خلف نظام بشار الأسد بعد سقوطه وهروبه إلى روسيا دولة مدمرة ومنهارة من حيث البنية التحتية، وتحتاج لسنوات طويلة لإعادة البناء على كافة الأصعدة، مما يضع الحكومة الجديدة وما سيتبعها من حكومات أمام تحديات كبيرة لبناء الدولة.

ومن الملفات ذات البعد الإستراتيجي الذي يستدعي من الإدارة الجديدة إيجاد حلول سريعة لها، هو تأمين مستوى مستقر من أمن الطاقة، لأن أي خلل فيه يؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي ويؤخر من عملية التنمية في البلاد.

واقع النفط السوري

تقدر احتياطيات النفط السوري المؤكدة في آخر إحصائية لعام 2015 بنحو 2.5 مليار برميل وفقا لما نشرته مجلة الطاقة الأميركية المتخصصة. وفي الفترة التي سبقت عام 2011، بلغ متوسط إنتاج النفط 350 ألف برميل يوميا.

وكانت سوريا تصدر 150 ألف برميل يوميا من النفط الخام، والباقي كان يوجه إلى مصافي حمص وبانياس التي تبلغ قدرتها الاستيعابية للتكرير 240 ألف برميل يوميا.

وبلغ متوسط الاستهلاك 350 ألف برميل يوميا، وكانت سوريا تستورد متوسط 105 آلاف برميل يوميا من المكثفات (ديزل، بنزين، كيروسين).

وتمتلك سوريا 3 موانئ للتصدير والاستيراد على البحر الأبيض المتوسط وهي طرطوس واللاذقية وبانياس.

إعلان

ماذا عن الغاز؟

وسجلت كمية الاحتياطيات المؤكدة للغاز في سوريا 8.5 مليارات متر مكعب بحسب إحصائيات عام 2015، كما بلغ متوسط حجم الإنتاج اليومي من الغاز غير المصاحب للنفط 250 مليون متر مكعب، وهو ما يشكل 58% من إنتاج سوريا للغاز، في حين بلغ إنتاج الغاز المصاحب للنفط 28% حيث يأتي غالبيته من منطقة شرق الفرات.

عقبات في وجه استغلال النفط في سوريا

على مدى العقود السابقة طبق نظام الأسد التقنيات غير المتطورة في إنتاج النفط، والتي كانت تقوم على عملية الحقن المائي لآبار النفط، حيث يتم ضخ كميات ضخمة من المياه الجوفية داخل الآبار ليسهل استخراج النفط.

هذه الطريقة لها تبعات مضرة على الطبيعة التكوينية للأرض، وتتلف آبار النفط.

العقبة الأولى

ويظل الضرر الأكبر الذي وقع على آبار النفط السوري والمناطق المحيطة هو انتشار الإشعاعات النووية، وفق خبراء.

ووفقًا لوكالة البيئة التابعة لحكومة الولايات المتحدة الأميركية، تتشكل الإشعاعات النووية على الأسطح القريبة من حقول النفط والغاز أثناء عملية الإنتاج، وتكون الإشعاعات مصاحبة لتدفق المياه العكسي من الآبار. وهذه الإشعاعات مضرة على البيئة والإنسان والحيوانات وعلى الأراضي الزراعية المحيطة من آبار النفط، ويجب تنظيفها والتعامل معها بشكل مستمر.

انطلاقا من ذلك يؤكد الدكتور أنس الحجي خبير صناعة النفط في مقاله المنشور على منصة الطاقة بتاريخ 11 ديسمبر/كانون الثاني 2024، بأن المناطق المحيطة بآبار النفط في سوريا مليئة بالإشعاعات النووية، نتيجة خروج شركات النفط الدولية من سوريا عام 2012، تلك الشركات كانت الوحيدة القادرة بما تمتلكه من الخبرات والأدوات الحديثة على تنظيف الإشعاعات النووية.

والتعامل مع عملية تنظيف الإشعاعات كان خارج نطاق قدرة الحكومة السورية السابقة، وبحسب الدكتور الحجي أوكلت الحكومة لشركة "شل" المتعددة الجنسيات بالقيام بعملية تنظيف المناطق القريبة من آبار النفط السورية، إلا إن الشركة لم تستمر في عملية التنظيف بسبب خروجها من البلاد عام 2012.

إعلان

وفي الوقت الحالي، يرجح مراقبون انتشار الإشعاعات النووية بشكل أكبر من السابق بسبب استخدام قوات سوريا الديمقراطية "قسد" -ومن قبلها تنظيم الدولة الإسلامية- الطرق البدائية في استخراج النفط، وبالتالي فنحن أمام كارثة طبيعية واقتصادية واجتماعية تحيط بآبار النفط.

وهذا يعني أن حكومة دمشق حتى لو سيطرت على كامل آبار النفط في البلاد، فمن المتوقع أن لا تتمكن من الاستفادة من هذه الآبار في الإنتاج والاستهلاك لمدة طويلة قد تصل لسنوات، حتى يتم إعادة تنظيف الآبار والمناطق المجاورة لها.

 

العقبة الثانية

والعقبة الثانية التي تواجه الاستثمار في آبار النفط هي أنه طوال فترة الصراع في سوريا على الرغم من عدم تعرض حفارات وحقول النفط لضربات عسكرية، فإنها تعرضت للتخريب، وتحتاج لعملية صيانة واسعة، كما أن توقف إنتاج الحقول لفترة زمنية له عواقب على عملية الإنتاج، حيث يصبح من الصعب عودتها إلى الحالة الإنتاجية السابقة.

من جانب آخر، فإن محطات تكرير النفط في سوريا تبدو في حالة متهالكة وقديمة وتحتاج لصيانة ولا يمكن الاعتماد عليها في عملية التكرير، ومن المعروف أن سوريا تمتلك مصفاتين، الأولى في حمص والثانية في بانياس، والسعة الإجمالية للمصفاتين في السابق نحو 240 ألف برميل في اليوم، وكانت تلبي محليا ثلاثة أرباع طلب البلاد على المنتجات البترولية المكررة قبل عام 2011، لكن قدرتهما الإنتاجية تضاءلت بشكل كبير.

كما تعرضت خطوط الأنابيب التي تربط بين حقول النفط ومحطات التكرير ومناطق الاستهلاك للتخريب، لاسيما أنابيب النفط الممتدة من حقول النفط من مدينتي الحسكة ودير الزور إلى مصافي التكرير في حمص وبانياس.

العقبة الثالثة

كما تعد العقوبات الدولية المفروضة على سوريا أحد العوائق التي تمنع دخول الشركات الدولية لإعادة تهيئة آبار النفط.

وبالتالي، فإن سوريا أمام مشكلة كبيرة على المستوى البيئي، حيث يجب حل ملف مخلفات الإشعاعات النووية عبر تكليف شركة أجنبية بعملية التنظيف.

إعلان

كما تحتاج البنية التحتية لإنتاج واستهلاك موارد الطاقة في سوريا لإعادة هيكلة وتحديث.

وفي الوقت الحالي تظل سوريا أمام أزمة طاقة، لعدم القدرة على تأمين موارد الطاقة للاستهلاك المحلي، وهو ما ينذر بعواقب على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، ويعقد عملية الاستقرار والتنمية في سوريا، لاسيما في حال شهدت البلاد عودة كبيرة للمواطنين مما سيفاقم الأزمة، لعدم توفر القدرة على إنتاج الماء والكهرباء وتأمين المواصلات.

مقترحات حلول

إن الحكومة الجديدة أمام استحقاق كبير، ومن المهم أن تجد حلا لمشكلة تأمين موارد الطاقة اللازمة لإنتاج الكهرباء والمواصلات، ومن أجل ضخ المياه.

وبحكم الواقع الذي تناولناه من الصعب على الدولة تأمين حاجات البلاد المتزايدة والتي قد تتجاوز يوميا 350 ألف برميل، وإذا حصل تدفق للسوريين العائدين من بلاد اللجوء قد ترتفع الحاجة إلى أكثر من 400 ألف برميل يوميا.

انطلاقا من ذلك نوصي بالحلول التالية:

1- العمل على التعاقد مع شركات عربية لبناء منظومات أو مزارع للطاقة الشمسية لإنتاج الكهرباء. وهي مشاريع قد تنجح في سوريا بنسبة كبيرة، لتوفر الشمس بأوقات ليست بالقليلة طوال السنة.

وفيما يتعلق بتمويل المشاريع، يمكن التعاقد مع شركات تتولى عمليات البناء والبيع وتحصل على أرباح المشروع لمدة زمنية يتفق عليها.

وفي هذا الإطار تعتبر شركة أكواباور السعودية من أبرز الشركات العالمية في هذا المجال، ونفذت العديد من المشاريع مثل المغرب ومصر. وتمتلك السعودية أكبر مصانع إنتاج الألواح الشمسية على مستوى العالم.

وبهذه العملية تحقق الحكومة هدفين، الأول، تأمين الطاقة اللازمة لإنتاج الكهرباء، الثاني، تحقيق تنوع في مصادر إنتاج الطاقة بدل الاعتماد بشكل كبير على المحطات الحرارية التي تستهلك الغاز والديزل، مما يخفف الضغط من استيراد النفط.

2- استيراد الديزل والبنزين الجاهز للاستهلاك، والابتعاد عن استيراد النفط الخام، لعدم قدرة مصافي النفط على التكرير. ويمكن الاعتماد على شحنات قادمة من السعودية والجزائر، واستلامها عبر ميناء اللاذقية، وتوزيعها على الأسواق.

إعلان

3- إسناد صناعة الغاز في سوريا إلى شركة قطر للطاقة التي تصنف من الشركات الرائدة في منطقة الشرق الأوسط في صناعة الغاز، وفعليا تدير الشركة العديد من الاستثمارات في موريتانيا ولبنان وقبرص ودول أخرى.

وستسهم قطر للطاقة في تطوير البنية التحتية لآبار الغاز مما يعزز في رفع الإنتاج وتحقيق الاكتفاء الذاتي لسوريا، وينهي أزمة 12 سنة من عدم القدرة على توفير الغاز المنزلي.

4- العمل على تطوير البنية التحتية لإنتاج وتكرير النفط عبر التعاقد مع شركات أجنبية متطورة، بعد إنهاء العقوبات على البلاد.

5- جعل البلاد ممرا حيويا لخطوط الطاقة، وهنا يمكن الحديث عن مشاريع متوقعة، الأول خط أنابيب للنفط من العراق إلى الموانئ السورية، والمشروع الثاني سعودي ينقل الهيدروجين الأخضر عبر خط أنابيب من السعودية عبر سوريا وتركيا إلى السوق الأوروبية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات ألف برمیل یومیا البنیة التحتیة آبار النفط فی سوریا النفط فی

إقرأ أيضاً:

براغماتية الشرع أمام اختبار التوازنات: هل تنجح سوريا في صياغة معادلة الاستقرار الجديد؟

لطالما شكلت سوريا عقدة الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، حيث لا تكتمل الخرائط الاستراتيجية من دون أن تتوسطها دمشق التي تحتل موقعا يجعلها نقطة التقاء للمصالح أو صراع على النفوذ ومسرحا دائما للتنافس السياسي والعسكري بين القوى الكبرى.

 

خلال الأسابيع الماضية التي أعقبت سقوط الأسد، تحولت سوريا لمحور اهتمام دولي وإقليمي فسلكت وفود الدول طريق دمشق، ورغم أن الهدف هو جس النبض لقائد الإدارة الجديد أحمد الشرع القادم من خلفية جهادية، وتقييم الواقع على الأرض فإنها تؤسس لمرحلة المفاوضات والمساومات المستقبلية.

 

وفي ظل مطالب الدول وتخوفات البعض منها، يبرز التساؤل عن الكيفية التي ستدير بها القيادة السورية الجديدة لعبة التوازنات الدقيقة والمصالح المتشابكة على الجغرافيا السورية؟

   

الصراع على سوريا

تحت عبارة "من يقود الشرق الأوسط لبد له من السيطرة على سوريا" ركز الكاتب البريطاني الشهير باتريك سيل في كتابه "الصراع على سوريا" على أهميتها في المنطقة، وكيف أصبحت خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي مركزا للصراعات.

 

ولأن "سوريا مرآة للمصالح المتنافسة على المستوى الدولي مما يجعلها جديرة بعناية خاصة"، كما يقول سيل، تحولت خلال العقد الماضي، إلى واحدة من أكثر الساحات تعقيدا للصراعات الإقليمية والدولية، حيث تنافست قوى متعددة لتحقيق مصالحها الاستراتيجية وتوسيع نفوذها.

 

وتوزع اللاعبون، خلال السنوات الماضية، على مختلف الجبهات السورية، فالولايات المتحدة في الشرق، وروسيا وإيران في الوسط والغرب، وتركيا في الشمال، إلى جانب بعض الدول العربية وخاصة الخليجية التي دعمت نظام الأسد لمنع أي تمدد تركي.

 

في شرقي سوريا قادت الولايات المتحدة ومن ورائها الغرب، تحالفا دوليا لمحاربة تنظيم داعش وضمان عدم عودته إلى الأراضي السورية، واستخدمت واشنطن هذه الحرب ذريعة لتبرير وجودها العسكري ودعم قوات سوريا الديمقراطية كحليف رئيسي على الأرض، الأمر الذي أدى إلى توتر العلاقة مع تركيا الحليف القوي في الناتو.

 

إضافة إلى ذلك، كانت أولويات واشنطن الاستراتيجية تشمل ضمان أمن إسرائيل، والحد من النفوذ الإيراني، وإضعاف روسيا ومنعها من تحقيق سيطرة كاملة في سوريا.

 

على الجانب الآخر، شكلت سوريا بالنسبة لروسيا منصة حيوية لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط وإظهار قوتها كدولة عظمى على الساحة الدولية، فقدمت دعما مطلقا لنظام الأسد، عسكريا وسياسيا، مقابل الحصول على قاعدة استراتيجية على البحر الأبيض المتوسط، تمثلت في قاعدة حميميم، مما منحها موطئ قدم في المنطقة.

 

أما الدول العربية فتباينت مواقفها تجاه الملف السوري، فركز بعضها على الحد من النفوذ الإيراني، بينما دعم البعض الآخر النظام في مواجهة أي نفوذ لتركيا في سوريا، والتي تعتبر الرابح الأكبر مما يجري بسبب علاقتها الجيدة مع الإدارة الجديدة.

   

تغير المعادلة

مع سقوط الأسد، تغيرت المعادلة وموازين القوى وظهرت شروط ومطالب جديدة، ترافقها مخاوف متزايدة، خاصة من الدول العربية، بشأن احتمالية عودة تيارات التشدد الإسلامي أو تصدير الثورات، مما يضيف مزيدا من التعقيد إلى المشهد السوري.

 

بدورها ربطت الدول الغربية أي تعاون مستقبلي مع الإدارة الجديدة بخروج روسيا من سوريا، معتبرة ذلك شرطا أساسيا للمشاركة في إعادة الإعمار ورفع العقوبات، إلى جانب ضمان حقوق الأقليات، خاصة الأكراد، الذين يحظون بدعم أميركي كبير في الشرق.

 

هذه الشروط جسدتها تصريحات بعض المسؤولين الأوروبيين، إذ قالت رئيسة دائرة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، كايا كلاس، إن "أحد شرط حوار الاتحاد الأوروبي مع السلطات السورية الجديدة يجب أن يكون انسحاب القواعد العسكرية الروسية من سوريا"، مشددة على أن إيران وروسيا "يجب ألا تلعبا أي دور في بناء مستقبل سوريا الجديد".

 

من جانبه قال وزير الخارجية الهولندي، كاسبار فيلدكامب، إن رفع العقوبات عن سوريا سيكون مرتبطاً بإطلاق مسار سياسي وضمان حقوق الأقليات، كما أن إغلاق قواعد روسيا بسوريا سيكون ضمن الشروط الأوروبية لدعم دمشق".

 

وخلال زيارتها إلى العاصمة دمشق، الجمعة، أكدت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك على ضرورة انسحاب القوات الروسية من سوريا.

 

وقالت عقب لقائها الشرع في دمشق إن "أوروبا ستدعم سوريا الجديدة لكنها لن تقدم أموالا للهياكل الإسلامية"، مشيرة إلى أن "أوروبا حضت على عدم إقامة حكومة إسلامية عقب إسقاط النظام.

 

وشددت الوزيرة الألمانية على أن رفع العقوبات عن سوريا سيعتمد على تقدم العملية السياسية وإشراك كل الطوائف.

 

الرد الروسي لم يتأخر عبر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي قال إن "قائد السلطات الحالية في سوريا أحمد الشرع يتعرض لضغط كبير من الغرب لوقف تعامله مع روسيا". 

 

براغماتية الشرع

على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، وخلال تصريحات إعلامية ولقاءات رسمية، حاول الشرع إيصال رسائل إلى الدول كافة بأن سوريا مهمة للغاية من الناحية الجيوستراتيجية، وأن الغاية الأساسية التي يسعى إليها هي التنمية الاقتصادية، التي لن تحصل من دون علاقات استراتيجية ومصالح متبادلة مع الدول الأخرى.

 

"سوريا لديها شخصية مستقلة ولا تخضع للضغوط" بهذه الكلمات حدد الشرع ملامح المرحلة المقبلة فيما يتعلق بالتعامل مع الدول ومصالحها والضغوط التي قد يتعرض لها، مؤكداً على تجنيب سوريا أي عملية تجاذبات سياسية يمكن أن تؤثر على الدول المجاورة.

 

وشدد الشرع، خلال مقابلته الأولى مع وسيلة إعلامية عربية، أن "سوريا لن تكون ساحة صراع بين روسيا والغرب، ولا تخضع للضغوط ونحن ننظر إلى مصالح شعبنا بالدرجة الأولى ونتعامل مع الدول على هذا الأساس.

 

أمام هذا المشهد والتصريحات، تدخل سوريا مرحلة جديدة ممتلئة بالتحديات ولعبة توازنات معقدة وحادة تتطلب قدرة على المناورة وإدارة المصالح المتضاربة من قبل الشرع الذي وصفته باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، عقب لقائه في دمشق بأنه "براغماتي".

 

ويرى الباحث السياسي محمود علوش أن تشكيل علاقة متوازنة مع مختلف القوى الفاعلة في الملف السوري هي من بين التحديات الكبيرة التي تواجه الإدارة الجديدة.

 

وقال علوش لموقع تلفزيون سوريا إن هناك أولويات للإدارة الجديدة على رأسها إقامة علاقات جيدة مع محيطها العربي والدول الغربية بسبب المزايا التي تحصل عليها وخاصة على المستوى الاقتصادي وإخراج سوريا من دائرة العزلة والعقوبات، وهذه المزايا تتجاوز في أهميتها بالنسبة للإدارة الجديدة أي مزايا يمكن أن تجلبها العلاقة الجيدة مع روسيا على سبيل المثال.

 

ورغم أن العلاقة مع روسيا لن تجلب مزايا كبيرة لسوريا الجديدة، بحسب علوش، لكن يمكن من خلالها أن تحد الإدارة الجديدة من مخاطر أن يتحول الدور الروسي إلى عقبة محتملة تفسد عملية التحول السياسي والاستقرار الأمني.

  

واعتبر علوش أن العلاقة مع روسيا لا تزال استراتيجية بالنسبة لسوريا، ما يفرض على الإدارة الجديدة إعادة تشكيل العلاقات من منظور مختلف، وبالتالي فإن العلاقات مع الغرب والمطالب التي يقدمها فيما يتعلق بمستقبل وجود القواعد الروسية سيضغط بشكل كبير على دمشق لإيجاد نوع من الموازنة في علاقاتها مع كل من موسكو والغرب.

   

إدارة اللعبة

يدير الشرع لعبة توازن دقيقة في إدارته الجديدة، مستهدفا تحقيق الاستقرار بين إرضاء بنيته الداخلية وخاصة القوى المقاتلة الأجنبية والمؤسسات الناشئة، وبين طمأنة دول الإقليم المتوجسة من النفوذ الإسلامي، وبناء علاقات متوازنة مع القوى الدولية الكبرى.

 

يرى مدير الأبحاث في مركز عمران للدراسات، معن طلاع، أن محددات التعاطي السياسي للإدارة السورية الجديدة تنقسم إلى أربعة محددات رئيسية، أولها يرتبط بالصورة العامة التي تسعى الإدارة إلى تقديمها عن نفسها، من خلال التأكيد على قدرتها على التحول من فاعل ما دون الدولة إلى فاعل دولة منسجم مع محيطه الإقليمي والدولي، مع الحرص على عدم إثارة مخاوف الدول المجاورة.

 

المحدد الثاني يركز على البعد السياسي والدبلوماسي، حيث تسعى الإدارة الجديدة إلى تقديم سوريا كبلد استقرار وليس ساحة للصراعات بين الدول، انطلاقا من قناعة بأن استقرار سوريا يمثل مفتاحا لاستقرار المنطقة كلها.

 

والمحدد الثالث، يرتبط بتحديات الإدارة نفسها، إذ اضطرت إلى تبني نموذج إدلب، ليس لأنه النموذج الأمثل أو الأكثر كفاءة، بل لأنه يمثل الخيار الأكثر أمانا في المرحلة الحالية لتحقيق الاستقرار المؤقت.

 

أما المحدد الرابع فيرتبط بالجانب المجتمعي سواء الشق الخدمي وتحديد الأولويات وتقديم حلول ملموسة لقضايا ملحة مثل ملف الطاقة والأمن الغذائي وتأمين الرواتب، أو فيما يتعلق بالسلم الأهلي والتعامل بحس الدولة مع قضايا حساسة مثل الأقليات.

 

وبحسب طلاع تواجه الإدارة الجديدة تحديات كبيرة في تحقيق التوازن بين الداخل والخارج، ومن أبرز هذه التحديات كيفية التعامل مع الدول التي تبدي توجسا كبيرا من أي نموذج حركي للإسلام، مثل مصر.

 

ووفقا لمعطيات طلاع، فإن محاولة إرسال رسائل إيجابية للقاهرة لطمأنة مخاوفها تتعارض مع قرار ترفيع شخصية مطلوبة على قوائم الأمن القومي المصري إلى منصب قيادي برتبة عميد.

 

لكن في الوقت نفسه، تواجه الإدارة تحديا داخليا يتمثل في كيفية التعامل مع القوى التي قاتلت إلى جانب الشرع وواكبت جميع التحولات، وإيجاد طريقة لإبلاغها بأن دورها قد انتهى دون أن يؤدي ذلك إلى اضطرابات داخلية تهدد استقرار الإدارة الجديدة.

 

وأشار طلاع إلى إمكانية اتخاذ الشرع استراتيجية سياسة "DDR" حيث يتم استيعاب هذه القوى مؤقتا قبل إخراجها تدريجيا من المشهد، وهو النهج الذي استخدمه سابقا في إدلب (ضد عناصر القاعدة)، لكن يبقى التساؤل عما إذا كانت دول مثل مصر والإمارات والأردن ستفهم هذه الرسائل وتبني عليها للتصالح مع الإدارة الجديدة.

  

ويرى طلاع أن الدول العربية تعتبر جزءا من معادلة التوازن، فيدرك الشرع أن هذه الدول تعاني من توجس تجاه ما قامت به "تحرير الشام"، حيث يحاول إيصال رسالة واضحة، بشكل مباشر أو غير مباشر، تؤكد على أهمية الدور العربي في تحقيق التوازن مع الدور التركي وخلق مساحة لوجود عربي فاعل يوازي الدور التركي في سوريا.

 

ويتابع أن "لعبة التوازن هنا تعتمد على قدرة الشرع على إدارة هذه المساحة بما يضمن تعزيز الوجود العربي من دون تعريض التوازنات الإقليمية للخطر".

 

من جانبه يرى الدبلوماسي السوري السابق بسام بربندي أن الدول العربية وخاصة الإمارات ومصر والأردن متخوفة من التيار الإسلامي، خاصة إذا كان هذا التيار يحمل طابعا متشددا أو يتبنى فكر تصدير الثورة.

 

واعتبر أن هذه الدولة مستعدة للتعامل مع سوريا الجديدة واحتضانها ودعمها، بشرط أن تكون القيادة في سوريا تتسم بالاعتدال والانفتاح، وفي الوقت ذاته، تحرص هذه الدول على تحقيق توازن مع تركيا لضمان أن سوريا الجديدة لا تتحول إلى ولاية تركية أو تقع بالكامل ضمن نفوذ أنقرة.

 

وفيما يتعلق بالتعامل مع دول الاتحاد الأوروبي التي ستلعب دورا مهما في تمويل وإعادة إعمار سوريا، أكد بربندي أن الأوروبيين هدفهم الحقيقي والجوهري في سوريا هو إعادة اللاجئين وبالتالي يحرصون على أن يكون هناك استقرار اجتماعي وسياسي واقتصادي في سوريا.

 

وتسعى الإدارة السورية الجديدة إلى تحقيق توازن في التعامل مع دول الاتحاد الأوروبي، بحسب طلاع، عبر التركيز على توفير بيئة آمنة تضمن عودة اللاجئين، فالشروط التي وضعها الأوروبيون، خاصة المتعلقة بخروج روسيا من سوريا، تبدو صعبة التنفيذ، لكن من المحتمل أن تواجهها الإدارة بتقديم خطوات ملموسة في ملف اللاجئين وتحقيق الاستقرار الأمني.

 

ويخلص طلاع إلى أن الشرع يدير لعبة توازن دقيقة للغاية وحادة جدا في ظل أوضاع إقليمية حساسة، حيث يكمن جوهر هذا التوازن الذي يعمل عليه أن كل دول الإقليم تسعى لاستقرار سوريا، ورغم أن بعض هذه الدول، بما فيها الولايات المتحدة، قد لا تفضل استمرار هذه الإدارة الحالية، لكن الأولوية الإقليمية تتركز على إنهاء النزاع وضمان استقرار سوريا بعيدا عن النفوذ الإيراني.

 

مقالات مشابهة

  • ملابسات حول غلق معهد صباح فخري للموسيقى في سوريا وعلاقة الإدارة الجديدة
  • من عمان..وزير خارجية سوريا: لا كبتاغون إلى الأردن في عهد الإدارة الجديدة
  • تصدير أول شحنة غاز طبيعي مسال إلى شركة شل بموجب العقود الجديدة
  • ‏الصفدي: التحدي أمام الحكومة الانتقالية السورية كبير ويجب أن تعطى الإدارة الجديدة فرصتها
  • السوداني يوجه الكهرباء بالتعاقد للحصول على (100) مليون قدم غاز لتشغيل محطات الطاقة
  • السوداني يوجه بالتعاقد مع شركة الهلال الإماراتية لتزويد العراق بـ(100) مليون قدم 3 من الغاز
  • وزير الثقافة أمام الشيوخ: تحديات كبيرة تواجه الحرف التراثية ونعمل على حمايتها
  • وزير الثقافة أمام مجلس الشيوخ: تحديات كبيرة تواجه الحرف التراثية
  • براغماتية الشرع أمام اختبار التوازنات: هل تنجح سوريا في صياغة معادلة الاستقرار الجديد؟