لحظة تتحرك فيها الجموع الوجلة، يندفع الزمن للخلف، كأنه يعيد صياغة أوجاع ماضية.
الأرض، القاسية والساكنة، تبدو كمرآة للحيرة التي تملأ عيونهم.
كأن كل خطوة تفتح نافذة إلى فراغ لا نهاية له.
يمضون وكأن الأرض تبتلع أثرهم، الواحد تلو الآخر.
خطواتهم ليست فقط عبورًا مهولًا؛ إنها بصمات على جسد الصمت، علامات على الخراب الذي لا يُرى.
ولكن تكاد تذوب فيه كل روح تخطو، كأن المسافة نفسها تبتلعهم بصمت.
تلك الأقدام، التي لا تعرف السكون، تحمل داخلها سؤالًا لا ينتهي:
هل نحن من يسير، أم أن الأرض هي التي تقودنا إلى حيث لا نعلم؟
في كل نبضة، تنكسر لحظة جديدة.
وفي كل خطوة، يُعيدون ترتيب فراغ العالم، كأنهم يحاولون منح المعنى لشيء لا معنى له.
يمضون، وليس لهم حتى ترف الوقوف.
تحت أقدامهم، بدت القسوة نفسها وكأنها تحاول احتضان خطواتهم.
كل خطوة كانت تُثقل الأرض بذاكرة متكسرة، كأنها تناجي تلك الخطوات ألا تتركها وحدها في صمتها الموجع.
صمت يشبه عزاءً معلقًا بين الفناء والخلود.
كل خطوة كانت حوارًا صامتًا مع التراب، كأنها تحمل إيقاع الخوف الذي يتسرب من صدورهم مع كل نبضة.
زمن فقد اتجاهاته، يدور حول نفسه كدوامة تبتلع كل ضوء، وتترك فقط آثار الغياب على وجه الأرض.
زمن لا يملك سوى صدى نفسه، يدور في دائرة أبدية، بلا بداية ولا نهاية، ليحملهم معه كذاكرة لا تكتمل.
خطواتهم تحمل وقعًا يشبه أنينًا مكتومًا، صوتًا يتجاوز الصمت لكنه لا يجرؤ على أن يكون صراخًا.
لم يكن هناك سوى وجيف الخُطى على التراب، لكنه متخم بذاكرة مثقلة بالأسى والمرارات.
كأنه يضيق بالروايات الحزينة: بيت أطفأته النار، شجرة أحنتها الرياح، وأسماء غابت في العدم.
كأن تلك الخطوات تخط على الأرض ما لا تستطيع الصرخات أن ترويه، بينما تواجه حضورها العاري وسط فراغ لا حدود له.
عيون النساء، متجمدة كأنها نوافذ مفتوحة على عوالم تهدمت.
عيون الرجال، مثقلة بالعار والصمت، تهرب من كل نظرة، كأنها تخشى انكسارها الأخير.
لم يبقَ لهم سوى الصمت كدرع هش يحمي آخر ما تبقى من أرواحهم.
لم يكن سؤالهم:
“كيف تعيش بعد أن تُسلب منك وسائل الدفاع عن ذاتك؟”
بل:
“كيف تبقى إنسانًا عندما تُجبر على أن تكون شاهدًا على تحطيم كل ما تحب؟”
الأطفال، كانت عيونهم تسأل دون أن تنطق، كأنها مرايا صغيرة تعكس خوفًا غريبًا يسكن قلوبهم.
كانوا بين مطرٍ قارس يحفر في وجوههم خرائط من البؤس، وشمسٍ لاهبة تُلهب أكتافهم، ورياحٍ باردة تُذكّرهم بعبء الحياة التي لا تهدأ.
كل موسم كان يغزو أجسادهم كأنه عدو جديد، يزيد أثقالهم ويترك في أرواحهم ندوبًا لا تلتئم.
خطواتهم المسرعة الواهية تطبع على الأرض ما تعجز اللغة عن وصفه.
إنها ليست مجرد سير، بل احتجاج صامت ضد العبث.
وكل نبضة من وقع أقدامهم تخترق القلوب، كأنها تنقل صرخة مكتومة لكل من يستطيع أن يشعر.
بين حين وآخر، كانت الريح تنقل رمادًا عالقًا بذاكرة الأرض.
كأنها رسائل شبحية تُذكرهم بما ضاع، أو ربما تسخر من محاولاتهم المستميتة لحمل بقايا ما كانوا عليه.
وفي الخلف، بعيدًا عن وقع أقدامهم المُرهفة المرهقة، كانت الأحذية الخشنة تضرب الأرض كأنها جائحة بلا ملامح.
تُعلن قدومها فتترك الارض تنزف صمتًا تحت وطأتها.
خطوات الجنود لم تكن مجرد حركة همجية غاشمة؛ كانت تجسيدًا للقسوة العمياء التي تجعل الأرض تنزف كل صوت.
كل خطوة من خطواتهم كانت صفعة تُخبر النازحين بأن العالم لم يعد يتسع للحياة والسلام معًا.
وأن الإنسانية حين تفقد روحها، تصبح آلة هدم بلا رحمة، تُعيد تشكيل الأرض وفق قوانين القسوة.
الطريق الذي ابتلع النازحين لم يكن مجرد مسار، بل أفق متصل بالصمت.
يشهد دون أن ينطق، كأنه دفتر الزمن يسجل خطواتهم كدموع تُخطُّ على ذاكرة الأرض.
النزوح، في عمقه، لم يكن انتقالًا، بل كان مواجهة مع فراغ يحاصر كل شيء.
اختبارًا للروح حين لا تجد مكانًا إلا في المجهول.
النساء اللواتي يمضين في صمت يشبه الصراخ المكتوم، عيونهن تطارد صورًا من زمن لم يعد موجودًا.
يحملن في خطواتهن أعباء لا تُحمل: أرواح تم اغتصابها قبل الأجساد، وذاكرة تتحول إلى شوكة كلما حاولن نسيانها، وسؤال كاللعنة:
كيف أصبحت الأجساد ساحات حرب؟ وكيف صار الخنوع فعل مقاومة؟
الأطفال، ظلالًا صغيرة تتشبث بالأيدي المرتجفة.
خطواتهم ليست خطى، بل ارتعاشات ترسم على التراب أثقالًا لا تطابق أعمارهم.
كل نظرة منهم كانت تسرق الضوء من السماء، كأنهم يسألون:
“لماذا لم تعد السماء تحمينا وأين هو الإله؟”
تنهيدة خفية تسللت من صدر امرأة تحمل طفلها، كأنها تُخرج ألمًا عالقًا في حنجرتها.
تلك التنهيدة لم تكن مجرد صوت؛ كانت نافذة صغيرة على روح ترفض أن تغرق في الألم.
والدمعة التي انحدرت من عينها، لم تكن مألوفة، بل بدت كنداء خافت للسماء.
تفيض ببطء كأنها تقول:
“أنا هنا، رغم كل شيء، فأين أنت؟”
وتستمر القافلة في سيرها بخطوات لها طموح الهرولة.
استمرارهم لم يكن مجرد انتقال، بل كان فعل بقاء يُثقل كل خطوة.
كان احتجاجًا على العدم، ورغبة صامتة في ألا يُبتلعوا في ظلام النسيان.
النهاية ليست في السقوط، بل في التخلي عن القدرة على الوقوف مرة أخرى.
كما أنها ليست في الفناء، بل في الانطفاء الداخلي الذي يُسكت صوت الروح.
كان النازحون يمضون كأنهم يحملون العالم فوق أكتافهم، لا ليتحدوه، بل ليقولوا له:
نحن هنا، نحن جزء منك، ولن نختفي.
إنهم يعلمون، أن كل خطوة للنجاة ليست بالضرورة وعدًا بالوصول، بل هي فعل الإصرار على الاستمرار.
إنها إعلانٌ بأن الحياة، مهما قست، تظل تستحق أن تُعاش.
وأن الأمل، حتى حين يبدو سرابًا، هو ما يجعل العابرين أكثر من مجرد ظل على الأرض.
كل خطوة كانت تمضي بهم أبعد عن الماضي وأقرب إلى اللا يقين، لكنها أيضًا كانت تترك أثرًا على التراب.
كأنها توقيع أخير على عقد مع الحياة:
رغم الجراح، رغم الفقد، نحن باقون، ليس كأجساد فقط، بل كأحلام تمشي على الأرض.
Sent from Yahoo Mail for iPhone
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: على الأرض کأنها ت کل خطوة کانت ت لم یکن
إقرأ أيضاً:
مجرد رقم " الأخيرة"
السعادة هى فن نصنعه بأيدينا، وكذلك التعاسة، قد يعترض كثيرون على مقولتي، مما يجعلني أطرح سؤالا يبدو تقليدي لكنه مهم كوجود الإنسانية جمعاء، "هل يصنع الإنسان حياته وقدره "، نعم يصنع الإنسان حياته وقدره، وأستثني بالطبع من هذا موعد ميلاده وموته، أما رزقه فهو مرتبط بسعيه، وقد لا يأتيه رزقه المالي قدر سعيه مما يغضب له الإنسان ويشعره بعدم عدالة السماء" والعياذ بالله" ، ولكنه لا ينتبه إلى أنه يأخذ رزقه كاملا في باقي نعم الله عليه بها من ستر، صحة، أسرة طيبة، زوجة أو زوج صالح، أولاد، مركز إجتماعي أو علم نافع، وهكذا، وقد لا يدرك كثيرون أن رزق المال هو أدنى الأرزاق، وكم من أثرياء حرموا اشياء كثيرة منها الصحة مثلا مما افقدهم متعة المال، يصنع الإنسان حياته بإختياراته من خلال عقله الذي ميزه الله به عن سائر مخلوقاته، يختار طريق الخير والصلاح لنفسه ولغيره، أو طريق الشر، فقد هدانا الله النجدين لنختار، أما مسألة أننا مسيرون وكل ما نعيشه مقدر ومكتوب، فهو أمر يخلط به الناس مسألة أن المكتوب لا يعني أن الله كتب لنا طريقنا في الحياة بالقلم والمسطرة لنسير عليه مغمضي العينين، بل يعني أن الله يعلم وهو عالم الغيب، يعلم ما سيفعله كل مخلوق من مخلوقاته في حياته، وكيف سيتصرف في النعم التي أنعم عليه بها، وإلا لو كنا نسير وفق خطة مسبقة وضعها الله لنا، لما جعل هناك ثواب وعقاب وجنة ونار، وهي قضية قديمة حسمها الأئمة والشيوخ، لكنى أوردها هنا لزوم ما أريد قوله لنفسي أولا قبل أن اقوله لكم، أن الإنسان هو من يختار كيف يسير حياته، ليس فقط في الدراسة و العمل والتعامل مع البشر غيره لتحقيق مستقبل ناجح وتحدي صعوبات الحياة بإرادة قوية، بل هو من يختار كل تفاصيل حياته، حتى وقوعه في الحب هو إختيار مسبق له، لأن الإنسان يضع في اللاوعى إشتراطات للشخص الذي يمكن أن يحبه فتاة أحلام، فارس أحلام، فإذا صادف هذا الشخص تلاقى هواه النفسي مع الواقع، فوقع في الحب معتقدا أنه لم يختار وأن القدر إختار له هذا الحبيب بكل ما به من خير أو شر قد يتكشف فيما بعد.
ولأن الله سبحانه أورثنا الأرض بعد أن نفخ فينا من روحه، فلا يصح أن نهمل ونتغافل ونتكاسل، ونلقى بلائمة الفشل في حياتنا على ما كتبه الله لنا وأن هذا هو قدرنا، فهذه أكذوبة نعلق عليها تقاعسنا، فهناك ملايين النماذج في الحياة خلقها الله بعجز وإعاقات لكنها تحدت وحققت نجاحات سجلها التاريخ، وأسوق مثلين فقط، ستيفن وليام هوكينج اشهر عالم فيزياء ولد قعيدا ومعاقا، ولم يستسلم لعجزه، طه حسين لو استسلم لظروف بيته وفقدان بصرة لجعل حياته كلها عتمة وظلاما، ولم يصبح وزيرا ولا عميد الأدب العربي ولم يعرفه العالم، إذا عدم إشتراط الإنسان على الله إكتمال النعم ليسعى وينجح ويسعد في الحياة، هو الرضا الذي يمنح النجاح و السعادة، وإيلاف النعم أي إعتيادها يفقد الإنسان الشعور بها وبأهميتها، فيشعر بالضجر من حياته وعدم الرضا ويطلب المزيد من الله، ولا يتأدب حتى في طلبه من الله بل يطلبها ساخطا غاضبا منكرا كل ما وهبه الله من نعم أخرى، ويوقف كل رضاه وسعادته على ما غاب عنه.
هؤلاء البشر معتادي النعم منكروا فضلها، لو حرمهم الله من نعمة فقط مما إعتادوها كأن يفقد عينا او يدا، جزء من جسده، أو يصاب بمرض يجعله غير قادر حتى على تناول ساندويتش فول كان يزهده ويستنكر تكرار طعمه من قبل بسبب ضيق ذات اليد، عندها سيفيق من غفلته ويتنبه أن الله أسبغ عليه نعما لا تحصى، ومن معتادي النعم من يملأ حياته تشاؤما وبكاء ونواحا مما يلقى به في أتون الشيخوخة والمرض بسرعة بسبب عشقه للهم والغم وتضخيم المشاكل وتهويل الصغائر، ويمكن لشاب أن يصبح عجوزا لهذه الأسباب، فيما يمكن لعجوز ان يظل شابا في مظهره وصحته لتمسكه بالتفاؤل والطاقة الإيجابية والرضا بعطايا الله وحمده وشكره.
مؤمنة أنا بأن عاشق البهجة ستأتية السعادة من حيث لا يدري ولا يحتسب، ومعتنق الحزن سيأتيه الهم والغم من حيث لا يدري أيضا، من يضخم المشاكل ستتضخم، ومن يهون منها ويعمل ما عليه وترك الامر لله مدبر كل أمر ستهون المشاكل وتنفك العقد، مؤمنة ان العمر مجرد رقم في البطاقة، ويمكننا العيش بقلب طفل إذا ما فعلنا ما علينا وفوضنا امرنا لله ونشدنا الرضا وراحة البال ،إجمالا، عاشق الحزن سيحزنه الله، ومحب الفرحة سيرسل الله له الفرح وبصورة بسيطة كالمعجزات، من يتمارض سيمرضه الله لأنه انكر نعمة الصحة، ومن حارب مرضه بالإبتسام والرضا مع الأخذ بأسباب الشفاء سيشفيه الله أو على الأقل سيخفف عنه وطأة المرض، من عاش خائفا من الفقر فهو عبد للشيطان لأن الشيطان هو الذي يعد عباد الله بالفقر ويخوفهم منه، ومن عاش واثقا في غنى الله له بالحلال ولم يهرول للحرام لثقته أن الله سيستره في أحلك أوقاته، سيستره الله بالفعل ويرسل له الرزق الحلال من حيث لا يدرى أو على الأقل لن يدعه في ضائقة الحاجة والذل وسيفرجها عليه ويكفية بما رزقة بإسدال البركة، فمن صبر على الإبتلاء واعتقد إيمانا في قول الله تعالى:" وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " ، سيرى الخير قادما من قلب ما اعتقد أنه شر، وسيرى النور قادم من حلكة الظلام.
إصنع من أحلامك فراشات واطلقها حولك لتحلق في دائرة من النور، وستجد أن أحلامك تتحقق باذن الله، وسيطوع الله لك كل طاقة الكون والخلق لتتحقق أحلامك مهما طال الإنتظار، فقط إفعل ما عليك من عمل وجهد وحركة في الحياة فليس للإنسان إلا ما سعى، ولا تهنوا ولا تحزنوا، ولا تراقبوا عدد السنين من أعماركم لأنها مجرد رقم .
[email protected]