محددات الموقف المصري من معركة طوفان الأقصى.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 6th, January 2025 GMT
الكتاب: التقرير الاستراتيجي الفلسطيني 2022 ـ 2023
الكاتب: مجموعة من المؤلفين،المحرر: أ. د. محسن محمد صالح.
الناشر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، أغسطس 2024، 548 صفحة من القطع المتوسط.
يتعرض الكاتب في الفصل السادس للدور المصري، إذ لا يمكن الفصل بين العملية التي قامت بها حركة المقاومة الإسلامية حماس في 2023/10/7 على المواقع العسكرية الصهيونية والمستوطنات في غلاف غزة، وما تحمله من دلالات استراتيجية.
كشفت معركة طوفان الأقصى إمكانية هزيمة الكيان الصهيوني، كما كشفت حالة الضعف العربي الرسمي المستسلم للهيمنة الإسرائيلية الأمريكية، وأعطت حالة إلهام للأمة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وكان من الطبيعي أن تتفاعل الحالة الشعبية العربية مع ما يحدث في قطاع غزة من تدمير صهيوني انتقامي استهدف المدنيين، فقد قام شرطي مصري بإطلاق النار على فوج سياحي في مدينة الإسكندرية، وقد أسفر عن مقتل سائحين إسرائيليين.
تأثر الموقف الرسمي المصري من عملية طوفان الأقصى بالعديد من المحددات والعوامل المؤثرة، ومن أبرزها:
ـ الرغبة في الحفاظ على حيوية الدور المصري في القضية الفلسطينية، نظراً لأهمية ذلك في تعزيز حضور مصر الإقليمي وتطوير علاقاتها مع الولايات المتحدة.
الإصرار على الخيار الاستراتيجي للمقاومة الفلسطينية والعربية، والإبقاء على الأمة حية تقاوم، وتطالب بحقها الطبيعي والقانوني والتاريخي والديني في أرض فلسطين،هوالمحور الذي أبقى القضية الفلسطينية حية. أما خيار التسوية بشروط "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية، فهي الهزيمة بعينها للأمة، والتصفية الحقيقية للقضية الفلسطينية.ـ استحقاقات معاهدة كامب ديفيد والعلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية المتطورة مع الكيان الصهيوني، والتي ترسخت بصورة قوية في عهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ـ المحدد الأمني المتعلق بالخشية من تصاعد التحركات الشعبية المتعاطفة مع المقاومة الفلسطينية في مصر والمنطقة العربية والتوجس من احتمالات تجدد حيوية وحراك الشارع العربي وعودة أجواء الربيع العربي، نظراً لحالة الإلهام الهائلة التي مثلتها معركة طوفان الأقصى، وتصاعد السخط على عجز الأنظمة العربية بسبب فشلها في القيام بواجبها تجاه فلسطين.
ـ الخشية من تداعيات سياسية وأمنية خطيرة لعمليات تهجير قسري واسعة محتملة للفلسطينيين، من قطاع غزة إلى الأراضي المصرية، وبما يقحم مصر في الصراع مع الجانب الإسرائيلي، ويهدد معاهدة كامب ديفيد وحالة الهدوء في العلاقات المصرية الإسرائيلية.
ـ المحدد الأيديولوجي المرتبط بتحفظات الجانب الرسمي المصري على التوجه الإسلامي للمقاومة الفلسطينية في سياق موقفه السلبي من عموم التيار الإسلامي في المنطقة. وخصوصاً في ظل أزمته المتواصلة في العلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين المصرية. ويتشكل انطباع بعدم رغبة الجانب المصري والعديد من الأطراف العربية بخروج المقاومة الفلسطينية منتصرة في معركة طوفان الأقصى، خشية تداعيات غير مرغوبة على الوضع الداخلي المصري وعلى حضور التيار الإسلامي في المنطقة.
ـ تموضع الجانب الرسمي المصري وخياراته السياسية في الساحة الفلسطينية، وانحيازه القوي للسلطة الفلسطينية ومشروعها السياسي، وعلاقاته الحذرة وغير الإيجابية مع حركة حماس، وتحفظه على مشروعها المقاوم وعلى نزوعها للحفاظ على استقلالية موقفها وقرارها السياسي في إدارة العلاقة مع مصر وبقية الأطراف العربية والإقليمية.
ـ الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وانهيار قيمة الجنيه المصري المستويات قياسية مقابل الدولار الأمريكي.
ـ المحدد الجيوسياسي وسيطرة الجانب المصري على المنفذ البري الوحيد للقطاع مع العالم. عبر معبر رفح، الذي وفر ورقة ضغط مصرية قوية على المقاومة وعلى سكان القطاع. وتسبب بإحكام الحصار على قطاع غزة منذ سنة 2007، وظهر تأثير ذلك بصورة قوية خلال معركة طوفان الأقصى. وترافق ذلك مع اتهامات واسعة من أطراف عديدة للجانب الرسمي المصري بأنه جزء من الحصار، وما يؤدي ذلك إلى معاناة ومجاعة، واستفراد العدوان الإسرائيلي بسكان القطاع ومقاومته ضد العدوان.
ومع تكرار الدعوات الصهيونية إلى تهجير سكان القطاع إلى سيناء، حذر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من خطورة التصعيد في قطاع غزة، وشدد على أن مصر لن تسمح بتصفية القضية على حساب أطراف أخرى، وأنه لا تهاون أو تفريط في أمن مصر القومي تحت أي ظرف".
لم تكن التخوفات المصرية في غير مكانها فقد كانت كافة الإشارات تؤكد المخططات الهادفة إلى تفريغ قطاع غزة وتهجير سكانه إلى سيناء، حيث أشار الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أن اجتماع الاتحاد الأوروبي دعا إلى إنشاء "ممرات إنسانية لتسهيل مرور الأشخاص الذين يريدون الفرار من قصف غزة عبر الحدود إلى مصر.
كما صرح نائب وزير الخارجية الإسرائيلي السابق داني أيالون Danny Ayalon بقوله توجد مساحات لا نهاية لها تقريباً في صحراء سيناء على الجانب الآخر من غزة، ويمكنهم الفلسطينيون) أن يتركوا (قطاع غزة إلى تلك المساحات المفتوحة حيث سنعد نحن والمجتمع الدولي للبنية الأساسية، ومدن الخيام، وستمدهم بالماء والغذاء ".
الإصرار على الخيار الاستراتيجي للمقاومة الفلسطينية والعربية، والإبقاء على الأمة حية تقاوم، وتطالب بحقها الطبيعي والقانوني والتاريخي والديني في أرض فلسطين،هوالمحور الذي أبقى القضية الفلسطينية حية. أما خيار التسوية بشروط "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية، فهي الهزيمة بعينها للأمة، والتصفية الحقيقية للقضية الفلسطينية.
في الواقع العربي، هناك خياران يتصارعان، خيار المقاومة وبناء ذات الأمة الديمقراطية بالمعني العصري لهذه الكلمة، وخيار التسوية الذي يرجح عند البعض من العرب والفلسطينيين، أن ينتج حلاً تقبل به الشرعية الدولية. خيار التسوية هذا، لم يعط للشعب الفلسطيني سوى أوسلو، حتى أن كل المشاريع الأخرى للسلام، بما فيها المبادرة العربية تدور حول هذا المحور.
"إسرائيل" لن تقبل السلام، لأن السلام هو النقيض التاريخي لوجودها كبنيية مجتمعية إيديولوجية وسياسية وعسكرية تقوم بدور وظيفي في منطقة الشرق الأوسط.
إن القضية الفلسطينية هي قضية الصراع العربي مع الإمبريالية الأمريكية، وللحركة الصهيونية في فلسطين دورًا وظيفياً تؤديه في هذا المجال. ولذلك يجب أن يبقى الصراع دائرًا، وألا يجزأ، لأن تجزئته في فلسطين، ومحاولة الفصل بين الإمبريالية الأمريكية و"إسرائيل"، قاد الحركة الفلسطينية إلى الضلال، وأضاع فلسطين، وأية محاولة لاعتبار حكومة الولايات المتحدة الأميركية حكماً، سيقود إلى الضلال والضياع. ثم إن أية محاولة لاعتبارالمشكلة فلسطينية ـ صهيونية، سيقزم المسألة، وسيجعلها مثل مئات قضايا اللاجئين في العالم، وستطرح الحلول الإنسانية لمشكلة اللاجئين.
إن "إسرائيل" كانت مصلحة استراتيجية أمريكية بامتيازولاتزال، وستظل كذلك في منطقة الشرق الأوسط. ويكمن مصدرقوة هذه الإستراتيجية، في قدرة "إسرائيل" على كسب حروبها مع العرب في السابق. بيد أن نجاح استراتيجية حزب الله الذي تفوّق على "زبائن الولايات المتحدة العرب الذين وقّعوا اتفاقات سلام للحفاظ على أراضيهم"، وأحرج موقعها، أكد أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تغير من موقفها المنحاز "لإسرائيل" إلا إذا أصبح العرب قادرين على تحريرأرضهم من طريق المقاومة وبناء ذات الأمة على أسس حديثة. .
هل يمكن للتحررمن الهيمنة الإمبريالية الأميركية ومن شروط التبعية، وهل يمكن تحرير الأراضي العربية المحتلة، وفي مقدمتها فلسطين، من دون أن تحرزالأمة العربية تقدماً ملموساً، وتقدم الأمة العربية مشروط بوحدتها و نهضتها؟ و بالمقابل هل يمكن إحرازالتقدم من دون أن تحرز الأمة استقلالها وسيطرتها على مقدراتها؟
"إسرائيل" لن تقبل السلام، لأن السلام هو النقيض التاريخي لوجودها كبنيية مجتمعية إيديولوجية وسياسية وعسكرية تقوم بدور وظيفي في منطقة الشرق الأوسط.إن هذا يطرح علينا علاقة التحررببناء مقاومة عربية تحمل في سيرورتها التاريخية مشروعا نهضويا فكريا وسياسيا، يضع تحرير فلسطين كمهمة قومية وإسلامية، وعليه أن يضع التحريرفي موقعه من مهمات المشروع القومي الديمقراطي النهضوي، باعتباره هدفاً رئيساً، لا يعلو عليه أي من الهدفين الآخرين، تحقيق الوحدة القومية، وبناء الديمقراطية والمجتمع المدني الحديث بالتلازم مع بناء دولة الحق والقانون، من حيث الأهمية. إذ إن هذه الأهداف الثلاثة مترابطة عضوياً، بصرف النظر عن الأولويات التراتبية التي يحتلها أي منها في ظل تضاريس الجغرافيا الطبيعية والبشرية، والتاريخية والاستراتيجية للمنطقة العربية.
وقد أثبتت هذه التجربة، ومن جملة ما أثبتته من حقائق واقعية، حقيقتين أساسيتين أولاهما أن الوحدة العربية هي المسألة المركزية في المشروع القومي الديمقراطي،وهي شرط ضروري لتحريرالأرض وإن لم يكن كافيا. وثانيهما تلازم النضال من أجل الديمقراطية والنضال ضد الإمبريالية و"إسرائيل". فلا تقدم يرجى في ظل التبعية والاحتلال . ولا يمكن أن نحرز تحريرًا في ظل وجود مقاومات عربية تستند في أساسها إلى النزعة "العسكريتارية" المحضة خارج عالم الفكروالثقافة والسياسة، وغير ديمقراطية في بنيانها الداخلي.. وتستند أيضا إلى الطوائف أو المذاهب.
وحتى لو كان صعود حركة "حماس" بالمعنى التاريخي متواصلاً كجزء من صعود التيارات الإسلامية الأصولية في العالمين العربي والإسلامي، فإنه من الصعب جداً في ظل تمزق المقاومة الفلسطينية بين سلطتين عاجزتين عن مواجهة "إسرائيل" ـ ومسؤولية ذلك تقع أساسًا على فريق أوسلو الذي كاد يودي بالقضية الفلسطينية، استبداداً وفساداً وتنازلات( أمام "إسرائيل" وأميركالاأمام الشعب الفلسطيني)، لكنها تقع أيضاً على اليسارالفلسطيني المفكك والمهمش و"المخردق" بوعود محود عباس، وعلى نهج "حماس" الانقلابي المعكوس الذي يستعدي ـ تدريجيا ـ فئات متزايدة من الفصائل والشخصيات الوطنية الفلسطينية، فإنه من الصعب جدًا على حركة "حماس" بعد ماتماهت تماماً مع مرحلة التحرير الوطني،وضاقت طعم السلطة،أن تكون قادرةً على استمرارالإحتفاظ بديناميكيتها كحركة مقاومة وطنية.
فالحركة الوطنية الفلسطينية على اختلاف مرجعياتها الفكرية والسياسية، التي ولدت من رحم الهزيمة لعام 1967،تعاني من أزمة بنيوية عميقة،بل تعاني ما يبدو أنه وهن تاريخي بعد سنوات الصعود التي استمرت حتى انسحاب الجيش الصهيوني من غزة في أيلول /سبتمبر 2005. فليس فقط حركة "فتح" ـ حسب المشهد السياسي الفلسطيني ـ هي التي تعاني إنهاكاً تاريخيا، بل أيضاًالحركة الإسلامية الفلسطينية التي تنتمي إلى مدرسة صعود الحركات الإسلامية بعد نجاح الثورة الإيرانية في عام 1979..
إن تحرير فلسطين ليس مشروعاً بونابرتياً لحاكم عربي، ولا هو مشروع لأي حزب، أوحركة أصولية،أو طبقة اجتماعية، إنه في جوهره جزء من المشروع القومي الديمقراطي النهضوي الذي يشمل تيارات الأمة كلها، وجزء من تقدم الأمة العربية ووحدتها.والنضال من أجل تحرير فلسطين هو الاندماج في المشروع القومي الديمقراطي المعادي جِديًا وفِعلياً وراديكاليًا للإمبريالية الأمريكية، والكيان الصهيوني، والدول العربية التسلطية، والمستند إلى قوى الشعوب العربية، وإلى جماع الأمة، ولا إلى فئة، أو طبقة، أو حزب، أو حركة أصولية، مهما ادعت تلك الحركة أنها ممثلة للأمة، ونائبة عن أكثريتها، وإن كان ذلك لا ينفي حقيقة أن الدولة الوطنية العربية المتقدمة، ستكون مسؤوليتها أكبر وتأثيرها أعمق، ولكن لن تكون أبداً بديلاً عن الكل، أو نائبة عن الأمة العربية وشعوبها.
إقرأ أيضا: القضية الفلسطينية أمام مخاطرالتصفية.. قراءة في كتاب
إقرأ أيضا: هل ما زالت فلسطين قضية مركزية للعالم العربي؟ كتاب يجيب
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب لبنان كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة معرکة طوفان الأقصى القضیة الفلسطینیة الولایات المتحدة الرسمی المصری قطاع غزة
إقرأ أيضاً:
فصول من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. (7) جابوتنسكى «الملهم»
في حلقة جديدة من كتابه «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى» الصادر عن دار كنوز للنشر والتوزيع يتعرض المؤلف مصطفى بكرى لأفكار روزئيف جابوتنسكى المتطرفة والتي مثلت إلهامًا لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو منذ الصغر.
يعد زئيف جابوتنسكى هو الملهم لنتنياهو في أفكاره ومواقفه، فهو مؤسس ما يسمى بـ«الحركة الصهيونية التصحيحية» بعد انفصاله عن المنظمة الصهيونية بقيادة “حاييم وايزمان.
في أعقاب الاتهامات التي وجهها إليه بالمهادنة- تجاه السياسات البريطانية والقاضية بقصل شرقي الأردن عن فلسطين وتحديد الهجرة اليهودية بحسب القدرات الاقتصادية للبلاد.
وفى مواجهة ذلك أنشأ جابوتنسكى الحركة التصحيحية عام1925، بهدف مراجعة سياسة المنظمة الصهيونية وأهدافها النهائية في فلسطين.
لقد طرح جابوتنسكى رؤيته المتطرفة التي تحدد أهداف حركته في إقامة دولة قومية ذات أكثرية يهودية في فلسطين على ضفتي نهر الأردن الغربية والشرقية، وأن ذلك وحده الذى سيلزم الفلسطينيين بجدية الأهداف الصهيونية،
ونتيجة لمواقف وأطروحات جابوتنسكى المتطرفة أصبح بمثابة المرشد والأب الروحي للكثير من المتطرفين اليمينيين، حيث تبنى مقولاته العديد من القادة الصهاينة أمثال مناحيم بيجين (1913)، إسحاق شامير (1915)، ارنيل شارون (1928)، غيئولا كوهن (1925)، ايهو اولمرت (1945)، بنيامين زئيف بيجن (1943)، دان مريدو (1947)، بنيامين نتنياهو (1949)، تسيبى ليفينى (1958) وغيرهم كثيرون.
كان جابوتنسكى يرى أن المشكلة اليهودية لن تحل إلا بحل جذري لهذه المشكلة بتجميع اليهود في بقعة أرض خاصة بهم، ويتم الاعتراف بها من قبل المجتمع الدولي، وخاصة الدول العظمى.
وكان يردد دومًا: «إذا كانت المشكلة اليهودية هي مشكلة عدم وجود بقعة أرض»، وتساءل قائلًا: «إذا كانت المشكلة اليهودية هي مشكلة عدم وجود بقعة أرض»، إذن: لماذا في هذه البلاد بالذات، والتي تشكل الوطن القومي للفلسطينيين، وليس في أي بلد آخر، يجب أن يقام الوطن القومي لليهود؟!
وكانت إجابة جابوتنسكى على هذا السؤال في مقال كتبه عام 1905، بعنوان “الصهيونية وأرض إسرائيل” إلى أن اختياره فلسطين لا ينبع من عاطفة أو غريزة فطرية، وإنما هو مبنى على اعتبارات عقلانية عملية تقتضى هذا الاختيار،
وقال: «إن العلاقة بين الصهيونية وصهيون بالنسبة لنا ليست مجرد مسألة غريزة أو عاطفة قوية يجب الحفاظ عليها، وإنما أيضًا استنتاج راسخ شديد الأهمية ينبع من اعتبارات وضعية خالصة».
وأشار جابوتنسكى في مقاله إلى أن الحركة الصهيونية لن تنجح في تحقيق أهدافها في أية بقعة أخرى،
عدا أرض فلسطين لأن مثل هذه البقعة لا تلائم رغبة الشعب الفلسطيني وإرادته، بمعنى إنه إذا كانت بقعة الأرض المستهدفة لا تجتذب اليهود بمجموعهم، ولا تلبى رغباتهم، فإن الحركة الصهيونية لن تنجح عندئذ في تجنيدهم من أجل تحقيق أهدافها وبذلك لن تستطيع التحول إلى حركة شعبية.
وقال جابوتنسكى: «إن الطريق الوحيد الذى يمكن لحركة يهودية قومية السير فيه، كي تكون حقًا حركة شعبية، هو الطريق المؤدى إلى أرض إسرائيل»، أي إنه إذا اختارت الحركة الصهيونية أية بقعة أرض لا تكون الجماهير اليهودية مستعدة للهجرة إليها فإن الحركة لن تنجح في تشييد البيت القومي اليهودي، وأضاف: «إن المحنة اليهودية لا تكفى من أجل نجاح الحركة الصهيونية في تحقيق أهدافها، وإنما هناك حاجة لهدف (بقعة أرض) تتوفر فيها قوة جذب لليهود المشتتين في دول العالم موجودة فقط في فلسطين، فهي بحكم الرابطة الدينية، بقعة الأرض الوحيدة القادرة على اجتذاب جموع اليهود إليها».
كان جابوتنسكى يطالب اليهود بإخراج ما أسماه بـ”الروح الشرقية” ذات انتماء أوربي وقال: «في أي نزاع بين الغرب والشرق، سنكون دومًا إلى جانب الغرب، فهم قد مثلوا تراثًا أكثر تفوقًا من الشرق على مدار الألف سنة الماضية»،
وقال: «ليس لنا نحن اليهود، أي قاسم مشترك مع ما يسمى “الشرق” ونحمد الله على ذلك، وأنه يجب فطم اليهود الشرقيين (السفارديم)».
وقال: «نحن ذاهبون إلى (أرض إسرائيل)، أولًا: من أجل راحتنا القومية، وثانيًا: كما قال نورداو: من أجل توسيع حدود أوربا حتى نهر الفرات، وبكلمات أخرى من أجل إزالة كل مخلفات الروح الشرقية من (أرض إسرائيل) وبشكل جذري في كل ما يخص اليهودية فيها».
وعندما تم إخبار جابوتنسكى أن المسلمين هم أقرباء اليهود، وبالتالي لا يمكن أن يكونوا خصومًا لهم، رد قائلًا: «إسماعيل عليه السلام- ليس عمنا، نحن ننتمى لأوروبا منذ ألفى سنة، ونحن نساهم في خلق حضارتها، ووصف العرب والمسلمين بأنهم “رعاع يزعمون بثيابهم الرثة وألوانها الصارخة المتوحشة، وقال: إنه لابد من كنس الروح الإسلامية من أرض إسرائيل».
لقد كان من رأى جابوتنسكى في هذا الوقت يقضى بضرورة إقامة الدولة اليهودية في فلسطين وشرق الأردن مهما نجم عن ذلك من ضرر قد يلحق بالسكان (العرب) في القطرين، لأنه لا يجوز أن تترك المشكلة اليهودية دون حل بسبب مليون عربي، كانوا يقطنون يومئذ هناك، وقال: ثم إن العرب يستطيعون التنازل عن فلسطين وشرق الأردن، وتكفيهم الأراضي الشاسعة الأخرى التي يقطنوها، خصوصًا وأن عدد سكانها قليل للغاية بالنسبة إلى مساحتها.
وفى بداية انضمامه للحركة الصهيونية لم ينظر جابوتنسكى للعرب كأمة لها طموحات قومية في فلسطين بل تحدث عن فلسطيت كمقيمين أو “سكان محليين” يشكلون أغلبية في “أرض إسرائيل” بل واقترح في عام1905، استبدال العمال العرب في المستوطنات بعمال يهود، وبرز ذلك بالحاجة إلى “عبرنه” العمل، وبهدف زيادة الأمن في المستوطنات إذا اندلعت صدامات بين العرب والصهاينة.
وكان جابوتنسكى يدعو منذ عام1923، إلى رفض مبدأ المفاوضات مع العرب، ومحاولة التوصل لحلول سلمية ترضى الطرفين، لاعتقاده استحالة ذلك مادام الصهاينة أقلية في فلسطين، فحين تحقق الأغلبية لليهود فإن العرب سيقبلون صاغرين الوجود الصهيوني المتمثل بدولة اليهود.
وقال: «لا يملكنا أن نحلم باتفاق حر بيننا وبين العرب (أرض إسرائيل) لا الآن، ولا في المستقبل القريب، لا يوجد أي أمل- مهما كان ضعيفًا- للحصول على موافقة عرب (أرض إسرائيل) لتحويل فلسطين لبلد ذي أكثرية يهودية- كما انه لا يوجد- ولو مثل واحد على الأقل- لاستيطان بلد بموافقة أبنائه الأصليين».
وقال: «إن هؤلاء ولا فرق في ذلك إن كانوا متمدنين أو همجيين- حاربوا دائمًا بعناد المستوطنين الجدد.. مادام هناك بريق من الأمل بالتخلص من الاستيطان الغريب»، وقال: «هكذا تصرف عرب (أرض إسرائيل)».
كان جابوتنسكى يدعو دومًا إلى ترحيل من يسميهم بـ”عرب إسرائيل” من فلسطين وشرق الأردن إلى العراق وسوريا أو أية مناطق أخرى، وقد نشرت الحركة التصحيحية التي يقودها إعلانًا في صدر صحيفة “نيويورك تايمز” يوم 4أكتوبر1943، قال فيه “فلسطين لليهود والعراق للعرب” وقد وقع على الإعلان 25 عضو في الكونجرس الأمريكي و17رجل دين مسيحي و25 رئيس جامعة أو كلية أمريكية وشخصيات عامة وصحافيون وفنانون وقد اقرت اللجنة خطة تضمنت الترويج لزراعة المناطق المهجورة بين دجلة والفرات بالقمح وتقديم حوافز كبيرة لعرب فلسطين والأردن للاستقرار في العراق، وتوفير إمكانيات مالية وهندسية لمشروعات إعادة التوطين والمساعدة في إنشاء وكالات لإعادة توطين اليهود في فلسطين والعرب الفلسطينيين في العراق.
لعب جابوتنسكى بمواقفه وأفكاره دورًا هامًا في رؤية الليكود ورموزه لقضية الصراع العربي- الإسرائيلي، وأطروحاته المتطرفة للمسالة اليهودية.
ويرى إرن كابلان رئيس قسم الدراسات الإسرائيلية في جامعة سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة في بحث نشره بعنوان “لمحة عن الأيديولوجية التي تواجه نتنياهو”، أن الحرب الإسرائيلية المميتة الحالية التي تحولت إلى كارثة إنسانية على الفلسطينيين في غزة، إنما تعكس أيديولوجية تعرف باسم “الجدار الحديدي” التي أطلقها جابوتنسكى في عشرينيات القرن الماضي، وشكلت الملهم الأساسي طيلة مسيرة حكم نتنياهو، على مدى الفترة الماضية.
ويرى الكاتب الأمريكي المختص في الشؤون الدولية “زاك بوشامب” في مقال نشره بعنوان “الأفكار التي تحدد شخصية نتنياهو” أن موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي المتشددة التي قوده أحيانًا إل خلافات مع أقرب حلفائه مثل الأمريكيين، سببها انتماؤه إلى التيار الصهيوني الأقدم والأكثر تشددًا الذى نشأ على يد جابوتنسكى.
وقال الكاتب: «إن جابوتنسكى الذى ولد في أوريسا بروسيا عام 1880، انتج رؤية فكرية تمخضت فولدت في نهاية المطاف حزب الليكود والسياسات المشددة التي ينتجها الأن نتنياهو، والذى يؤمن بالضغط العسكري والسحق والتدمير وسيلة وحيدة لتحقيق الأمن لإسرائيل، هي تجسيد حرفي لأفكار مرجعه الصهيوني “زئيف جابوتنسكى”».
وقال الباحث اليوناني “يورجوس ميترالياس” في دراسة منشوره: «إن ما يفعله حكام إسرائيل اليوم نتاجًا للارتجال ولا اختراعًا وليد اللحظة، ذلك أن نتنياهو الذى حطم الرقم القياسي في رئاسة الليكود والحكومة الإسرائيلية هو نسل حقيقي للرحم “الفاشي” الذى اُنجب مناحيم بيجين وإسحاق شامير وغيرهما من اليمينيين المتطرفين التي ألهمها وأنشأها وقادها جابوتنسكى قبل قرن من الزمان».
ويؤكد متيرالياس: «أن قادة الليكود بأفعالهم الشنيعة اليوم لا يأتون بشيء جديد، فهذا ما كانت تبشر به المنظمات الإرهابية والفاشية “بيتار، أرجون، شتيرن”».
وأضاف: «أن هناك فرقًا مهمًا بين الأمس واليوم، ففي ذلك الوقت كان جابوتنسكى وأهميير وبيجين وشامير سيئ السمعة، وكان السياسيون في العالم يتجنبون صحبتهم».
أما اليوم، قال ميترالياس: «إن الوضع مختلف تمامًا، إذ تحول الفاشيون والإرهابيون سيئو السمعة في عام1948، ليس فقط إلى حلفاء مقبولين تمامًا، بل إلى شركاء إستراتيجين متميزين يفرضون خياراتهم الإستبدادية على أغلب الحكومات والبلدان الغربية».
وتدعو “الحركة التصحيحية” والتي شكلت الأيديولوجية والعقيدة السياسية لحزب الليكود اليميني إلى طرد الفلسطينيين من ديارهم، وأن تمتد الدولة اليهودية إلى حدودها “التوراتية” انطلاقا من الشعار الذى طرحه قائد الحركة صاحب مقولة “لنهر الأردن ضفتان، هذه لنا، وتلك أيضًا”.
أما نتنياهو نفسه فهو يعتبر أن قوة إسرائيل تابعة من فكرة لجابوتنسكى تسمى “الجدار الحديدي”.
ذلك الجدار الذى يعنى قوة عسكرية ساحقة تضمن البقاء للدولة اليهودية وتجبر العرب على قبولها.
ويرى الكثير من الباحثين أن تطبيق نتنياهو لرؤية جابوتنسكى واضح للغاية سواء من حيث تكثيف الاستيطان ورفض التنازل عن أي شبر من الأراضي في الضفة الغربية التي يراها أرضًا يهودية، أو من خلال سياسة التدمير والقوة الساحقة في غزة، حيث يرى مستندًا إلى أفكار جابوتنسكى التى ترى أن الحل الوحيد هو دولة يهودية قوية، ترفض أي تنازلات وتحدد التهديدات التي يواجهها “الشعب اليهودي” وتتصدى لها باستعراض ساحق للقوة يقضى على كل من يفكر في مواجهتهم، وتجبر العرب في النهاية على التخلي عن قادتهم الذين يتبنون نهج المقاومة، وتسليم القيادة لمن يسمونهم بالمجموعات المعتدلة التي يمكن لليهود التوافق معهم.
اقرأ أيضاًفصول من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. (6) وصايا الجد
«نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى» (5).. الحصاد المر
فصول من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. (4) عملية السويس وتفاصيل العبور الذى كاد يودى بحياة نتنياهو