من سراب الاستقلال إلى حقيقة الاستغلال
تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT
د. شعفل علي عمير
في مشهد السياسة العربية، يبدو السعي نحو الاستقلال وكأنه رحلة عبر متاهة مشبَّعة بالوعود الكاذبة والشعارات الجوفاء.
عشرات السنين مرت منذ أن امتلكت الدولُ العربية زِمامَ أمورها نظريًّا، وها نحن لا نزالُ في قيد الرغبة الجامحة لتحقيقِ حرية لم نلمسْها بعدُ في واقعنا؛ فبين الاستقلال الورقي والاستغلال العملي، تتجسَّدُ معضلةُ الشعوب العربية في دوامة مُستمرّة من الإحباط والتهميش.
ترتسِمُ على مسرح التاريخ العربي، منذ بداية القرن العشرين، مُشاهِدُ استقلالية متلاحقة، لكنْ أيُّ مراقب دقيق للأحداث سيدرك أن ما تحقّق لم يكن أكثر من استقلال بشروط، أَو كما يحلو للبعض وصفه بـ “الحرية المقيدة”.
هذه الحقيقة تتجلى في تحول بعض الدول إلى بيادق في لعبة شطرنج، حَيثُ تصطف في صفوف أمامية لصنع قرارات ظاهرها وطني لكن باطنها خاضع لمصالح خارجية، وعلى مدار تلك السنوات، شهدت الدول العربية خروجًا من تحت عباءة الاستعمار الغربي، لكن الاستقلال السياسي لم يحقّق السيادة الاقتصادية، بل تحولت كثير من هذه الدول إلى أسواق مفتوحة للاستثمارات الأجنبية التي تأتي غالبًا بشروط تضمنُ تبعية دائمة.
لقد باتت الثروات الوطنية، من النفط إلى المعادن الثمينة، ذخيرةً في يد القوى الكبرى، تستخدمها كوسيلة ضغط لتحقيق أهدافها الاستراتيجية.
إن ما نجدُه اليومَ هو مشهدٌ من الخضوع لرؤساء وقادة يعزفون على وتر الوطنية، بينما تُبرَمُ الصفقاتُ في الكواليس تحت شعار “التعاون الدولي”، تُطرَحُ هذه الخطابات في المحافل الدولية ليسَ بهَدفِ استنهاض الهمم، بل لدرء الأنظار عن حقيقة مُـــرَّةٍ مفادُها أن الاستقلالَ الحَقيقيَّ لا يزالُ وَهْمًا يمثّل سرابًا في نهاية الأفق، فقد أصبحت هذه المسرحية المُستمرّة مع مرور الزمن عبئًا على كاهل الشعوب العربية، التي تعاني من صعوبات اقتصادية، واجتماعية، وسياسية جمة.
المواطن العادي يعيش حالة من التهميش المُستمرّ، حَيثُ بات أعلى طموحاته التأقلم مع الواقع البائس والنجاة من يوم إلى آخر في ظل أزمات متتالية تُغرقه أكثر فأكثر في معاناة لا تنتهي.
في ظل هذا الواقع، يظهر الأمل في يقظة الشعوب ووعيها بضرورة تحقيق التغيير المنشود.
إن الحل الأمثل للخروج من هذه الدوامة لن يتم إلا من خلال تعزيز الوعي الجمعي بإمْكَانات الأُمَّــة، والعمل الجاد على بناء اقتصاديات قادرة على الاكتفاء الذاتي ومواجهة التحديات خارجيًّا وداخليًّا، ورغم التحديات الجسيمة، يبقى الشعب اليمني نموذجًا للصمود والتطلع نحو الاستقلال الحقيقي من خلال إصرارهم على بناء نظام سياسي يُعبِّرُ عن طموحاتهم وتطوير اقتصاد يمكِّنُهم من العيش بكرامة واستقلال، يظل اليمن مثالًا يُحتذَى به في مشهد نادر ومعقَّد من مساعي الدول لتحقيق استقلالية حقيقية في زمن تتزايدُ فيه التبعيَّةُ السياسية والاقتصادية لقوى الهيمنة الدولية.
المصدر: يمانيون
إقرأ أيضاً:
سورية في وجه الغطرسة الصهيونية: حين تنهض الشعوب لا تُهزم
ليس غريبًا أن يمدّ الاحتلال الصهيوني أنيابه نحو الجنوب السوري، متوهمًا أن الجراح المفتوحة تعني غياب الوعي أو غفوة الروح. لكنه يجهل أن سوريا، وإن أُنهكت بالحروب، لا تنكسر. فالشعوب التي أرهقتها الدماء قد تستفيق في لحظة، وتُشعل بركان المقاومة من تحت الركام.
وما بين القنيطرة ودرعا، تتوقد شرارات الرفض الشعبي، في أرضٍ لا يمكن للاحتلال أن يستقر فيها، ولا للغزاة أن يتنفسوا بحرية على ترابها.
لكن سورية ليست وحدها في هذا الطريق، فالتاريخ زاخر بشعوب قاومت وانتفضت وأسقطت مشاريع استعمارية كانت تبدو، في لحظات كثيرة، عصيّة على الهزيمة.
هذه النماذج تلهمنا وتُذكّر العدو أن الغطرسة لم تكن يومًا ضمانة بقاء، وما صمود غزة المحاصرة منذ ثمانية عشر عامًا عنا ببعيد.
فيتنام… الأرض التي كسرت جبروت أمريكا
حين اجتاحت جيوش الولايات المتحدة أرض فيتنام، كانت واثقة أن النصر مسألة وقت. لكن "الڤييت كونغ" كان له رأي آخر.
حفروا الأنفاق، زرعوا الفخاخ، وصمدوا تحت أعتى قصف جوي في التاريخ.
وعلى مدى عشرين عامًا، قاوم الفيتناميون بأسنانهم، حتى خرجت أمريكا تجرّ أذيال الهزيمة عام 1975، بعد أن خسرت أكثر من 58 ألف جندي، وتركت وراءها هيبة محطّمة.
جنوب إفريقيا… مقاومة تحطّم العنصرية والصهيونية
لم يكن نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ليصمد لولا الدعم الصهيوني اللامحدود.
سورية اليوم ليست سورية الضعف، بل سورية الوعي. وحين يستيقظ الوعي الشعبي، تتحطم آمال الغزاة. وإن كانت درعا والقنيطرة أولى الجبهات، فإن قلب سورية كله جبهة. وما دامت الشعوب تنهض، فالصهاينة إلى زوال… مهما طال الليل.لكن مقاومة شعبية قادها نيلسون مانديلا ورفاقه، أسقطت ذلك النظام القذر. سُجن القادة، وقُتل الأبرياء، لكنهم انتصروا في النهاية. وسقط وهم التفوّق العنصري تحت أقدام شعب أبيّ، رفض الاستسلام.
كوبا… جزيرة التحدي في وجه الحصار الأطول
منذ أكثر من ستين عامًا، تواجه كوبا حصارًا أمريكيًا خانقًا. بلد صغير، محدود الموارد، لكنه رفض أن يخضع. صمدت كوبا رغم العزلة، وعلّمت العالم أن الكرامة أغلى من الرغيف، وأن الحرية لا تُشترى.
إلى دعاة "النأي بالنفس": ماذا تنتظرون؟ الشعوب الحرة لا تستكين لظالم، ولا ترضخ لمستعمر.
أما "العقلانيون" جدًّا، و"الواقعيون" حدّ التخلي، فأسألهم بكل ود: ماذا تنتظرون أكثر؟ هل تنتظرون إعلان نتنياهو رسميًا احتلال محافظة درعا؟ أم تترقبون اعترافًا صريحًا بأن الجنوب السوري بات “منطقة نفوذ” صهيوني؟
هل استباحة الأجواء السورية ليلًا ونهارًا لا تكفيكم؟ هل اختطاف سوريين من داخل أراضيهم ـ كما جرى في القنيطرة وريف دمشق ـ لا يحرّك فيكم شيئًا؟ ماذا بقي من السيادة لتنتظروا المسّ بها؟ أيّ منطق يرى في الصمت سياسة، وفي اللاموقف وطنيّة؟ وأنا أتحدث هنا عن نشطاء ومؤثرين وقادة رأي مجتمعي، لا عن الدولة التي لها حساباتها.
المقاومة الشعبية.. الصوت الذي لا يُقهر
الدعوة إلى مقاومة شعبية لا تعني دفع الجيش النظامي إلى مواجهة شاملة، بل تعني إرسال رسالة واضحة: هذه الأرض ليست خالية. هذا الشعب حيّ. يرفض الاحتلال، ويقاومه بكل الوسائل الممكنة. فالمحتل لا يرهب الجيوش وحدها، بل يرهب الرفض الشعبي، والشعور الجمعي بأن كل بيت في سوريا يرفضه.
أيها الصهاينة… سورية ليست هشّة كما تظنون
ربما تظنون أن الجراح أضعفتها، وأن غبار الحرب أنسى أبناءها الأرض. لكن من يجهل التاريخ، يعيد أخطاءه. من فيتنام إلى جنوب إفريقيا، ومن كوبا إلى كل أرض قاومت، تعلّموا: الشعوب حين تثور، تطيح بالإمبراطوريات، وتكسر الاحتلالات، وتكتب نهايات لم تكن على بال. المشروع الصهيوني ليس مجرد عدوان على الأرض، بل هو اعتداء على الذاكرة، على التاريخ، على الكرامة.
ومن هنا، فإن المقاومة الشعبية في سوريا اليوم ليست مجرد رد فعل على توغّل عسكري، بل هي انتفاضة على مشروع صهيوني يحاول أن يرسم خريطة من النيل إلى الفرات، في غفلةٍ من الزمن.
لا أمان لكم على أرض تعرف معنى التضحية
سورية اليوم ليست سورية الضعف، بل سورية الوعي. وحين يستيقظ الوعي الشعبي، تتحطم آمال الغزاة. وإن كانت درعا والقنيطرة أولى الجبهات، فإن قلب سورية كله جبهة. وما دامت الشعوب تنهض، فالصهاينة إلى زوال… مهما طال الليل.