مقدمات العملية السياسية لوقف الحرب في السودان
تاريخ النشر: 6th, January 2025 GMT
د. الشفيع خضر سعيد
مرة أخرى نقول إن أي مبادرة لوقف الحرب الدائرة الآن في السودان، لن تحقق اختراقا لصالح وقف هذه الحرب إلا إذا تأسست على إعلان مبادئ مقبول لكل الأطراف، وعلى رؤية تضع في قمة أولوياتها مخاطبة المأساة الإنسانية الراهنة والمتفاقمة في البلاد، وخاصة مناطق النزوح ومواقع اللجوء، وتقدم إجابات واضحة على ما أسميناه الأسئلة الصعبة المتعلقة بأسباب انفجار هذا النزاع الدامي.
كيف نطور إطارا للعدالة والعدالة الانتقالية يضمن المساءلة عن إشعال جريمة الحرب وما ارتكب من آثام وانتهاكات قبلها وأثناءها، ويضمن إنصاف الضحايا وعدم الإفلات من العقاب؟
صحيح أن طرفي الحرب، القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، من الممكن أن يتوصلا، بمساعدة هذا الوسيط أو ذاك، إلى اتفاق لوقف إطلاق النار ووقف القتال، ولكن ليس باستطاعتهما وحدهما وقف الحرب ولا يمكن أن يحددا هما فقط مصير السودان ومستقبله. فالحرب لن تضع أوزارها، ولا يمكن رسم وتحديد مستقبل ومصير السودان إلا من خلال عملية سياسية تصممها وتقودها القوى المدنية السودانية الرافضة للحرب. ويجب في البداية أن تتوفر عند هذه القوى الإرادة القوية والرؤية الصحيحة القائمة على القناعة التامة بأن الوطن كله أصبح في مهب الريح، وأن خطرا داهما يتهدد الجميع، وأن ما يجمع بين هذه القوى من مصالح في الحد الأدنى الضروري للحياة في سودان آمن، أقوى مما يفرقها، وأنها لابد أن تلتقي وتعمل بجدية وإخلاص لتمنع انهيار الدولة السودانية، ولتتماهى مع حلم الشعب السوداني اليوم في وقف الحرب وبسط السلام واستكمال ثورته ورتق جروح الوطن. وبالضرورة أن تجيب العملية السياسية على أسئلة إرساء ملامح فترة انتقال بقيادة مدنية، لا يتم تشويهها بأن تختصر فقط في اقتسام كراسي السلطة، وإنما إكسابها طابعا تأسيسيا عبر مخاطبتها لجذور الأزمة السودانية والأسباب الجوهرية لاندلاع الصراعات والحروب في البلاد، ومنها هذه الحرب المدمرة، وتقديم الحلول التي تضمن عدم تكرارها وعدم إعادة إنتاج الأزمة في السودان. وبالنظر إلى هذه المهام المصيرية، فإن العملية السياسية ليست فرض كفاية، يقوم بها قسم من القوى المدنية ويسقط عن أقسامها الأخرى، بل هي تشترط مشاركة كل القوى المدنية الرافضة للحرب في حوار سوداني سوداني. وفي هذا الصدد، من الضروري الإشارة إلى أن المجهودات التي قام ويقوم بها الاتحاد الإفريقي لدعوة القوى المدنية السودانية، وكذلك جهود دولة مصر في عقد مؤتمر القوى المدنية السودانية في يوليو 2024، وجهود المنظمات الدولية غير الحكومية في تنظيم العديد من ورش العمل والسمنارات للقوى المدنية السودانية، مثل مركز الحوار الإنساني، ومنظمة الكوارث الدولية، ومنظمة بروميديشن الفرنسية وغيرهم، كل هذه الجهود ليست هي العملية السياسية في حد ذاتها، وإنما هي مجهودات لجمع الفرقاء المدنيين السودانيين حتى يمكنهم التوافق حول تفاصيل هذه العملية السياسية، الأمر الذي لم ينجح حتى اللحظة. وهي مبادرات أعتقد أنها مرحب بها من كل القوى المدنية السودانية، إلا أن تعددها، واحتمال أن كل مبادرة قد تحمل معها أجندتها الخاصة، وقد تتعارض مع المبادرات الأخرى، قطعا سيؤدي إلى تشتيت الجهود وتقويض فرص تحقيق الهدف المنشود حول الرؤية المتوافق عليها، مما يزيد من تعقيد المشهد ويصعب عملية الحوار والتوافق.
في المقالات القادمة سندلو بوجهة نظرنا الخاصة حول تفاصيل العملية السياسية، ولكن كمدخل أو مقدمة نقول يجب على القوى المدنية السودانية، هي تفكر في تصميم العملية السياسية، أن نتخلص من ثنائية التصنيف التي أفرزتها الحرب اللعينة، والتي تحاول أن تجبرها على الانحياز لهذا الطرف أو الآخر. فالثنائية الصحيحة هي بين معسكرين: معسكر السلام ومستقبل السودان الواحد الآمن والمستقر، ومعسكر الحروب والدمار وتفتيت وحدة البلاد. كما ينبغي أن نتوقف عن استغلال ما يحدث في الحرب وما يقوم به الطرفان المتحاربان من انتهاكات، لتصفية الحسابات السياسية والشخصية. إن كل الجرائم التي تحدث من أي طرف من الأطراف هي محل للإدانة بلا تردد، وما ينبغي العمل عليه ليس مقارنتها ببعضها البعض أو استخدام التبريرات المخجلة للتهوين من شأنها، بل العمل على كشفها وإدانتها جميعها، وإستدعاء ضغط عالمي وإقليمي حتى تتوقف.
نقلا عن القدس العربي
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: القوى المدنیة السودانیة العملیة السیاسیة فی السودان فی البلاد
إقرأ أيضاً:
الحكومةُ الموازيةُ هي بدايةُ المخرج
الحكومةُ الموازيةُ هي بدايةُ المخرج
النور حمد
منذ أن فقد الكيزان وجيشهم غير الوطني، وغير المهني، المؤدلج، ومليشياتهم، السيطرة على المقار الحكومية في الخرطوم، وهروبهم إلى بورتسودان في أقصى الشمال الشرقي من البلاد، متخذين منها عاصمة بديلة، بدا لي، بوضوحٍ شديد، أن في الأمر رمزية. أعني، رمزيةً تشير إلى أن تماسكهم المعنوي قد تضعضع، وأن أوان ذهابهم قد أوشك. وقد يطول الوقت، وقد يقصر، لذهابهم النهائي، وفقًا لعواملَ ومتغيراتٍ كثيرةٍ، لكنهم حتمًا ذاهبون، في نهاية الأمر. فمثل هذا الشر المستطير مصيره الزوال. وكما قال ملك ملوك الحكمة في الشعر العربي، أبو الطيب المتنبي: “أين الأكاسرةُ الجبابرةُ الأُلَى، كنزوا الكنوزَ، فما بَقِينَ، ولا بَقُوا / مِنْ كلِّ من ضَاقَ الفضاءُ بجيشِهِ حتَّى ثَوَى فحَوَاهُ لَحْدٌ ضيِّقُ / فالموتُ آتٍ والنفوسُ نفائسٌ والمُسْتَعِزُّ بما لديهِ الأحمَقُ”.
لقد كان هروبهم إلى ذلك الطرف القصي من البلاد، الذي تفصل بينه وبين بقية البلاد سلسلةٌ جبليةٌ ليس فيها سوى معبرٍ واحدٍ يسمى العقبة، جرى نحته في قمة الجبل، أمرًا له مغزاه، فهم لم يختاروا بورتسودان عشوائيًا. فلقد كان في وسعهم اختيار عطبرة، وهي تقع حيث الحاضنة الشعبية للكثير من قيادات الجيش والكيزان، أو مدني التي لم يكونوا قد فقدوها بعد، أو كوستي. لكنهم اختاروا بورتسودان لأنهم كانوا يبحثون عن أكثر المواقع تحصينًا من الناحية الجغرافية، التي يسهُل الدفاع عنها، مثلما يسهُل الهروب منها، حين يصبح الهروب خيارًا لا مندوحة منه.
لقد استطال أمد الحرب الغادرة التي أشعلوها، والتي قدَّروا لنهايتها بضع ساعاتٍ، ثم بضعة أيامٍ، ثم بضعة أسابيع، ثم ما لبث أن أمتد نهايتها منفتحًا على المجهول. وهاهي الحرب توشك، الآن، أن تكمل عامها الثاني ولم يظهر في الأفق، ما يشير إلى نهايتها. وما أن بدأ الحديث عن نية بعض القوى المدنية والعسكرية تشكيل حكومة موازية لحكومة بورتسودان اللاشرعية، في الأراضي التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، هاجت الحيَّةُ الإعلاميةُ الكيزانيةُ ذات الألف رأس. وآذرتها في ذلك بعض القوى السياسية المحسوبة على الثورة، التي لوت ذراعها جهاتٌ خارجية. طفق هذان الحليفان اللَّذان يجمع بينهما حلفٌ غامضٌ غير مكتوب، يتباكيان على وحدة البلاد، مطلقين صراخًا ومظهرين جزعًا مخاتلاً من خطر التقسيم.
يعلم جميع السودانيين ماذا فعل الكيزان، حين قرروا فصل الجنوب. فهم لم يستشيروا أحدًا من القوى السياسية، ولم يأبهوا برأي أحدٍ قط. وإنما مسحوا وجوههم بمَرَقِ اللاحياء المتوفر لديهم، وقاموا بفصله والشمس في كبد السماء، والناس قيامٌ ينظرون. بل شرعوا في تزيين ذلك الفعل بأن قالوا: إن الاقتصاد سيصبح أفضلَ حالاً، بسبب توقف الصرف على الحرب التي أنهكت الخزينة، وإن “الشريعة المدغمسة” ستذهب مع فصل الجنوب، لتأتي بعدها الشريعة الصريحة النظيفة. لكن، ما أن حدث الانفصال، فقدت البلاد ثلثي عائداتها من النفط. ودخلت في ضائقةٍ اقتصاديةٍ فجائيةٍ حادةٍ، ظلت تتفاقم حتى يومنا هذا. كما لم ير أحدٌ منا تطبيقًا للشريعة؛ سواءً “المدغمسة” التي أطلق عليها التسمية المخلوع عمر البشير، ولا غير “المدغمسة” التي وعدنا بها. وهكذا هم الكيزان، أفَّاكون محترفون، يَلبسون لكلِّ حالةٍ لُبُوسَها، ويزيِّنون الباطل حين يرون أن تزيينه يخدمهم. ويُشينون الحق، حين يرون في إحقاقه تهديدًا لمصالحهم الدنيوية الفجة الضحلة. فالحق والكيزان ظلا يقفان على الدوام، على طرفيْ نقيض، وسيبقيان هكذا.
فئة الحالمين في الجسم المدنيالقوى المدنية التي آرزت الثورة قسمان: قسمٌ ثوريٌّ حقيقيٌّ يريد للثورة أن تبلغ أهدافها التي من أجلها قامت، ومن أجلها استشهد شهداؤها وشهيداتها. وقسمٌ آخر يرى أن من الذكاء والحصافة أن يقوم بتوزيع البيض بين سلَّة الثورة وسلة الكيزان. وهذا ليس جديدًا، فما من ثورةٍ من الثورات، عبر التاريخ، إلا وكانت منقسمة الصف. ففي كل جسمٍ عريضٍ ساند أي ثورةً من الثورات، هناك جزءٌ منه له، بالضرورة، ارتباطاتٌ عضويةٌ بالنظام المراد اقتلاعه. هذا القسم ذو الموقف المائع يتحرك وعينه على المعسكرين المتصارعين، لأن ارتباطه الوثيق بمصالحه يجعله ينأى بنفسه من المغامرة. فهو يريد أن يكسب في الحالتين.
لقد حكمنا الكيزان لستةٍ وثلاثين عامًا، حتى الآن. والسبب هو أنهم يحدِّدون هدفهم بوضوح، كما قال عبد الوهاب الأفندي، ويتجهون إليه مباشرة، ولا يلتفتون إلى ما يقوله الناس عنهم. بل، ويسحقون من يقف في طريقهم، بلا رحمة. لم يكترث الكيزان طيلة هذه العقود بالشعب السوداني؛ مات أو عاش، أو ماذا يريد. ولا بالقوى الإقليمية والدولية، وماذا ترى أو تريد. ورغم ذلك، بقوا في السلطة، على الأقل، في كثيرٍ من أجزاء السودان، حتى الآن. أما القوى السياسية التي ظلت تعارضهم فقد كانت بائسة الأداء بسبب انغماسها في تكبيل نفسها، برسم خطوطٍ حمراء ظلت تحد من مدى فاعليتها. لكن، إذا نظرنا إلى الكيزان، واسترجعنا حديثهم عن مثلث حمدي، ثم قيامهم عن قصدٍ بفصل الجنوب، ثم الترويج عالي الصوت، هذه الأيام، لما تُسمى “دولة النهر والبحر”، لاتضح لنا الفرق بينهم وبين غيرهم. فالآن، فقد شرع الكيزان، بالفعل، في تقسيم البلاد بطباعة عملةٍ لجزء منها، وإجراء امتحانات الشهادة في ست ولايات فقط، ومنع وصول الإغاثة إلى المناطق التي لا يسيطرون عليها. وكذلك، منع أهل تلك المناطق من استخراج الوثائق الثبوتية. مثل هذا الصلف وهذه الرعونة لا يجدي معها سوى قلب الطاولة عليها، مرَّةً واحدة. وهذا ما شرعت فيه بعض القوى المدنية والعسكرية، التي تتجه الآن لإعلان حكومتها الموازية.
من ينادون بوقف الحرب بناءً على حلًّ متفاوضٍ عليه مع الكيزان، يكفل للثورة تحقيق كامل أهدافها، كما أرادها الثوار، إنما يحلمون، لا أكثر. فالكيزان لن يقبلوا إلا حلًّا يبقيهم في السلطة. ولربما يقبلون في البداية بوجودٍ جزئيٍّ في السلطة، لكنهم لن يفعلوا ذلك إلا ولديهم خطة جاهزة لكي تصبح السلطة كاملةً في أيديهم، وحدهم، ولو بعد حينٍ. فهم سوف ينقلبون على الاتفاق مثلما فعلوا مع الاتفاق المدني العسكري الذي نصت عليه الوثيقة الدستورية. الكيزان لا يتسوَّلون الحلول لدى المجتمعين الإقليمي والدولي، مثلما تفعل ذلك القوى السياسية المدنية، وإنما يعملون على فرض إرادتهم على الجميع وابتزازهم بمختلف الأساليب حتى يصلوا إلى ما يريدون. ومن المدهش حقًّا، أن تنسيقية تقدم التي لم تُدع قط لأي جولةٍ من جولات المفاوضاتٍ التي جرت حتى الآن، لا يزال قطاعٌ منها يتسوَّل وقف الحرب راجيًا أن يعود إليه المسار المدني الديمقراطي من القوى الدولية والإقليمية، على طبقٍ من الفضة.
خلاصة القول، إعلان الحكومة الموازية في الأراضي التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع هو الفرصة الوحيدة المتبقية لنزع زمام المبادرة من القوى الكيزانية. وهو الذي سيعجِّل بإيقاف الحرب وفرض خيار السلام. الحراك المدني الذي لا شوكة له، ولا أسنان، الذي ينتظر أن ينتزع الحقوق من قوةٍ شرسةٍ وديناميكيةٍ لا تبالي بشيءٍ، كقوة الكيزان، عن طريق الهتاف والمناشدة، حراكٌ حالم. فهو بهذا الوضع لا يعدوا كونه حراكًا هامشيًّا، وظاهرةً صوتيةً غير مؤثرةٍ، لا يأبه بها أحد. فليوحِّد من يقفون في صف الثورة بندقيتهم، وقواهم السياسية في بنية واحدة متماسكةٍ متعاضدة، ثم يعلنوا حكومتهم على رؤوس الأشهاد، بلا مواربة. وسيرون، حينها، كيف سيمنحهم المجتمعان الدولي والإقليمي وزنًا لم يسبق له أن منحهم إياه. من ينتظر من الكيزان أن يكونوا عقلاء، أو متعاطفين مع الناس في عذاباتهم، وبلواهم، وتشردهم، وجوعهم، أو مبالين بدمار البلاد وهلاك العباد، هو شخصٌ غير عاقل.
الوسومالجيش الحكومة الموازية الكيزان النور حمد