«التشريعية والتنفيذية» .. هيبة الدولة
تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT
أتجاوز في هذه المناقشة الحديث عن الصدام التقليدي المعروف بين السلطتين، والذي غالبا؛ ما يفضي -في نهاية المطاف- إلى تفاهمات داخلية بينهما، وتبقى الزوبعة الإعلامية المثارة في لحظات التفاعل تحت قبة المجالس التشريعية هي آخر ما تذروه الرياح بعد ذلك، ولا أكثر من ذلك، وبهذا التجاوز أنظر إلى السلطتين: التشريعية والتنفيذية، على أنهما صمام أمان لكل دولة في أبعادها: الاجتماعية والتنموي على وجه الخصوص، بالإضافة إلى الأبعاد الاقتصادية والسياسية والثقافية، مع التأكيد على الدور المحوري الذي تقوم به السلطة القضائية في حماية التشريعات والنظم والقوانين، التي تقرها السلطتان، ويجري تنفيذها على أرض الواقع بواسطة السلطة التنفيذية، وتأتي هذه القناعة في هذا التقييم على اعتبار أن السلطتين هما المتحملتان للثقل المادي والمعنوي في بعديه الأفقي والرأسي للدولة، والمتمثل في كل ما تحتوي؛ بدءا من عدد السكان، مرورا بالحمولة التاريخية، وانتهاء بالموجدات المادية بكل ما تعنيه مفردة «مادية» ولأن السلطتين بينهما تداخل كبير جدا، ليس فقط من حيث نشأة التشريعات وتنميتها ونموها، وإنما كذلك من حيث أن اللاعب بينهما هو الفرد المواطن الذي ارتضى أن يتحمل مسؤوليته التاريخية في تعزيز القوى الفاعلة لوطنه في مختلف المجالات تحت أي ظرف من الظروف، وعلى اعتبار أن السلطة القضائية مستقلة إلى حد كبير، ولا يسمح لها أن تتداخل مع أي طرفين تداخلا مباشرا يخل باستقلاليتها، ونزاهتها، لأنها الضابط لكل تفاعلات السلطتين، والحامية الأمينة لمجمل أنشطتهما، وما ينتح عن توظيف هذه الأنشطة، في جانبيه السلبي والإيجابي على حد سواء، وبالتالي؛ هي أيضا؛ أعني بها القضائية؛ تظل محافظة على هيبتها المستلة من هيبة الدولة؛ حيث تَمْثُلُ كلا السلطتين أمام منصات السلطة القضائية عند الضرورة، امتثالا لهذه الهيبة.
ولأن المسألة هنا مرتبطة بجوهر العلاقة بين السلطتين: التشريعية والتنفيذية، فإن أي خلل يحدث عن الأولى ينعكس تباعا على الثانية، فإذا كانت التشريعية هي ولادة التشريعات؛ فإن التنفيذية هي الموطن لتوظيف التشريعات، وتكون القضائية هي الحامية لجهد الطرفين، ولأن خلل التنفيذية في عدم احترام التشريعية؛ بتحييد كثير من التشريعات الصادرة، فإن أي خلل هنا يؤثر تأثيرا مباشرا على الغاية الكبرى من تطبيق التشريعات؛ وهي تحقيق هيبة الدولة، فهيبة الدولة ليس فقط فيما تملك من مساحات شاسعة من الـ«جيوسياسية» ولا من تضخم عدد السكان، ولا ما تملكه من موارد طبيعية وصناعية، ولا من تعدد مؤسساتها المدنية والعسكرية والأمنية، ولكن مع كل ذلك هو مستوى الإيمان لدى المواطن في وظيفته أو خارج هذه الوظيفة، بأهمية التشريع، ومستوى إيمان المواطن بأهمية احترام الواجبات المنوطة عليه تنفيذها، ومستوى إيمان المواطن وإحساسه بالمسؤولية الوطنية بأهمية الدور الذي تؤديه مؤسسات السلطة التنفيذية كل في مجال اختصاصه، مع أن كل ذلك أيضا مشروط بأحقية هذا المواطن في أن لا يجد في ممارسات السلطة التنفيذية ما يتصادم مع ما يأمله من تعاون وتكامل مع مؤسسات هذه السلطة والعمل على تحقيقه، وما يأمله من تقديم الخدمة المطلوبة بكل يسر، وبكل احترام، وبكل أمانة وصدق، فكلا الطرفين متكاملان في إسناد بعضهما البعض، وبالتالي فكلا الطرفين مسهمان في تعظيم عائد هيبة الدولة.
تفترض الصورة ذاتها حقيقة غير غائبة في مناقشة هذه العلاقة، وهي أن هناك لاعبا مؤثرا؛ وعلى درجة كبيرة من الأهمية في إرباك هذه الصورة المأمولة للمحافظة على هيبة الدولة، وهي النخب السياسية والاقتصادية على وجه الخصوص في المجتمع، وهذه النخب تؤدي دورا مزدوجا بين طرفي السلطتين: التشريعية والتنفيذية، ومعنى هذا فتأثيرها على مجريات السلطة التشريعية، فإن ذلك حتما سوف يؤثر على مجريات السلطة التنفيذية، فمشكلة النخب؛ عموما؛ وفي كثير من الأحيان ليس لها انتماء محدد يفضي إلى تأصيل العمل في سلطة دون أخرى، وإنما تتحرك وفق مصالحها الخاصة، أكثر من الانحياز إلى الخيارات الوطنية التي تعلي من سهم هيبة الدولة، وهذه إشكالية موضوعية في التأثير على مجريات العمل الوطني لدى السلطتين، لأن مستويات النفوذ الذي تملكه النخب سواء من الجانب المادي، أو الجانب المعنوي «علاقات» يظل سهمه مؤثرا، وهناك من يستمع، ويذعن، وينفذ، وكما جاء في المثل: «اطعم الفم تستحي العين» وفي لحظات هذا الإطعام يتم تحييد المشروع الوطني عن تحقيق أهدافه السامية، حيث يتماهى في المشروع الخاص المؤقت، حتى تنتهي المصلحة، وعندها ليس هناك ما يمنع من التنظير في الجانب الوطني كما جاء أعلاه، والخطورة أكثر في شأن النخب السياسية والاقتصادية، ليس فقط في شأن تموضعاتها المحلية على مستوى الدولة، ولكن عندما ترتبط بعلاقات من خارج الوطن الذي تنتمي إليه، وأثر هذه العلاقات على التأثير في السياسة الداخلية، سواء التدخل في حيثيات العمل في السلطة التشريعية، أو في التدخل في حيثيات العمل في السلطة التنفيذية، ومحاولة رسم مسارات أخرى محققة للمصالح الخاصة، مما يسرع في وقوع الدولة في مأزق ما يسمى بـ«رخوية الدولة».
لذلك عندما ينظر في تقييم السلطة التشريعية كوحدة مستقلة أولا، تذهب المسألة إلى تقييم مرجعية النسيج الاجتماعي، وإلى أي حد يكون هذا النسيج ملتحما بأفراده التحاما يُعَضِّدُ من مسيرة التنمية في الدولة، أو إلى أي حد هو منقسم على ذاته، ويقاس التقييم في شأن النسيج الاجتماعي فيما يرفده إلى حاضنة المجلس التشريعي من الكفاءات المتميزة في حاضنتها الاجتماعية كأعضاء في كل دورة تشريعية معينة.
ولأهمية هذه المرجعية يظهر مستوى الحياد الذي يمارسه الفرد العادي؛ وأشدد هنا على مفردة «العادي» في المجتمع عند اختياره لعضو المجلس التشريعي، حيث يُظْهِرُ الاختيار عدم تماهي قرار الاختيار في القبيلة، أو الأسرة، أو الطائفة، وبالتالي فمتى لوحظ شيء من هذا التماهي إلى هذه المناخات؛ عد ذلك ضربة قاسية لهذا النسيج الذي لم يعد نسيجا متماسكا، ولم يعد نسيجا يعمل لهدف وطني صادق وأمين، حيث لا يزال واقع تحت تأثير مناخاته الخاصة، وهي مناخات غير معبرة عن مستوى الإدراك الذي وصل إليه الفرد في المجتمع، ومقارنته بالأهمية التي يمثلها المشروع الوطني الذي يفترض ألا يقبل المساومة، وفي ذلك بلا شك ضربة قاسية للوحدة الوطنية الأسمى في صميم صدقها وأمانتها، وعدم تحمل المواطن المسؤولية الملقاة على عاتقه، ولا عذر لأي مسوغ يستند إليه في هذا الجانب، فالمسألة متعلقة بمشروع كبير ومهم وحساس، وهو المشروع الوطني السامي المفضي إلى تعزيز هيبة الدولة والتي تأتي على قمة هرم رأس هذا المشروع، وبالتالي فحتى العضو المترشح عندما ينحاز إلى الخيارات الرخيصة لجلب الأصوات يكون بذلك فاسد، معلوم النفاق، ولا يستحق أن يكون تحت قبة المجلس التشريعي، فالشأن الوطني لن يصلحه إلا العضو التشريعي النظيف.
ما يمكن الالتفات إليه -في ختام هذه المناقشة- في العلاقة بين طرفي المعادلة بين السلطتين، هو أن التشريعية لا يمكن أن يكتمل نصابها التشريعي إلا من خلال دعم قاعدة الهرم التي تمثلها الفئة الخارجة من دائرة التصنيفات الاجتماعية المختلفة، وهي الفئات البسيطة في المجتمع، لأنها تمثل الغالبية في المجتمع، أو أنها قاعدة الهرم الاجتماعي، وبالتالي فغالبية الأصوات تكون لدى هذه الفئة، والخطورة في هذا الجانب، عندما يحيل الطامحون إلى الانضمام إلى السلطة التشريعية أغلب هذه الفئة عن المشروع الوطني إلى حالة من الاسترزاق المادي في لحظة زمنية فارقة يتراكم فيها الشعور الوطني بأهمية الممارسة التشريعية كوجه معبر عن هيبة الدولة في ذات الممارسة، ويأتي البعض ممن يمثلون السلطة التنفيذية كذلك لتعميق هذه المادية «الاسترزاق» من خلال تنامي صور الرشاوى في تقديم الخدمات، على اعتبار أن هذه الفئة من المواطنين ليس لهم سند، إلا من خلال هذه الطرق الملتوية، سواء بالرشوة المادية المقبوضة، أو من خلال استغلال الضعف في جوانب أخرى: كالشرف، ولي الذراع، والمماطلة، وعدم الاهتمام، وتبلغ المأساة ذروتها عندما تكون هذه الممارسات الخاطئة علنا، وبدون أي تحفظ، وبدون أي خوف من قانون رادع، أو هيبة من سلطة قضائية ماكنة، هنا؛ يتماهى المشروع الوطني، وبلا شك يؤثر على هيبة الدولة.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التشریعیة والتنفیذیة السلطة التنفیذیة السلطة التشریعیة المشروع الوطنی هیبة الدولة فی المجتمع من خلال
إقرأ أيضاً: