4600 شخصية مرموقة تدعو ألمانيا لوقف دعمها إبادة غزة
تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT
كشف موقع "موندويس" الأميركي أمس الغطاء عن رسالة مفتوحة كان قد بعث بها آلاف الأكاديميين والنشطاء والباحثين والقانونيين في دول أوروبية إلى السلطات الألمانية يطالبونهم فيها بالكف عن دعم إبادة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
ولفت الموقع إلى أن ألمانيا ظلت منذ أكثر من عام تشارك في قتل الفلسطينيين وتجريدهم من إنسانيتهم من خلال تقديم الدعم السياسي والمالي والعسكري والقانوني لإسرائيل.
وأوضح أن نسخة مطبوعة من الرسالة سُلِّمت، في 20 ديسمبر/كانون الأول 2024، للمستشار الألماني أولاف شولتس ونائبه روبرت هابيك ووزيرة خارجيته أنالينا بيربوك.
آلاف الموقعينوتحمل الرسالة 4600 توقيع من شخصيات مرموقة في المجالات الأكاديمية والبحثية والقانونية وحقوق الإنسان من دول مثل ألمانيا وبريطانيا وهولندا ولبنان وحتى إسرائيل، ولا تزال فرصة التوقيع عليها مفتوحة حتى الآن، بحسب موندويس.
وأعرب الموقعون في الرسالة عن قلقهم العميق لما يشاهدونه "بأقصى درجات الرعب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني".
وقالوا: "إننا نشعر بالألم والغضب إزاء هذا الاستهتار الصارخ بالحياة، وهو استهتار تتوقع منا الحكومة الألمانية أن نقبله باعتباره أمرا ضروريا وطبيعيا".
إعلانوأضافوا: "نحن، الموقعون أدناه، نطالب الحكومة الألمانية بالوقوف بثبات إلى جانب العدالة والقانون الدولي، وممارسة الضغط على إسرائيل لوضع حد فوري لعمليات القتل والتشويه والتدمير التي تمارسها ضد الفلسطينيين، وإعادة تقييم شامل لموقفها وأنشطتها السياسية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مؤسسات الدولة الألمانية والأحزاب السياسية والسياسيين الألمان قد دعموا -في الغالب الأعم- الفظائع التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي".
جرائم حربوجاء في الرسالة المفتوحة أيضا أن جرائم إسرائيل الفظيعة، بما في ذلك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، موثقة بشكل جيد من قبل الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الرئيسية.
بل إن محكمة العدل الدولية -يتابع موندويس- وجدت أن هناك خطرا حقيقيا ومباشرا تشي بأن أفعال إسرائيل في غزة قد ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، حيث قتل عشرات الآلاف، ولا يزال الكثيرون منهم مدفونين تحت الأنقاض، بينما يموت الكثيرون منهم بسبب انتشار الأمراض التي يمكن الوقاية منها.
وقال الموقعون إن إسرائيل عمدت إلى تجويع سكان قطاع غزة، وسوّت أحياء بأكملها بالأرض، ودمرت جميع البنى التحتية الحيوية، بما في ذلك إنتاج الغذاء والأنظمة الصحية والتعليمية، وشردت غالبيتهم العظمى إلى حيث لا يوجد مكان آمن لأن جيشها يقصف باستمرار حتى المناطق التي يصنفها بأنها آمنة.
وأشاروا إلى أن إسرائيل ظلت تفرض حصارا مطبقا على شمال غزة لجعل الحياة مستحيلة في ظل خطة واضحة لتهجير السكان الفلسطينيين بشكل دائم.
وفي الضفة الغربية، كثّف المستوطنون الإسرائيليون هجماتهم، وغالبا ما كانت تتم تحت حماية الجيش الإسرائيلي، مما أدى إلى تدمير الأراضي والممتلكات الفلسطينية.
وطالبت الرسالة الحكومة الألمانية بالقيام بدورها من خلال اتخاذ إجراءات فورية في ضوء التدابير المؤقتة التي أمرت بها محكمة العدل الدولية في قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في يناير/كانون الثاني، ومارس/آذار، ومايو/أيار من عام 2023، واحترام الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الذي أعلن عدم شرعية احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية.
إعلانومضى الموقعون على الرسالة إلى القول إن ألمانيا -بصفتها من الدول الموقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها وعلى نظام روما الأساسي– عليها التزام تاريخي وأخلاقي وقانوني وسياسي بعدم ارتكاب الجرائم الفظيعة التي تحظرها هاتان المعاهدتان.
"ولذلك، فإننا نطالب ألمانيا بالوقف الفعلي والفوري لتواطئها في الجرائم الفظيعة التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين!"، يؤكد موقع موندويس.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
مجلة أمريكية: هكذا استخدمت إسرائيل والغرب الهولوكوست لتبرير إبادة غزة
نشر موقع "مراجعة نيويورك للكتب" ( نيويورك ريفيو أوف بوكس) مقالة للخبير الإسرائيلي عمير بارتوف راجع فيها مجموعة من الكتب التي صدرت عن غزة واليهودية والعالم بعدها. وما جمع مراجعته هي أن ذاكرة الهولوكوست تم استخدامها بشكل مشوه لتبرير سحق غزة والصمتالمطلق الذي قوبل به هذا العنف.
وبدأ مقالته بالتذكير بحادثة تاريخية في عام 1904، حيث شن شعب الهيريرو في جنوب غرب أفريقيا الألمانية - ناميبيا حاليا - سلسلة هجمات على مزارع ألمانية متفرقة في المنطقة. وكان الهيريرو يعتمدون، وهم جماعة رعوية يبلغ تعدادها حوالي 80.000 نسمة، على قطعان ماشيتهم الضخمة في حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكن المستوطنين الألمان الذين بدأوا بالوصول في أواخر القرن التاسع عشر اعتدوا بشكل متزايد على مراعيهم.
وقد هاجم المتمردون العديد من المزارع وقتلوا أكثر من مئة مستوطن، معظمهم من النساء والأطفال. بالنسبة للمستوطنين، كان التمرد بمثابة الدليل القاطع على ضرورة القضاء على شعب الهيريرو، الذين وصفوهم بـ"قرود البابون".
وعجز الحاكم الألماني عن استعادة النظام، فلجأ إلى برلين، التي أرسلت نحو 10,000 جندي. وبحلول آب/ أغسطس، كانوا قد سحقوا مقاتلي الهيريرو. وفي تشرين الأول/ أكتوبر، أصدر القائد الألماني، الجنرال لوثار فون تروثا، ما عرف بـ"أمر الإبادة" لمن تبقى.
"لم يعد الهيرويرو أبدا رعايا الدولة الألمانية. فقد قتلوا وسرقوا وقطعوا آذان وأجزاء أخرى من أجساد الجنود الجرحى، وأصبحوا الآن جبناء جدا ولا يرغبون في القتال بعد الآن، وعلى شعب الهيريرو مغادرة البلاد في النهاية".
وكان أمر القائد: إذا رفضوا، فسأجبرهم على ذلك بالمدفع الضخم وسيتم إعدام أي فرد من الهيريرو يعثر عليه داخل الحدود الألمانية، سواء كان بحوزته بندقية أو ماشية أو غير ذلك ولن أرحم النساء ولا الأطفال. وأُطلق النار على معظم الهيريرو أو ماتوا عطشا وجوعا في الصحراء التي طردوا إليها. أُخذ عدة آلاف منهم إلى معسكرات العمل القسري.
وقال بارتوف إن المؤرخين تجاهلوا ولعدة عقود أول إبادة في القرن العشرين. وتجاوز الهولوكوست الحادثة، ولم تعترف ألمانيا إلا في 2021 بمسؤوليتها عن الإبادة، حيث تحدثت عن معاناة شعب الهيريرو، وتعهدت بتعويضات بقيمة مليار يورو، مع أن توزيع المال لا يزال محل جدل لأن الحكومة الألمانية تفاوضت مع حكومة نامبيا وليس شعب الهيرويرو نفسه، أو من تبقى منه.
ولكن الإبادة التي حدثت في زاوية بعيدة من جنوب أفريقيا تشترك وبشكل قريب مع التطهير العرقي والإبادة التي تقوم بها "إسرائيل" في غزة. فقد تعاملت "إسرائيل" مع هجوم حماس في تشرين الأول/أكتوبر 2023 بنفس الطريقة التي تعامل فيها المستعمرون الألمان مع تمرد الهيريرو قبل 119 عاما. أي أنه تأكيد على وحشية الجماعة المسلحة وقسوتها المطلقة، وأن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي دائما ما تتضمن على القتل. وعليه يجب إخراج سكان غزة الفلسطينيين برمتهم عن عالم الحضارة الأخلاقي.
فقد قال الجنرال الإسرائيلي غسان عليان (وهو درزي) بعد الهجوم بوقت قصير: "يجب معاملة الحيوانات البشرية على هذا الأساس"، مرددا بذلك تصريحات عدة مسؤولين إسرائيليين آخرين، بمن فيهم وزير الدفاع السابق يواف غالانت. وقال عليان في رسالة فيديو باللغة العربية موجهة إلى حماس وسكان غزة: "لن يكون هناك كهرباء ولا ماء [في غزة]، لن يكون هناك سوى دمار. أردتم الجحيم، فستحصلون عليه".
وعلى مدار السبعة عشر شهرا التالية، قتلت القوات الإسرائيلية أكثر من 50,000 فلسطينيا، نسبة أكثر من 70% منهم من الأطفال والنساء، وشوهت أكثر من 100,000 ألفا وفرضت على السكان المتبقين ظروفا من الحرمان والمعاناة والألم اللاإنساني. وقد انتهى وقف إطلاق النار، الذي دخل حيز التنفيذ في 19 كانون الثاني/ يناير فجأة في 18 آذار/ مارس عندما رفضت "إسرائيل" الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاقها مع حماس، وشنت سلسلة من الهجمات أحادية الجانب أسفرت بالفعل عن مقتل مئات المدنيين الفلسطينيين.
ويعلق بارتوف أنه من منظور آخر، فإن أحداث عامي 1904 و2023 تظل أقل تناسقا. ويمكن للألمان تبرير إبادة الهيريرو لأنهم اعتبروهم متوحشين، ونسوها لأنها ارتكبت بعيدا عن أوروبا ضد مجموعة غير معروفة عموما خارج جنوب غرب إفريقيا.
وفي المقابل، يرتكب الإسرائيليون إبادة جماعية في غزة لأنهم يعتبرون الفلسطينيين متوحشين، لكنهم برروا ذلك كرد فعل على إبادة جماعية أخرى محتملة ستكون أشبه بالهولوكوست، والتي نفذها مسلحو حماس الذين كانوا يتدربون على حل نهائي آخر.
وكان رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت واحدا من كثيرين أصروا على أننا "نقاتل النازيين". وكتبت دينا بورات، مؤرخة الهولوكوست، في صحيفة "هآرتس" في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أن حماس "تزرع كراهية شديدة للشيطان الذي خلقته في مخيلتها، كما فعلت الأيديولوجية النازية في عصرها". وفي استطلاع للرأي أجري في إسرائيل في أيار/ مايو 2024، قال أكثر من نصف المشاركين إن هجوم حماس يمكن مقارنته بالهولوكوست.
وكانت إبادة الهيريرو جزءا من العنف القاتل الذي مارسه المستعمرون الأوروبيون ضد السكان الأصليين في جميع أنحاء العالم. وكما كتب الشاعر المعروف إيمي سيزير عام 1950، لم يعر الأوروبيون البيض اهتماما إلا عندما "طبق هتلر على أوروبا إجراءات استعمارية كانت حتى ذلك الحين مطبقة حصريا" على الشعوب المستعمرة في أماكن أخرى. لقد "تسامحوا مع النازية، التي برأتهم منها وغضوا الطرف عنهاوأضفوا عليها الشرعية"، حتى ارتدت إليهم كشوكة في ظل الحكم النازي.
ويناقش بارتوف أن تفسير سيزار، تلميذ فرانز فانون أن الهولوكوست يبدو كنتيجة خلاف عائلي أوروبي، بين سكان بيض، مع أن اليهود على رغم اختلافهم واندماجهم في المجتمعات الأوروبية، ظل بياضهم محل شك من الغالبية الأوروبية. إلا أن حقيقة إبادة اليهود في ألمانيا تركت آثارا واضحةً كثيرة، مما جعل الألمان وغيرهم من الأوروبيين يفشلون في قمعها وتهميشها كما فعلوا مع إبادة الهيريرو - أي فشلهم في رسم ما يسميه الألمان "خطا فاصلا"، يجعلها جزءا من الماضي.
وبدلا من ذلك، أصبح الهولوكوست حدثا لا ينسى، ويجب ألا يسمح بتكراره أبدا. وقد أوجدت عملية مواجهتها آلية لمكافحة الفظائع الأخرى، في شكل نظام للقانون الإنساني الدولي، كما أرسى مثالا أخلاقيا.
وعلى مدى عقود من الزمن، كما كتب الباحث إنزو ترافيرسو في كتابه "غزة تواجه التاريخ"، كان "الدين المدني" لذكرى الهولوكوست بمثابة نموذج لتذكر عمليات الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية الأخرى، من إبادة الأرمن إلى الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية، إلى مجاعة هولودومور أو "القتل بالتجويع" في أوكرانيا إلى البوسنة، وإلى الإبادة الجماعية للتوتسي في رواندا. لكن في الوقت نفسه، منح هذا أيضا نوعا من الحرية المطلقة.
ففي كتابه "اليهودية بعد تدمير غزة"، وهو سرد مؤثر لتحوله من مؤيد قوي لإسرائيل إلى ناقد شرس للصهيونية، يشير بيتر بينارت إلى أنه في أعقاب الهولوكوست، ساد شعور بـ"البراءة الزائفة" من "الحياة اليهودية المعاصرة المموه بالهيمنة المستورة بالدفاع عن النفس". فالتذكر، كما يقول بارتوف، لا بد أن يكون له عواقب، لا سيما عندما يصاحبه التزام مطلق بعدم السماح بحدوث الهولوكوست "أبدا". وعندما لا يصبح "أبدا" مجرد شعار، بل جزءا من أيديولوجية الدولة، وعندما يصبح المنظور الذي يحول كل تهديد وكل قضية أمنية وكل تحد لشرعية الدولة أو استقامتها إلى خطر وجودي، فلا مجال للدفاع عن أولئك الذين واجهوا الفناء بالفعل.
إنها رؤية عالمية، كما يكتب بينارت "تتيح حرية لا حدود لها للبشر المعرضين للخطأ".
ومن هنا، فبمجرد اعتبار مسلحي حماس صنوا للنازية اليوم، فما عليك إلا أن تتخيل إسرائيل كملاك منتقم، يقتلع أعداءه بالنار والسيف.
ويقول بارتوف إن الهولوكوست كان خلال طفولته وشبابه في إسرائيل، رمزا للعار والإنكار وحدثا سيق فيه اليهود كالخراف إلى الذبح.
وعلى مر السنين، ومع تقدم الكاتب في السن، أصبح شيئا مختلفا تماما: "قصة تضامن وفخر وبطولة يهودية. إن هذا الشعور بـ"لن يتكرر أبدا" هو ما يسمح لمعظم اليهود الإسرائيليين برؤية أنفسهم يحتلون مكانة أخلاقية عالية حتى وهم وجيشهم وأبناؤهم وبناتهم، وأحفادهم، يسحقون كل شبر من قطاع غزة. وقد تم استعادة ذكرى الهولوكوست، بشكل معاكس، لتبرير كل من إبادة غزة والصمت المطلق الذي قوبل به هذا العنف".
وإذا أخذنا بعين الاعتبار القتلى والجرحى والآلاف المدفونين تحت الأنقاض والآلاف من الوفيات "غير المباشرة" بسبب تدمير معظم المرافق الطبية والآلاف من الأطفال الذين لن يتعافوا أبدامن الآثار الطويلة الأمد للجوع والصدمة، يمكننا بلا شك أن نستنتج أن إسرائيل أخضعت الشعب الفلسطيني في غزة عمدا، ومعظمهم من اللاجئين المهجرين من فلسطين عام 1948 أو أحفادهم، "لظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم المادي كلياأو جزئيا"، كما ورد في المادة الثانية (ج) من اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية لعام 1948.
ويقول بارتوف إن بقية العالم، وبخاصة حلفاء إسرائيل الغربيين والجاليات اليهودية في أوروبا والولايات المتحدة سيضطرون لمواجهة هذا الواقع لسنوات طويلة. فكيف أمكن، بعد ثمانين عاما من نهاية الهولوكوست وإنشاء نظام قانوني دولي يهدف إلى منع تكرار مثل هذه الجرائم، أن تنفذ دولة إسرائيل، التي تعتبر وتصف نفسها بأنها الرد على إبادة اليهود، إبادة جماعية للفلسطينيين مع إفلات شبه كامل من العقاب؟ كيف نواجه حقيقة أن إسرائيل استندت إلى الهولوكوست لتقويض النظام القانوني الذي وضع لمنع تكرار هذه "جريمة الجرائم هذه؟".
وتشكل الإبادة الجماعية في غزة خلفية لسلسلة من النقاشات، لكنها ليست بالضرورة محورها، والتي بدأت قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وتصاعدت حدّتها بشكل كبير منذ ذلك الحين. ويركز بعضها على الإبادة الجماعية التي لم تحدث، بدلا من تلك التي تجري أمام أعيننا.
لقد مزق النزاع اليهودي الداخلي حول غزة المجتمعات والعائلات والصداقات. ففي أعقاب هجوم حماس، يشعر العديد من اليهود، ليس فقط في إسرائيل، بل في الشتات أيضا بأنهم يعيشون تحت تهديد الإبادة الجماعية، وينظرون إليها على أنها أسوأ أشكال الخيانة عندما يقول أي شخص، ناهيك عن أحد أتباع دينهم، إن إسرائيل، وليس الفلسطينيين، هي التي ترتكب الإبادة الجماعية.
ويتطلب فهم العنف والغضب والشعور بالضعف الناتج عن هذه النزاعات مواجهة التاريخ الإسرائيلي والفلسطيني بأكمله، وهو تحد حاولت عدد من الكتب الحديثة، بطرق مختلفة، مواجهته.
ففي كتابه "العالم بعد غزة"، يبدأ بانكاج ميشرا من القرن التاسع عشر. ويشير فيه إلى أجواء الخيانة والإلحاح التي ميّزت الصهيونية في العقود التي سبقت إنشاء إسرائيل، مستدعيا بتعاطف عذابات الإنسان المقتلع روحيا، والذي، وفقا لأحد كتاب الصهيونية الأوائل ماكس نورداو، "فقد منزله في الغيتو، و... حرم من منزل في وطنه الأم"، [و] لم يكن من الممكن شفاؤه إلا بالعيش بين أقرانه.
إلا أن ديدير فاسين يضع المسألة بطريقة أقوى في كتابه "التحلل الأخلاقي: كيف فشل العالم بمنع تدمير غزة"، مع أن عنوانه الفرنسي هو"التحلل الأخلاقي الغريب" وبدأه قائلا: "إن الموافقة على إبادة غزة قد خلقت فجوة هائلة في النظام الأخلاقي العالمي" و"أكثر من مجرد تخل عن جزء من الإنسانية وسيسجل التاريخ الدعم المقدم لتدميرها".
ويتساءل فاسين: كيف يعقل، مع استثناءات نادرة، أن "أرواح المدنيين الفلسطينيين تعتبر بالنسبة للقادة السياسيين والشخصيات الفكرية في الدول الغربية الرئيسية، أقل قيمة بمئات المرات من أرواح المدنيين الإسرائيليين"؟ وكيف نفسر "حظر المظاهرات والاجتماعات المطالبة بسلام عادل؟" و لماذا "تعيد معظم وسائل الإعلام الغربية السائدة، دون تأكيد مستقل، إنتاج رواية الأحداث التي يرويها معسكر المحتلين، بينما تشكك باستمرار في رواية الشعب الذي يقع عليه الاحتلال؟"، ولماذا "يغض الكثير ممن كان بإمكانهم التحدث ناهيك عن الوقوف في المعارضة، أنظارهم عن إبادة أرض وتاريخها، ومعالمه ومستشفياتها، ومدارسها ومساكنها، وبنيتها التحتية وطرقها، وسكانها - بل ويشجعون في كثير من الحالات على استمرارها؟".
ويتابع أن "التناقض الظاهري في كل هذا هو تبرير هذا التنازل الأخلاقي من جانب الدول باسم الأخلاق". فقد أعلنت الدول الأوروبية أن لديها واجبا أخلاقيا تجاه اليهود وعليها ضمان أمنهم. فقد كان هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر عملا وحشيا يهدد وجود إسرائيل ذاته. وبالتالي، أصبح رد الجيش الإسرائيلي ليس حتميا فحسب، بل ومشروعا أيضا. وكان تدمير غزة وجزء من سكانها في الأساس أهون الشرين من أجل القضاء على شر أكبر - ألا وهو تدمير الدولة اليهودية التي كانت حماس عازمة عليها. وفي هذه الظروف، فإن الحديث عن الجرائم التي يرتكبها الإسرائيليون يشهد على أكثر أشكال العنصرية إثارة للريبة: معاداة السامية.
وينطبق هذا بشكل خاص إذا تم الاستشهاد بالإبادة الجماعية للإشارة إلى مذبحة السكان الفلسطينيين، لأنه من غير المقبول أن يتهم أحفاد شعب كان ضحية أكبر إبادة جماعية بارتكابها. وهذه، بالطبع، هي نظرة معظم الإسرائيليين للأمور اليوم.
وبقبولها لهذه الحجة دون تمحيص وموافقتها على إبادة غزة، تكون حكومات الولايات المتحدة وأوروبا الغربية قد قبلت، واستغلت، أيضا، ذكرى زائفة عن الهولوكوست، وأعملت فهما مشوها لدروسها في الوقت الحاضر.
وفي النهاية، قد تكون التداعيات طويلة الأمد لإبادة غزة هي أنها ستحرر إسرائيل وأخيرا من مكانتها كدولة فريدة متجذرة في هولوكوست فريد. مع أن هذا لم يفد عشرات الآلاف من الضحايا الفلسطينيين، ولا ضحايا هجوم حماس أو الرهائن القتلى والمحتضرين ولا عائلاتهم المشتتة. لكن الرخصة التي طالما تمتعت بها إسرائيل، أرض الضحايا، وأساءت استغلالها قد تكون على وشك الانتهاء. وسيتاح لأبناء وبنات الجيل القادم إعادة التفكير في حياتهم ومستقبلهم، بما يتجاوز ذكرى الهولوكوست وسيضطرون لدفع ثمن خطايا آبائهم وتحمل عبء الإبادة الجماعية التي ارتكبت باسمهم.