الحمد لله الغفور، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارِك على سيدنا محمد نور النور، وبعدُ:
فإن الأمة الإسلامية أنتجت أئمةً فُضلاء وسادةً أتقياء، كان لهم الأثر في الحياة العامة والعالم الإسلامي بأسره، حملوا على عاتقهم نشر الرسالة المحمدية والطريقة النبوية بعد تهذيب نفوسهم وتربيتها بالآداب السّنيَّة، وكان من هؤلاء المربي العابد والصوفي الزاهد والمصلح والمفكر الرائد الإمام محمد زكي إبراهيم؛ أحد رموز الإصلاح في عصرنا الحديث، الذي لم يكتفِ بدراسة العلوم نقليِّها وعقليِّها فحسب، بل نزعت نفسه إلى التطلع حوله ومعايشة مشاكل بيئته والنظر إليها بعين فاحصة ناقدة؛ لتقديم رؤية عميقة للمجتمع الإنساني من منطلق ما درَسه ودرَّسه من ثوابت شرعية قررتها الشريعة الإسلامية وأحكامها المختلفة، هدف من هذه الرؤية إلى إقامة ذلك المجتمع على أساس ربَّاني شِيَمه الإصلاح والصلاح والرُّقي والتقدم والفلاح.


ومن الجوانب التي اعتنى بها لبناء المجتمع جانب الأسرة التي هي قوام المجتمع وأساسه المتين، حاثًّا على تماسكها وترابطها وقيام كل فرد من أفرادها بدوره الذي يتلاءم وطبيعته الجبليَّة التي جبله الله تعالى عليها، فيذكر رحمه الله أن «الحياة الدنيا رجل وامرأة إذا تمَّت لهما معًا معاني الإنسانية الخاصة بكل نوع على حسبه، وما هو مخلوق من أجله، تمَّت هذه الحياة وبدت في صورتها التي خلقها الله عليها، كاملة في كل وجوهها، ماضية في طريقها، تؤدي مهمتها كما هي، وكما يجب أن تكون».
ويُعدُّ الإمام الرائد رحمه الله تعالى في نظرته للمجتمع كالطبيب الذي ينظر إلى الأمراض المستشرية من حوله أو تُعرض عليه؛ ليصف العلاج المناسب لتلك الأمراض المجتمعية، وكان من تلك الأمراض الحياة الزوجية وما يكون فيها من مشكلات قد تعصف بالمجتمع، لذلك تجده يقرر أن «الأمراض الزوجية التي هي علة العلل في حياتنا الاجتماعية».   
ومن منطلق هذه النظرة وضع الإمام الرائد رحمه الله تعالى أُسسًا ثابتةً لبناء حياة زوجية خالية من المشاكل شيمتها الألفة والمودة والتراحم والحب بين الزوجين الذي وصفه رحمه الله تعالى بأنه «سر من أسرار الغيب المعجِز، تنبني عليه دعامة الإنسانية من طرف وتنهدم من طرف آخر، وهو قوام العمران في الاجتماع العالمي». 
ومن الأسس التي ذكرها لبناء الأسرة التي هي أهم لبنات المجتمع الرباني: التسامح، والتعاون، وتقدير الواجب أو الوفاء، وزنة المناسبات بوضع الرجل الأمور في نصابها الموضوع له في معاملته مع زوجته وكذلك الزوجة.
ويؤكد رحمه الله تعالى على أن الحب بين الزوجين أحد أسس بناء الحياة الزوجية.
ومن مظاهر تأكيده على استقرار الأسرة اعتنى بشقها المسئول عن تربية أبنائها والقيام على خدمة أفرادها؛ فأفرد كتابًا في بيان مظاهر المجتمع النسائي والتي أبرزها الإسلام وقررها لها، ومن ذلك بيان صفة لبسها ومظهرها وزينتها وعملها وتعاملها مع الآخر ومكانتها وتربية البنات والأخوات وتحديد النسل وتنظيم الأسرة وخروج الرجال من الأهل والأجانب البيوت على النساء في غياب الأزواج، وأحكام الزواج والخطبة، والصبر على فقد الأولاد، وفضل المرأة الصالحة ومكانتها، ولا شك أن مثل هذه الأمور تجعل الزوجة والمرأة على قدر كبير من الوعي بأمورها العامة التي كفلها لها الدين الإسلامي، فتنشأ وتتربى على حفظ حقوق الآخرين من حولها سواء كان زوجًا أو أخًا أو صديقًا، ينتج عن ذلك كله حرصها على استقرار حياتها وأسرتها وسعادة من حولها، فتكون حياة زوجها وأبنائها قائمة السعادة والتعقل والتفهم، وهذه كلها عوامل الاستقرار والبناء. 
وكذلك نجد الإمام الرائد يتناول أحكام الطلاق في الشريعة الإسلامية، ولكنه قبل أن يبدأ سرد تلك الأحكام بيَّن حقيقة مهمة صدَّر بها كلامه هذه الحقيقة تتمثل في بيانه أن الشريعة الإسلامية لم ترغب في الطلاق أو حثت أحد الزوجين على طلبه واعتباره الحل الأوحد في حلول المشكلات الأسرية، واستدل على ذلك بالأحاديث النبوية التي تؤكد هذا المعنى؛ مبينًا أن الطلاق الحكمة من مشروعية الطلاق هو أن يكون حلًّا شرعيًّا عن استحكام الخلاف واستحالة الحياة بين الزوجين ولا سبيل للعيش والاستقرار إلا بالفرقة والابتعاد المتمثل في الطلاق، الأمر الذي يدل على حرصه على استقرار الأسرة وبقاء بنائها قائمًا على أساس متين بعيدًا عن الفرقة والتشرذم بين أفرادها.
وأرشد رحمه الله تعالى المرأة إلى أن رسالتها في الحياة تتمثل فيما بيَّنه لها الشرع الإسلامي، وما أرشدها إليه النبي صلى الله عليه وسلم من حسن تبعلها لزوجها وطلبها مرضاته واتباعها موافقته؛ وذلك بحسن إدارتها لبيتها عقليا وعمليا وعاطفيا واقتصاديا ودينيا، وهذا كله يمثل رسالتها العائلية المقدسة.
وحرص الإمام الرائد رحمه الله على بيان الحقوق التي على أحد الزوجين تجاه الآخر؛ ليلتزمها كل واحد منهما مما يؤدي إلى الحفاظ على الأسرة وبنائها شامخًا دون مشكلات تقض هذا البناء وعليه يتزعزع المجتمع ويخرج عن كونه ربانيًّا، ومن الأحكام التي ذكرها وتتعلق بحقوق الزوجين: حق النفقة التي ألزمها الشرع على الرجل تجاه زوجته وأبنائه، بله جعلها أولى النفقات المفروضة على الرجل بعد نفقة نفسه.
وتعرَّض الإمام رحمه الله تعالى لأمر في غاية الأهمية من شأنه أن ينشر بين أفراد الأسرة الود والحب والألفة والتعاون بعيدًا عن الحقد والغيرة المذمومة وقسوة المشاعر، هذا الأمر هو العدل في الأسرة الإسلامية- كما عنون له رحمه الله تعالى-، مبينًا صور تلك العدالة داخل الأسرة الواحدة؛ فبدأ بالإشارة إلى المعاشرة بالمعروف بين الزوجين كما أمر بها القرآن الكريم، والتي تشتمل على كل قول وعمل يزيد المودة والرحمة، ثم عدد أشكال هذا المعروف فذكر الابتسامة والكلمة الرقيقة والتغاضي عن بعض الأخطاء اليسيرة والشورى والتعاون وغير ذلك. 
اتضح مما سبق حرص الإمام الرائد رحمه الله تعالى ترابط واستقرار الحياة الأسرية التي هي من أهم المكونات المجتمعية، والتي من خلال صلاحها واستقرارها يتطرق الصلاح والاستقرار إلى المجتمع بأسره؛ ليكون مجتمعًا ربانيًّا.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: العالم الإسلامي الأمة الإسلامية المزيد رحمه الله تعالى بین الزوجین التی هی

إقرأ أيضاً:

الأشتر والمسؤولية الرياضية

 

مالك ابن الحارث الأشتر، الذي ارسله الإمام علي رضوان الله عليه، واليا على مصر وقد أوصاه بالكثير من الوصايا التي مصدرها كتاب الله وعهدها الإيمان المطلق برضا الله واتباع سنة رسوله الكريم صلى الله عليه واله وسلم، مما جاء في هذا العهد تحمل المسؤولية، والتي أوضحها الإمام علي سلام الله عليه في العهد الذي يعتبر وثيقة مهمة قدمت من خلاله المهام والمسؤوليات والضوابط والمعايير لإدارة شؤون الأمة في كل مواقع المسؤولية، وفي كل وظائف الدولة، وفي كل المواقع التي يكون الإنسان فيها مسؤولا عن أي مجال من المجالات واي مستوى من المستويات كمسؤول أو موظف في الدولة، لقد أشار العهد أو الوصية إلى منطلق أداء المسؤولية بأنها العبودية لله، وليس كما يظن البعض بأن المسؤولية تتضمن التضخيم والتمجيد وتعظيم منزلتهم، ولكنها كما وصف به الإمام علي رضوان الله نفسه بأنه عبد لله، وهذا درس كبير لكل مسؤول عن شؤون الشباب والرياضة على وجه الخصوص، لأن الانسان في أي موقع من مواقع المسؤولية يجب أن ينطلق من منطلق العبودية لله، لأن النظرة للمنصب والسلطة في وزارة الشباب والرياضة من قبل الكثير من أصحاب النفوذ والقرار «الا من رحم ربي»، بأنها موقع الامتيازات والصلاحيات ومكسب شخصي ومنبع للاستغلال والنفوذ ولنا شواهد كثيرة لمن مروا على مواقع المسؤولية وصناعة القرار وصنعوا لأنفسهم امتيازات وصلاحيات شخصية اكسبتهم ثروة من المال العام وحقوق باطلة، هؤلاء القادة والمسؤولون لأنهم من المؤكد قد حضروا البرنامج التدريبي ومحاضرات السيد القائد الخاصة بدروس عهد الإمام علي لمالك الأشتر، لكنهم يرفضون حقيقة النظرة إلى المنصب والمسؤولية العامة بأنها وظيفة عبودية فيها التزامات إيمانية كقُربة إلى الله، وفيها التزامات وضوابط، من المهم على المستوى النفسي والتربوي أن يرسخ الإنسان نفسه أنه عبد لله يخضع ويلتزم بأوامر الله سبحانه وتعالى.

لقد مر على وزارة الشباب والرياضة، العديد من القادة والمسؤولين، الذين تولوا مناصب قيادية وتحملوا مسؤوليات ومنحت لهم سلطات، لكنهم لم يفلحوا في تحقيق اهداف واستراتيجية وزارة الشباب والرياضة، ولم ينتصروا لحقوق هؤلاء الرعية لماذا؟، لان في الغالب اختيارهم لم يكن وفق نصوص عهد الامام علي لمالك الاشتر الذي جاء في نصه «إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً» وحدد شروط ومعايير اختيارهم السيد القائد في عدة معايير أولها معايير عملية وهي امتلاكه لحسن التدبير والاصابة في الرأي وحسن التصرف والقدرة على الإنجاز العملي، أي انجاز كل ما له علاقة بأنشطة وفعاليات وبرامج الشباب والرياضة، وقد غابت تلك المعايير عن اغلبهم، وثاني هذه المعايير واهمها المعايير الشخصية وهي النظافة والخلو من الفساد والسعي وراء تحقيق المصالح الذاتية ونهب المال العام، النصح لله في كل عمل يقوم به، الصدق والإخلاص والنزاهة، ومع الأسف اغلبهم ثقل على القيادة الدينية والسياسية، لم يكونوا عوناً لنصرة دين الله، ولم يحرصوا على نجاح الحركة الشبابية والرياضية، لن نفقد الامل بل ننظر الى الامام والقادم اجمل، ومع الثقة المطلقة في ان نصوص عهد الامام علي -رضوان الله- عليه لمالك الاشتر سوف تطبق في كافة مؤسسات الدولة.

مقالات مشابهة

  • الأشتر والمسؤولية الرياضية
  • إبراهيم عثمان يكتب: الحياد المستحيل
  • حكم ترك البسملة في الفاتحة أثناء الصلاة
  • ابن خلدون تكلم في أن الحرب تفسد أخلاق الناس
  • رئيس الشورى: مبادرات ولي العهد تعزز استقرار الأسرة السعودية
  • في عيد ميلادها الـ78.. نجوى إبراهيم أيقونة الإعلام التي صنعت طفولة أجيال (تقرير)
  • دينا أبو الخير: غياب الزوج الطويل يهدد استقرار الأسرة ويوقعه في الإثم
  • حكم ترك البسملة في الفاتحة أثناء الصلاة.. الإفتاء تكشف
  • مجدي أبوزيد يكتب: دور القوى الناعمة في تشكيل وعي الشباب
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: قَدَر البرهان وعفوية حماد عبد الله