قصة مهند قطيش: كم من فنان ذهب بشسع نعل كليب
تاريخ النشر: 6th, January 2025 GMT
ظلت شخصية "جلال" التي جسّدها الفنان السوري مهند قطيش في مسلسل "عناية مشددة" الذي أنتج سنة 2015 عالقة في ذهني طوال سنوات خلت، وكنت أنوي يوما ما إن أساله إذا أتيحت لي فرصة لقائه عن خلفيات الدور وكيف برع في تجسيد معاناة ذلك العائد من جحيم الاعتقال، والذي اعتمد أدائيا على تعابير وحركات وجهه فقط دون أن ينبس ببنت شفة طوال كل مشاهده.
صحيح لم يكن "جلال" دورا محوريا في كل الأحداث؛ لكن أداء مهند "الصامت" ظل محفورا بالذاكرة؛ دون أن أدري أنه يخفي وراءه قصة حقيقية موجعة كشف عنها مؤخرا بعد سقوط نظام الأسد، وكيف قضى ثلاث سنوات معتقلا في سجن "صيدنايا" السيئ السمعة بسبب سلسة مقالات كتبها رفقة زميله الصحفي يحيى الأوس عن الشخصية القوية آنذاك والمهيمنة على الفضاء والهواء في سوريا، ونقصد هنا عبد الحليم خدام نائب الرئيس وصاحب شركة "الشام الدولية للإنتاج الفني" المستبدة بالوسط الفني السوري لسنوات وعقود.
شخصيا حاورت العديد من الفنانين السوريين وبالأخص من رفعوا راية العصيان ضد النظام منذ صرخة درعا الأولى، وعلى رأس القائمة الفنانة الراحلة فدوى سليمان بالإضافة إلى أسماء أخرى عديدة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر زينة الحلاق ولويز عبد الكريم وواحة الراهب وناندا محمد وعامر سبيعي وغيرهم الكثير، لكن هناك أسماء أخرى ظلت قصصها مغيّبة عن الإعلام ولم تتم إماطة اللثام عنها سوى بعد انعتاق الشعب السوري ونيل حريته من النظام المجرم. ومؤخرا كرت السبحة وهناك نماذج عدة أفصحت عما كانت تكابده في السر على غرار مهند قطيش وبسام دكاك وحتى باسل خياط وآخرين كثر التزموا الصمت لأسباب متعددة حينها.
كل هذا يكشف بجلاء الإحاطة التامة للأمن بكل ما يجري ويدور في الوسط الفني، وبناء عليه تعقدت العلاقة أثناء اندلاع الثورة السورية المباركة لتضع بعض الفنانين بين فكي كماشة
الملفت فيما سرده مهند قطيش أنه اختصر بالإضافة إلى قصته الصعبة طبعا؛ العلاقة المبنية بين رجال الأمن والفروع المختلفة في كل بقاع سوريا، والدراما السورية خاصة، حين روى كيف استقبله الضابط بعبارة "أهلا يا سَلَمة". وسلمة هو أهم أدوار قطيش وجسّده بروعة في المسلسل التاريخي الملحمي "الزير سالم" تأليف المبدع الراحل ممدوح عدوان وإخراج العبقري حاتم علي. وأضاف مهند أن نفس المحقق يصر على مخاطبته باللغة العربية الفصحى حتى أنه لخص له عقوبته بالقول "ذهبت بشسع نعل كليب"، العبارة الشهيرة للحارث بن عباد.
كل هذا يكشف بجلاء الإحاطة التامة للأمن بكل ما يجري ويدور في الوسط الفني، وبناء عليه تعقدت العلاقة أثناء اندلاع الثورة السورية المباركة لتضع بعض الفنانين بين فكي كماشة. وشخصيا أعرف كيف اضطر البعض منهم لمجاراة المقربين من النظام خوفا من العواقب مما أدى لتصنفيهم في قوائم العار رغم كرههم له، لكنهم ظلوا عاجزين عن المجاهرة بالحقيقة.
المؤكد أن قصصا أخرى ستروى وستصدم المتابعين والمنبهرين بالعالم "الساحر" للفن دون أن يغوصوا في تفاصليه القاتمة السواد؛ وكم من فنان موهوب حكم على موهبته بالإعدام وعانى من التشرد ولم يحتمل ضنك الغربة وقسوتها. وملفات الفنانين السوريين مكتنزة بالحكايات التي طمستها الديكتاتورية والقبضة الحديدة التي انهارت واستسلمت في النهاية كحال كل المستبدين في كتب التاريخ، كما اختصر ذلك الكاتب السوري الراحل محمد الماغوط بالقول: "الطغاة كالأرقام القياسية، لا بد من أن تتحطم في يوم من الأيام".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات الفنان الأسد سوريا سوريا الأسد فنان فن مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات رياضة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
شكوكو.. الفنان ذو القبعة والجلباب الذي حظي باحترام الكتاب والمثقفين
في زمنٍ كانت فيه الفنون الشعبية في مصر تُمثّل نبض الشارع، سطع نجم محمود شكوكو الذي تحل اليوم ذكرى ميلاده، فنان المونولوجات والتمثيل الشعبي، ليغدو ظاهرة ثقافية لا تقل تأثيرًا عن كبار الأدباء والمفكرين في عصره، لم يكن مجرد مؤدٍ ساخر أو مطرب خفيف الظل، بل كان جسرًا بين الفن الشعبي والمثقفين، وعنوانًا لتلاقي الثقافة العالية بالوجدان الشعبي.
ولد محمود شكوكو في حي الدرب الأحمر عام 1912، وتدرّج من نجارة الموبيليا إلى خشبة المسرح، ثم إلى أفلام الأبيض والأسود، لكنه لم يقطع صلته يومًا بالناس البسطاء، وهو ما جعل المثقفين يرونه تجسيدًا حقيقيًا "لفن الشعب".
كانت علاقته بالوسط الثقافي المصري متينة ومميزة، فخلف قبعته الشهيرة وجلبابه البلدي كان هناك فنان يتمتع بذكاء فطري، جعله يحظى باحترام الكتاب والمثقفين، أُعجب به نجيب محفوظ الذي قال عنه: "شكوكو عبقري المونولوج الشعبي"، وكان توفيق الحكيم يشير إليه في بعض مقالاته بوصفه "صوتًا للفطرة المصرية"، لم تكن شهادات التقدير تأتيه من المؤسسات الرسمية فحسب، بل من جلسات الأدباء في مقهى ريش، ومن كتابات الصحفيين الكبار مثل أحمد بهاء الدين ومصطفى أمين.
لم يتوان شكوكو عن المزج بين فنه والحركة الثقافية؛ فشارك في أعمال فنية كانت في جوهرها نقدًا اجتماعيًا لاذعًا، واستخدم المونولوج كمنصة لطرح قضايا سياسية واقتصادية، بل وأخلاقية أحيانًا، وهو ما جذب انتباه المفكرين الذين رأوا فيه "فنانًا مثقفًا بالفطرة"، كما وصفه الدكتور لويس عوض.
كما كانت له علاقة وثيقة برجال المسرح والثقافة، أبرزهم زكي طليمات ويوسف وهبي، اللذين دعماه فنيًا في بداية مشواره المسرحي، ورأيا فيه طاقة إبداعية قابلة للتطوير، بعيدًا عن النمطية. حتى عندما دخل السينما، لم يفقد علاقته بالمثقفين، بل صار حضوره في الندوات والصالونات جزءًا من المشهد الثقافي، رغم اختلاف أدواته عن الآخرين.
ولعل واحدة من أبرز مظاهر علاقته بالمثقفين كانت "عروسة شكوكو"، التي ابتكرها بنفسه لتجسيد شخصية المواطن المصري البسيط، والتي أصبحت تيمة فنية أثارت اهتمام رسامي الكاريكاتير والكتّاب، بل كتب عنها صلاح جاهين نصًا في مجلة "صباح الخير"، معتبرًا إياها تجديدًا في خطاب الفنون الشعبية.
كما ساهم شكوكو في إطلاق فن "المنولوج السياسي" بشكل غير مباشر، ملهمًا أجيالًا من فناني الكلمة والغناء السياسي الساخر، مثل الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم لاحقًا.
ورغم ما حظي به من شهرة شعبية، إلا أن صلاته بالوسط الثقافي ظلّت أكثر عمقًا مما يظنه كثيرون، وظل اسمه يتردد حتى بعد رحيله عام 1985، باعتباره فنانًا شعبيًا مثقفًا بالفطرة، يستحق أن يُدرس كحالة نادرة في تاريخ الثقافة المصرية الحديثة.