د. إسلام عبد الرؤوف يكتب: الإعلام والتحولات الجيوسياسية .. من يسيطر على العالم؟
تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT
كان ولا يزال الإعلام والاتصال أداة أساسية في يد القوى العالمية لدعم النفوذ السياسي والعسكري والسيطرة الناعمة على عقول وقلوب الشعوب التي تقع تحت هيمنة تلك القوى الكبرى، كان هذا منذ عصر الصحافة في بداية القرن الثامن عشر، مرورًا بالراديو والتليفزيون، ثم التحول الرقمي للإعلام ومنصاته، وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، ليظل الإعلام والنفوذ وجهان لعملة واحدة، عملة الهيمنة والسيطرة على العالم، وهذا يفسر لماذا يحتاج الإعلام للصراعات والأحداث الكبرى بل والحروب، ولماذا تحتاج السياسة للإعلام والمعلومات حتى توظفها لصالحها، وهنا يصبح الجمهور أو المتلقون للمحتوى الإعلامي في غالب الأحيان ضحايا، أو بتعبير أدق “مُستَخدَمين” لتحقيق مصالح سياسية أو تجارية، للقوى المهيمنة.
إن التاريخ والسياسة يوضحان بجلاء كيف يتم استخدام سطوة الإعلام والاتصالات لفرض الهيمنة، منذ الإمبراطورية البريطانية وسيطرتها على الاتصالات من خلال امتلاكها لكابلات تحت البحار والمحيطات، والتي كانت خلالها تنقل الاتصالات عبر التليجراف، حيث لم يكن الراديو اللاسلكي قد اخترع بعد، ثم انتهاءً إلى الهيمنة الأمريكية على كابلات أخرى تحت المحيطات تمر عبرها بيانات الإنترنت، لتتحكم أمريكا هي الأخرى بالوسيلة الأهم في العالم للاتصالات وتدفق المعلومات.
الإشكالية تكمن في أن تلك القوى العالمية لها مصالح جيوسياسية في مناطق مختلفة من العالم، تجعل بيئة المعلومات وخصوصية البيانات غير مضمونة، وهناك دلائل كثيرة على ذلك، منها ما حدث في واقعة فيسبوك عام ٢٠٢٠، حينما تم استخدام بيانات ملايين المستخدمين لتوجيه إعلانات مخصصة لهم لصالح مرشح رئاسي محدد، ولم تكن هي المرة الأولى التي تتدخل فيها خوارزميات المنصات الرقمية التي تمتلكها شركات أمريكية ضخمة مثل ميتا، مالكة منصة فيسبوك، والتي عدد مستخدميها يفوق أضعاف عدد أكبر دول العالم في تعداد السكان.
الآن، تسعى قوى سياسية أخرى للإمساك بلجام القيادة من يد الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، فدولة مثل الصين وروسيا منذ لحظة مبكرة قررتا أن لا تخضعان لتلك الهيمنة الرقمية، وقامتا بإنشاء منصات رقمية محلية بديلة، لضمان أمن المعلومات والحماية من أية محاولات تجسس تمارسها القوى الغربية. وقد بدأت معالم التشكيل العالمي الجديد مع نشوء منظمة بريكس، والذي أعلن أن الهدف منه تجاري اقتصادي، ولتحجيم سيطرة الدولار على الأسواق العالمية، لكن يبدو أن الأهداف الجيوسياسية حاضرة وبقوة في هذا التشكيل، خصوصًا بعد انضمام عدد من الدول له، ورغبة دول أخرى في الانضمام، وقد عزز ذلك مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين، تلك التي تسيطر الآن على صناعات حيوية مثل الرقائق الإلكترونية والسيارات الكهربائية، التي تهدد عمالقة صناعة السيارات في كل العالم، كما أن الصين وروسيا يتجهان منذ فترة لشراء معظم إنتاج العالم من الذهب، للخروج من أسر الدولار في صراعات مستقبلية محتملة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
أضف إلى ذلك، التغيرات التي يشهدها المجال العام في الولايات المتحدة الأمريكية مع سيطرة العقلية "الترامبية" التي تشي بتغيرات عميقة في الثقافة والذهنية الأمريكية، ولذلك ارتباط قوي بالمشهد الإعلامي، فالرئيس ترامب لا يؤمن بوسائل الإعلام الكبرى في أمريكا مثل سي إن إن، وواشنطن بوست، ويعدها "إعلامًا زائفًا"، في الوقت الذي يستخدم فيه حسابه على منصة إكس للتواصل مع شعبه ومع المتابعين حول العالم، ومن المعروف أن منصة إكس يمتلكها صديقه رجل الأعمال إيلون ماسك الذي أصبح مقربًا منه، وسيعينه وزيرًا في فترة رئاسته الوشيكة، في مشهد تتداخل فيه المصالح ويطرح علامات استفهام حول مصير هذا الكم الهائل من البيانات التي يمكن أن يتم التلاعب بها وتوظيفها دون إذن أو علم أصحابها لتحقيق مصالح القوة المهيمنة، في بيئة يتم فيها التغني بالحرية وحماية الخصوصية، وتعزيز القيم الفردية وحقوق الإنسان.
ويرى معظم المحللين أن النموذج الأمريكي بدأ يتآكل مع تزايد صعود القوى العالمية الأخرى، وأن العالم في مرحلة إعادة التشكيل على قواعد مختلفة لم يعرفها العالم المعاصر، ليس بالضرورة أن يكون هذا التشكيل الجديد هو الأفضل أو الأسوأ بالنسبة لنا، لأن الذي يحدد ذلك هو موقعنا من هذا التشكيل الجديد، وحضورنا بصفتنا لاعبين أساسيين في ذلك التشكيل بدلآً من أن يُلعب بنا، أن نكون ضمن القوى الفاعلة، لا المفعول بها، أن ننهض نهوضًا نستحقه، ونستثمر فرصة التغيير والتبديل، فالفرصة دائمًا سانحة للجاهزين.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الإعلام التحولات الجيوسياسية إسلام عبد الرؤوف المزيد
إقرأ أيضاً:
ترامب المصارع أو التجسيد المفضوح للإمبريالية الأمريكية
لا ستر ولا ستار أمام سياسة ترامب الإمبريالية سوى زجاج شفاف، فهو على عكس من سبقه من رؤساء أمريكا يعملون وراء ستائر الديمقراطية، وحجب حقوق الإنسان للوصول إلى الهدف المنشود، هو يفعل ما يقول، يفكر بصوت عال ليسمعه من يحاول تصنع الصمم.
قبل بدء ولايته الثانية التي فاجأت الجميع، وأول المتفاجئين منافسته كامالا هاريس التي اعتقدت أن الفوز على هذا «المصارع» سهل المنال، خاصة وأن مجموعة من القضايا الجنائية تلاحقه في المحاكم منها حالات اغتصاب، وتهرب ضريبي، والاحتفاظ بوثائق سرية في منزله (أعطى ترامب صفة المصارع في العام 2007 عندما واجه خصمه فانس مكماهون رئيس اتحاد المصارعة الحرة، وكسب الرهان وحلق له رأسه على حلبة المصارعة) هذا المشهد فوق حلبة المصارعة يلخص شخصية الرئيس رقم 47 للولايات المتحدة.
في ولايته الأولى كان تركيزه على جمع المال من أجل «عودة أمريكا العظمى» بالتهديد والوعيد، بدأ ولايته بزيارة السعودية فحصل على 400 مليار دولار، ثم هدد دول الخليج برفع الحماية إذا لم يدفعوا «ضريبة بدل حماية» ثم هدد الدول الأعضاء حلف شمال الأطلسي بالسماح لروسيا بغزوها إذا لم تدفع مخصصاتها، ولم يتوان عندما خسر الانتخابات أمام خصمه جو بايدن من رفض النتائج معتبرا أنه هو من فاز بهذه الانتخابات، وقاد «ذو القرنين» الدهماء في الحملة الشهيرة مع مجموعة كبيرة من مؤيديه على مبنى الكابيتول والتي أذهلت العالم بأن تتم مثل هذه المشاهد في الدولة الديمقراطية الأولى، ويخال المرء أنها مشاهد في دولة بدائية من تاريخ آخر.
مع بداية ولايته الثانية عاد فكرر شراهته للدولار عندما طالب المملكة العربية السعودية باستثمار مبلغ بليون دولار في أمريكا بدل 600 مليار قدمها ولي العهد محمد بن سلمان مقابل زيارة للرياض (فهل هو ابتزاز للسعودية، أم شراء رضى ترامب؟) وتمادى بطلبه منها ومن منظمة الأوبك بتخفيض سعر النفط، وتخفيض سعر الفائدة في كل أنحاء العالم، وقال:» مع أسعار النفط التي ستنخفض، أطالب بخفض معدلات الفائدة فورا وبالطريقة نفسها. يجب أن تنخفض في كل أنحاء العالم».
وفي خطاب تنصيبه أعلن الرئيس ترامب بأنه قد يفرض رسوما جمركية بنسبة 25 في المئة على الواردات من كندا والمكسيك في موعد أقربه الأول من شباط/فبراير، بينما تعهّد بإجراءات ضد بلدان أخرى كجزء من سياسة واشنطن التجارية الجديدة، وهدد قبل توليه الرئاسة بفرض رسوم جمركية مرتفعة على المنتجات الأوروبية، وتقليص الدعم لأوكرانيا، وإعادة تقييم تمويل حلف شمال الأطلسي، وأكبر المتضررين في أوروبا ستكونان ألمانيا وفرنسا أكبر اقتصادين في الاتحاد الأوروبي.
هذه السياسة التهديدية ستواجه برد فعل مماثل من قبل الدول المهددة وهذا يعني بداية حرب اقتصادية بين أمريكا ودول العالم المعنية، وأمر ترامب بعد ساعات من توليه منصبه يوم الاثنين بتعليق برامج المساعدات الخارجية في المجال التنموي لحين تقييم مدى كفاءة هذه المساعدات، واتساقها مع سياسته الخارجية، واستثني مصر وإسرائيل من هذا القرار.
الإمبريالية تطلق على كل دولة لها جيش خارج حدودها، خاصة بهدف احتلال أراضي دولة أخرى، إمبريالية ترامب تجلت، حتى قبل بدء تسلمه السلطة، برغبته الملحة على ضم كندا بكل بساطة، واعدا بخفض ضرائبها في حال باتت ولاية أمريكية، ووصف رئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو بأنه «حاكم كندا» وقال: «إنه في حال أصبحت كندا ولايتنا رقم 51، فإن ضرائبها سوف تنخفض بأكثر من 60 في المئة وسوف تتضاعف أعمالها على الفور». (كندا تعتبر ثاني أكبر مساحة جغرافية في العالم بعد روسيا، ودولة غنية بالنفط، والمعادن، والمواد الغذائية).
لكن رئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو أجابه إنّ «كندا لن تكون أبدا، على الإطلاق، جزءا من الولايات المتّحدة».
وقالت وزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي أنّ «تصريحات الرئيس المنتخب ترامب تظهر عدم فهم كامل لكون كندا بلدا قويا. ولن ننحني أبدا في مواجهة التهديدات». ولم يكتف ترامب بنيته ضم كندا، بل أضاف إليها رغبته في ضم غرينلاند وقال في مؤتمر صحافي في السابع من يناير/ كانون الثاني إنه لن يستبعد استخدام القوة الاقتصادية أو العسكرية للسيطرة على الجزيرة القطبية الشمالية.
وفي مكالمة هاتفية مع رئيسة الوزراء الدانماركية (غرينلاند تتبع للدانمارك) ميت فريدريكسن تحولت إلى مواجهة نارية وكان ترامب عدوانيا وهدد بفرض رسوم جمركية على الدانمارك (الحليفة في حلف الناتو) ويتابع ترامب سياسته الإمبريالية بمد سيطرته على قناة بنما ورد عليه رئيس بنما خوسيه راؤول مولينو بالقول:» تصريحات للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في خطاب التنصيب تعهد فيها باستعادة قناة بنما إن القناة بنمية وستبقى كذلك».
وقام بتغيير اسم «خليج المكسيك» إلى «الخليج الأمريكي». كل هذه الأمور مجتمعة تنم عن الشخصية المزهوة بالنفس للرئيس الأمريكي العائد إلى السطلة للمرة الثانية وفي جعبته أحلام إمبراطورية كبيرة تضاف إلى الإمبريالية الأمريكية، هذا في الوقت الذي قامت أمريكا منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا بدعم هذه الأخيرة بكل الأسلحة والمال، وتهاجم روسيا كدولة احتلال تريد قضم أكبر قدر ممكن من الأراضي الأوكرانية بعد ضمها لجزيرة القرم، ودعمت إسرائيل بكل أنواع الأسلحة والذخائر للسيطرة على غزة الضفة الغربية.
وألغى ترامب كل العقوبات التي فرضتها إدارة بايدن على مؤسسات ومستوطنين إسرائيليين، وعلى منع بيع دولة الاحتلال القنابل بزنة 2000 رطل، بل ويؤيد خطة ترحيل فلسطينيي غزة إذ طلب من العاهل الأردني أن يستقبل جزءا منهم، ومن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن يستقبل جزء آخر وقال عن غزة:» إنه مكان مدمر حرفيا، تقريبا كل شيء مدمر، والناس يموتون هناك، لذلك أفضل المشاركة مع بعض الدول العربية، وبناء سكن في موقع مختلف حيث يمكنهم العيش في سلام من أجل التغيير « أي بعبارة أخرى «الترانسفير» لإهداء إسرائيل نصرا لم تستطع تحقيقه ضد إرادة الشعب الفلسطيني، والتهرب من حل الدولتين. هذه السياسية الإمبريالية العدوانية ليس من شأنها تحقيق السلام كما يزعم الرئيس «المصارع» بل ستؤجج التوترات التي ربما أدت إلى حروب ونزاعات لا تؤمن عواقبها، وتحرق النار موقد النار.
القدس العربي